أخبار رئيسيةأخبار عاجلةأخبار وتقارير

من غزو العراق للربيع العربي.. هل يسير العرب نحو خلاصهم الأخير؟

منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، كان التخلُّف التنموي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العالم العربي موضوع اهتمام دولي شبه دائم. في تقرير بارز صدر عام 2002، خلص برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) إلى أن البلدان العربية متأخرة في العديد من مؤشرات التنمية العالمية كالحرية السياسية، والتقدم العلمي، وحقوق المرأة. وقد ساهم هذا التحليل في فترة الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، في الدفع بـ “أجندة الحرية”، التي هدفت إلى إرساء الديمقراطية في الشرق الأوسط، باستخدام القوة إن لزم الأمر، والقضاء على التخلُّف التنموي والنزعة السلطوية التي كان بعض المسؤولين الأميركيين يعتقدون بأنها الأسباب الجذرية للإرهاب.

انتقد باراك أوباما، خليفة بوش، إحدى ركائز أجندة الحرية تلك، ألا وهو الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، لكنه شاركه التشخيص ذاته. في أول خطاب مهمّ له حول السياسة الخارجية، والذي ألقاه في القاهرة عام 2009، دعا أوباما حكومات الشرق الأوسط إلى إحراز تقدُّم في مجالات الديمقراطية، والحرية الدينية، والمساواة الجندرية، و”التنمية وخلق الفرص الاقتصادية”. وكانت ملاحظاته آنذاك تتضمَّن وجهة نظر سائدة في أوساط المراقبين الغربيين تجاه الشرق الأوسط، مفادها أن تخلُّف العالم العربي هو مُنتج عرضي لإجراءات اجتماعية وسياسية أجهضت الإمكانات البشرية، وعمّقت اللا مساواة، وانحازَت للنُّخب على حساب القطاع الأوسع من الشعب.

كان التقدم بطيئا خلال العقد الأول من القرن الحالي. لكن تحت السطح، كان الغضب يغلي حتى وصل ذروته في احتجاجات امتدت ما بين عامَيْ 2010-2011، والتي باتت تُعرف على نطاق واسع باسم “الربيع العربي”. حيث نزل المواطنون إلى الشوارع في شتى البلدان العربية، مثل مصر، وليبيا، وسوريا، وتونس، مطالبين بالكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية. وبدا لوهلة بأن التغيير قد حط الرحال أخيرا في الشرق الأوسط.

تعثّرت التنمية في أعقاب الربيع العربي؛ فمع أن بعض البلدان تمكَّنت من تأسيس أنظمة ديمقراطية، ومنها تونس، فإنَّ الهجوم المضاد الذي شنَّه الزعماء السلطويّون كان يحقق النجاح في معظم أرجاء المنطقة. في مصر، أدى الانقلاب العسكري في عام 2013 إلى الإطاحة بحكومة منتخبة، أما في ليبيا وسوريا، فقد رد الديكتاتوريّون على المتظاهرين السلميين بالعنف، مما أدخل البلدين في حروب أهلية سرعان ما تحولت إلى صراعات دولية بالوكالة. وحتى في البلدان التي أبت الانجرار إلى العنف، شدَّد الزعماء الاستبداديون الخناق على المعارضين وسخَّروا مواردهم لقمع شعوبهم وإحباط الانتقالات الديمقراطية في أرجاء الشرق الأوسط. وفي أثناء ذلك، كانت مؤشرات التنمية الإنسانية التي وضعها الخبراء الدوليون وصُنَّاع السياسة الأميركية كأولوية تواجه إما الركود وإما التراجع.

تبدو الأوضاع في الشرق الأوسط اليوم، وبعد قرابة عشر سنوات، أكثر سوءا مما كانت عليه في الربيع العربي. فقد تفاقم القمع السياسي، وتباطأ النمو الاقتصادي في ظل عدم تكافؤ الفرص، واستشرى الفساد، أما المساواة الجندرية فهي طموح أكثر منها حقيقة. لكنّ أمرا جوهريا تبدّل. فقد كانت الحكومات العربية تستند تقليديا إلى ما يسميه علماء السياسة “مقايضة سلطوية”، توفر الدولة بموجبها الوظائف، والأمن، والخدمات، لقاء الولاء السياسي. وتقوم هذه المقايضة على افتراض صمت الناس واستسلامهم. لكن هذا الافتراض خاطئ حاليا.

لم تَعُد الحكومة فزاعة للمواطنين؛ حيث يشارك الناس العاديون في الأحداث السياسية للتعبير عن معارضتهم هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى. وكما أظهرت حركات الاحتجاج الضخمة في أرجاء الجزائر والسودان مطلع هذا العام، فلم يَعُد القمع يُثني الناس عن النزول إلى الشوارع والمطالبة بمستقبل أفضل. قد لا يكون الربيع العربي وفّى بكل وعوده بالإصلاح الفوري المأمول، لكنه على المدى الطويل قد يكون أنجز أمرا أكثر أهمية، ألا وهو استنهاض الطاقات السياسية في العالم العربي وضخ الدماء في عملية إنعاش عربي طويلة.

قبل الربيع
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كان موقف واشنطن تجاه التطور العربي يتسم في جوهره بالبراغماتية والاستخفاف. صحيح أن الولايات المتحدة كانت تؤيّد النمو الاقتصادي للشرق الأوسط، لكنها كانت تعتقد أيضا بأن أفضل مَن يحكم المنطقة هم حلفاؤها المستبدون من أمثال أنور السادات في مصر ومحمد رضا بهلوي في إيران، أولئك الذين يمكنهم توفير الاستقرار السياسي وحماية المصالح الغربية.

وتغيَّر هذا الموقف بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. حيث ذهب صُنَّاع السياسة الأميركيون، بالاعتماد على أعمال الخبراء الدوليين، كخبراء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى أن التطرف النابع من الشرق الأوسط هو في جزء منه ناتج عرضي لسجل التنمية المفجع في العالم العربي: حكوماته القمعية، واللا مساواة العميقة، والاقتصادات الراكدة التي تديرها الدولة، والتي حرمت الكثير من المواطنين العرب من الفرص. لكنّ مهمة إرساء الديمقراطية وإطلاق طاقات مواطنيه كان بإشراف إدارة بوش التي اتخذتها ذريعة لإشعال الحروب في المنطقة.

بعد غزو أفغانستان في 2001، والعراق في 2003، اعتبرت الولايات المتحدة أن احتلالها اللاحق للبلدين سيكون بمنزلة ممارسة طويلة في بناء الديمقراطية، مما دفع بوش للإعلان عن أجندة أوسع للحرية من أجل الشرق الأوسط، عبر إنشاء برامج من قبيل “مبادرة منطقة التجارة الحرة في الشرق الأوسط”، بهدف تعزيز الأسواق الحرة وتنمية المجتمع المدني. لم تسر أجندة الحرية وفق المخطط له، فبعد الإطاحة بالديكتاتور العراقي صدام حسين في عام 2003، دخل العراق في دوامة عقد كامل من الصراع الأهلي الذي كان مزيجا بين التمرد ضد الولايات المتحدة وحرب إقليمية بالوكالة.

وقد أدّى ذلك إلى انحدار العديد من المؤشرات التي صنَّفها برنامج الإنماء الدولي كمصدر لمشكلات العراق. لكن صعوبات الشرق الأوسط كانت قد تعمَّقت بشكل فاق هذه الكارثة، حيث بدأت المقايضة السلطوية التي أبرمتها حكومات المنطقة تتداعى خلال العقد الأول من القرن الحالي، واتسمت المنطقة خلال هذه الفترة بثلاثة أنماط رئيسية: نمو بلا رفاه، حياة بلا كرامة، ولبرلة بلا حرية. في المجال الاقتصادي، وبتشجيع من خبراء في مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، بدأت العديد من الدول العربية بخصخصة الشركات المملوكة للدولة، ولبرلة السياسات التجارية، وإنهاء ضبط الأسعار بهدف دفع عجلة النمو وخفض ضغوط الميزانية على الدولة. وعلى سبيل المثال، فقد انخفضت نسبة الموظفين الحكوميين في مصر من 32% إلى 26% في عام 2006.

ومع أن هذه السياسات حقَّقت بعض النمو، فإنها لم تُسفر عن نوع من رخاء “الانسياب الاقتصادي” [1] الذي كان يَعِدُ به مصمّموها. وعوض ذلك، كانت عائدات كل تلك الإصلاحات تقريبا من نصيب المقرَّبين من السلطة. حيث حصلت 220 شركة تابعة لعائلة الرئيس زين العابدين بن علي، في تونس، على قرابة 21% من إجمالي صافي أرباح القطاع الخاص بين عامَيْ 2000 و2010، وهي حقيقة تكشَّفت فقط بعد مصادرة هذه الشركات في الثورة التي بدأت في أواخر عام 2010. كما بلغ التهرب الضريبي على الواردات لهذه الشركات ما قيمته 1.2 مليار دولار أميركي بين عامَيْ 2002-2009. وقد وُجد هذا النمط في مصر ولبنان أيضا، حيث تمكَّنت الشركات المُقرَّبة من الدولة من تأمين عقود مربحة في الإسكان ومشاريع البناء وتلقي تراخيص حكومية للاستثمار في قطاعات رئيسية، كالنفط والغاز والبنوك.

وكجزء من جهود لبرلة الاقتصاد، أنهت الدول العربية أيضا ضمانات العمل وقلَّصت الإشراف على الخدمات العامة، والتعليم، والرعاية الصحية. وقد أدّى ذلك إلى انحدار معايير العيش لدى مساحات واسعة من أبناء الطبقة المتوسطة، التي تألّفت بشكل رئيسي من العاملين في القطاعات العامة والأمنية، والتي كانت تاريخيا من أكبر المدافعين عن الوضع القائم. بحلول عام 2010، كان 40.3 مليون مواطن عربي على شفير فقر متعدد الأبعاد أو أنهم يواجهونه سلفا، كما أفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية الإنسانية (OPHI).

بين عامَيْ 2000 و2009، كانت أغلب معايير العيش قد انحدرت في أرجاء المنطقة كافة، وكان هذا بالترافق مع انحدار مستويات الصحة والتعليم، حيث كانت نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر القومي في مصر قد ارتفعت من 16.7% في عام 2000 إلى 22% في عام 2008. أما في اليمن، فقد ارتفعت نسبة الفقر من 34.8% في عام 2005 إلى 42.8% في عام 2009. كما أن سحب ضمانات العمل من القطاع العام وخفض نطاق وجودة الخدمات العامة أسفر عن عدد من التحديات التنموية المتداخلة. فمع أن الأميّة سجَّلت تراجعا مقابل ارتفاع في نسبة الالتحاق بالمدارس إجمالا، فإن التعليم لم يُترجَم إلى فرص عمل، حيث كانت نسبة الشباب العاطلين عن العمل بين عامَيْ 1998 و2008 قد ارتفعت بنسبة 25%، مع ارتفاع تركَّز في أوساط الأفضل تعليما.

بحلول عام 2010، كان واحد من بين كل أربعة أشخاص من جيل الشباب في المنطقة عاطلا عن العمل، وهي أعلى وتيرة حول العالم. بينما أجبرت ندرة الفرص ملايين الرجال والنساء على الاتجاه إلى الاقتصاد غير الرسمي، حيث يجني العاملون أجورا أقل، ويحظون برواتب غير مستقرة، وتعوزهم خدمات الحماية الاجتماعية الأساسية كالتأمين الصحي والمعاشات التقاعدية. في عام 2009، كان ما لا يقل عن 40% من العمال غير الزراعيين العاطلين عن العمل في كلٍّ من الجزائر ومصر والمغرب وتونس موظفين في الاقتصاد غير الرسمي. أما في سوريا، فقد بلغت النسبة 20%.

لكن لبرلة الاقتصاد في معظم بلدان الشرق الأوسط لم تُسفر عن المزيد من الحريات السياسية، حيث قوبلت حركات الاحتجاج المتواضعة في مصر وسوريا بالقمع من قِبل الحكومة، وتم إجهاض المبادرات المدنية، في حين شُجعت الأعمال الخيرية الإسلامية وغيرها من المنظمات الدينية، بالأخصّ في الإعانة الاجتماعية والطوارئ، وتخفيف الفقر، وبرامج التمويل الصغيرة. بالنسبة إلى قادة هذه الدول، فلم تكن لبرلة الاقتصاد ترمي إلى تعزيز الأسواق والعقول الحرة، لكنها كانت وسيلة لإبقاء التماسك والولاء داخل نخبة النظام الحاكم. مع تنامي الضغوط على الدولة، باتت الخصخصة إستراتيجية لنقل الأصول إلى أولئك الموجودين في السلطة سلفا. وكان هذا التدهور هو الذي أفضى في النهاية إلى الربيع العربي. في ديسمبر/كانون الأوّل من عام 2010، قام أحد الباعة المتجولين في تونس بإضرام النار في نفسه احتجاجا على إساءة معاملة السلطات المحلية. أجَّجت هذه اللحظة طوفانا من الاحتجاجات، وحتى شهور أعقبت هذه الحادثة، نزل الناس إلى الشوارع في كل أرجاء المنطقة مطالبين بالعدالة والمساواة، وإنهاء الأنظمة السياسية القمعية في بلدانهم.

ديجافو الجزء الثاني
لقد تفاقم سوء الظروف السياسية والاقتصادية التي أفضت إلى الربيع العربي في السنوات الأخيرة. فباستثناء تونس، حيث نجحت المعارضة في تأسيس نظام سياسي ديمقراطي ظل قائما حتى اليوم، شهدت العديد من بلدان الشرق الأوسط عودة للقبضة الاستبدادية التي كانت في عام 2011.

في مصر، عام 2013، أطاح الجيش بأول حكومة مُنتخَبة ديمقراطيا واستبدل بها ديكتاتورية الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي حكم مصر بقبضة من حديد منذ تسلّمه مقاليد السلطة، وقامت القوات الأمنية بإخفاء أكثر من 1500 مصري قسريا بين عامَيْ 2013 و2018، وفي يوليو/تموز من عام 2019، وافق برلمان البلاد على قانون يحد من تأثير المنظمات غير الحكومية عبر تضييق نطاق عملها والحد من حرية تنقلها. لكنّ أقسى شاهد على عودة الاستبداد كان في سوريا.

في عام 2011، شهدت سوريا احتجاجات واسعة ضد النظام الديكتاتوري للرئيس بشار الأسد. لكنه عوض التنحي عن الحكم والاستجابة لمطالب الشعب بالإصلاح، أمر قواته بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، مما أدخل البلاد في حرب أهلية دامية أزهقت أرواح نصف مليون إنسان وشردت الملايين من الآخرين. واليوم، يقوم نظام الأسد الذي كان آيلا للسقوط قبل بضع سنوات بتطهير آخر معاقل المعارضة ليعيد تأسيس سيطرته. وهناك آلاف المعتقلين السياسيين بين مختفٍ وأسير في زنازين النظام، كما تمنع الحكومة عودة نحو 6.5 مليون لاجئ و6.2 مشرد داخلي من العودة إلى منازلهم.

في هذه الأثناء، واجهت الأنظمة السعودية والإماراتية انتقادات داخلية بسبب الحرب المتعثِّرة في اليمن، حيث تعرَّض مدونون ونشطاء حقوق إنسان ومحامون للسجن على خلفية انتقادات للحكومة عبر الإنترنت. وفي أوضح مثال ربما، على هذه الملاحقة المتزايدة للمعارضين، قام عملاء سعوديون بقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2018.

أما في لبنان، وهو بلد يُعرف في الغالب على أنه منارة للحرية في المنطقة، بدأت الحكومة تُشدِّد الخناق على حرية الرأي والتعبير. حيث تعرَّض 38 شخصا للملاحقة على إثر منشورات عبر الإنترنت في عام 2018، وهو أربعة أضعاف الرقم المُسجَّل في عام 2017. وكان معظم هذه المنشورات ينتقد السياسيين والرئيس أو الوكالات الأمنية في البلاد.

ووفقا لإحصاءات “Freedom House”، فقد تراجعت حرية الصحافة في 18 بلدا من بلدان الشرق الأوسط الـ 21 بين عامَيْ 2012 و2017. هذا النكوص الإقليمي كان قد التقطه مؤشر الديمقراطية لوحدة الاستخبارات الاقتصادية والذي يُظهِر بأن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يزالان يُشكِّلان معا المنطقة ذات الأداء الأدنى عالميا في المعايير العالمية للديمقراطية كافة، كالحريّات المدنية، والعملية الانتخابية والتعددية، وعمل الحكومة، والثقافة السياسية، والمشاركة السياسية.

مع تآكل الحريات السياسية، تآكلت أيضا مكتسبات التنمية التي تراكمت على مدار العقود القليلة الفائتة، حيث وجد تقرير عالمي حول الفقر المتعدد الأبعاد، والصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية الإنسانية عام 2018، بأنَّ خُمس سكان الدول العربية تقريبا، أي 65 مليون إنسان، يعيشون في فقر مدقع، وهو تصنيف يضعه البنك العالمي لأولئك الذي يتقاضون أقل من 1.9 دولار أميركي يوميا. في حين يعيش ثلث سكان هذه الدول في حالة “فقر” أو “عوز”.

في الحقيقة أن المنطقة العربية كانت المنطقة الوحيدة التي اختبرت تفاقما حادا للفقر بين عامَيْ 2013 و2015، مع ارتفاع النسبة من 4% حتى 6.7%. حيث تُشير بيانات حديثة إلى ارتفاع نسبة الفقر في مصر من 28% في عام 2015 حتى 33% حاليا، ويرجع هذا في جزء كبير منه إلى التدابير التقشفية وتعويم الجنيه المصري في عام 2016.

في تلك السنة، كان أكثر من 15 مليون طفل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يذهبون إلى المدارس، وهو الرقم ذاته الذي سُجِّل في عام 2007. وعند النظر في انعدام مساواة توزيع الثروة والحقوق الجندرية، يبدو مشهد المنطقة أكثر قتامة. حيث يندرج إلى جانب الأراضي الفلسطينية 11 بلدا في الشرق الأوسط، هي الجزائر، ومصر، وإيران، والعراق، والأردن، ولبنان، والمغرب، وسوريا، وتونس، واليمن، ضمن فئة أسوأ أداء على مؤشر الأمم المتحدة للتنمية الجندرية، والذي يقيس درجة التباين بين الذكور والإناث في مؤشر التنمية الإنسانية (HDI)، وهو مقياس مُركَّب لإحصاءات التنمية.

وكان التراجع الأسوأ قد سُجِّل في بلدان مثل سوريا واليمن، حيث مرَّ البلدانِ بصراعات عنيفة على مدار العقد الفائت. وانحدرت سوريا بمقدار 27 مركزا بين عامَيْ 2012 و2017 في مؤشر التنمية الإنسانية، في حين انحدرت اليمن بمقدار 20 مركزا. بينما يعيش قرابة 85% من السوريين و80% من اليمنيين في الفقر حاليا. وبحلول عام 2018، كان 10.5 مليون سوري و20 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي.

ويأتي هذا الركود أو التراجع في مؤشرات تنموية رئيسية مصحوبا بمعدلات نمو مؤسفة. فبحسب وحدة الاستخبارات الاقتصادية، كان النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتراجع بمعدلات ثابتة بعد انخفاض أسعار النفط بين عامَيْ 2014 و2016. حيث سجلت المنطقة معدل 3.6% من النمو بين عامَيْ 2015-2016، لكن هذا الرقم تراجع حتى 1.6% في عام 2017 و1.3% في 2018. وقد فرض ركود النمو هذا قيودا على التمويل الحكومي، حيث يساوي دين لبنان العام حاليا أكثر من 153% من ناتجه المحلي الإجمالي، وهو ثالث أعلى معدل في العالم.

والأمر سيان حتى في البلدان الغنية بالموارد، مثل السعودية، حيث تخطط الدولة لاستصدار ما يزيد على 31 مليار دولار أميركي بالدَّين لإعادة تعبئة خزينة الدولة وتمويل العجز المتنامي في الميزانية. وفي بداية هذا العام، قامت “Moodys” بخفض التصنيف الائتماني لعُمان إلى حالة “بالغ السوء”، بالاستناد إلى أسعار النفط المنخفضة وعجز البلاد المتفاقم.

في مواجهة التحديات الاقتصادية الضخمة، تُشدِّد حكومات المنطقة على الحاجة إلى ريادة الأعمال في القطاع الخاص. وقد حوَّلت الإمارات العربية المتحدة نفسها إلى وجهة للشركات الناشئة، حيث باتت تتباهى بالعديد من قصص النجاح مثل تطبيق القيادة “كريم” (Careem)، ومنصة التجارة الإلكترونية “سوق” (Souq)، ومنصة الأسواق العقارية “بروبرتي فايندر” (Propertyfinder). وباتت مصر أيضا تُعتَبر مركزا إقليميا متناميا لهذه الشركات، حيث كانت البلاد وفق تقرير أصدره “MAGNiTT”، وهو مجتمع افتراضي للشركات الناشئة في الشرق الأوسط، في عام 2018، هي الأسرع نموا في المنطقة لناحية “عدد الصفقات”. بينما كشفت حكومات أخرى مثل البحرين ولبنان والسعودية عن عدد من المبادرات، ومنها رؤية 2030 في الرياض، لتعزيز استثمارات القطاع الخاص.

لكن هذا التوسُّع المتواضع في القطاع الخاص لم يكن كافيا لتأمين وظائف جيدة للمواطنين. فلا تزال معدلات البطالة في دول العالم العربي مرتفعة كما كانت في السابق، حيث بلغ معدل البطالة في عام 2018 نسبة 7.3%، وإن استثنينا دول النفط الغنية مثل البحرين، والكويت، وعُمان، وقطر، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة، ستصل النسبة حتى 10.8%. وهذا بالتزامن مع استمرار انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث بلغ الاستثمار الأجنبي في الدول العربية في عام 2018، ووفقا لصندوق النقد الدولي، ما نسبته 2.4% فقط من المجموع العالمي.

وحري بنا ألّا يُدهشنا، إذن، أن تتراجع ثقة المواطنين العرب بحكومات بلدانهم. فوفقا لمسوحات أجراها “الباروميتر العربي” لعيّنات تمثيلية من ستة بلدان عربية هي الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وتونس والأراضي الفلسطينية، فقد سجّلت ثقة المواطنين في الحكومة تراجعا على مدار العقد الفائت، حيث قال أكثر من 60% من المشاركين في مسح عام 2016 إنهم يثقون بالحكومة بـ “درجة محدودة” أو إنهم “لا يثقون بها على الإطلاق”، مقارنة بنسبة 47% فحسب عام 2011.

من جهة أخرى، قال 60% من المشاركين إنهم يثقون بالجيش إلى “حدٍّ كبير”، مقابل 49% في عام 2011. وقال معظم المشاركين في استطلاع “ZOGBY” في مصر، والعراق، وتونس، في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، إنهم أسوأ حالا مما كانوا عليه قبل خمس سنوات. وفي بداية هذا العام، وجد مسح أجرته “BBC” في عشرة بلدان عربية بأن أكثر من نصف المشاركين الذين تقع أعمارهم بين 18 و29 عاما يريدون الهجرة، بينما جُنّد آلاف آخرون في حروب المنطقة.

السلطة للشعب
في العديد من النواحي والمؤشرات التنموية إذن، يبدو الشرق الأوسط أسوأ حالا عما كان عليه قبل عقد مضى. لكن هنالك اختلاف رئيسي، فمع أن احتجاجات الربيع العربي لم تؤدِّ إلى الإصلاحات التي كان يأملها الجميع، فإنها تمكَّنت من رعاية ثقافة من النشاط السياسي والمعارضة في أوساط العرب ظلَّت قائمة حتى اليوم، ولا سيما في أوساط الشباب. لم يعد يمكن للحكومات أن تركن إلى استسلام مواطنيها بعد الآن.

في عام 2018 وحده، كانت هناك حركات احتجاج في العراق، والأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس، وفي بداية هذا العام أرغم المحتجون في الجزائر والمحتجون في السودان كلًّا من عبد العزيز بوتفليقة وعمر البشير على التنحي عن كرسي الرئاسة. في كلا البلدين، حرص المحتجون على الاحتجاج السلمي، حتى في وجه الردود العنيفة من الحكومة، وكان هذا بالترافق مع المطالبة بإصلاحات ديمقراطية حقيقية عوض شكل جديد فحسب من الحكم العسكري. وفي كلا البلدين، بدا أن المحتجين قد تعلَّموا الدرس من الانتقالات الديمقراطية المجهضة في مصر وسوريا.

حيث واصل المحتجون في السودان المطالبة بانتقال سياسي سلمي وحكومة خاضعة للمساءلة، حتى بعد مجزرة يونيو/حزيران التي خلّفت 100 قتيل وعشرات الجرحى. في 17 أغسطس/آب، توصل الجيش السوداني والمعارضة إلى اتفاق على فترة انتقالية تمتد حتى ثلاث سنوات، يتبادل خلالها الجيشُ والمدنيون أدوار السلطة.

أما في الجزائر، وبرغم استقالة بوتفليقة في أبريل/نيسان، واصل المواطنون مطالبتهم بالإطاحة بشخصيات مهمة من الحرس القديم. وكان مصير بعض المقربين من بوتفليقة إما الاستقالة وإما الاعتقال، وتم الإعلان عن موعد إجراء الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول القادم. يعتقد العديد من المحتجين الذين تساورهم الشكوك بشأن الانتخابات أنها ستكون وسيلة من الجيش لتنصيب رئيس خانع في سدة الحكم، لكنَّ الجيش كان قد رأى سلفا بأن الناس لن يقبلوا بنسخة معدلة من النظام السابق.

وظهرت هذه الثقافة الجديدة من التظاهر أيضا في سوريا، والتي شهدت موجة من الاحتجاجات المدنية في معاقل سابقة للثوار يحكمها نظام الأسد حاليا. وعلى سبيل المثال، فقد خرج المئات من السوريين في بداية هذا العام في مدينة درعا، وهي الحاضنة الأولى لاحتجاجات عام 2011، للاعتراض على تنصيب تمثال الديكتاتور حافظ الأسد، والد بشار الأسد. لربما انتصر النظام في الحرب الأهلية، لكن هذه المظاهرات تشير إلى أنه سيُعاني لكي يستعيد السلطة.

يشهد الشرق الأوسط اليوم هبوب رياح مثالية، فمع تآكل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ورهان الأنظمة على السياسات القمعية التي استدعت الربيع العربي، سيكون بوسع جيل جديد أن يفرض نفسه. وسيكون هذا الجيل الجديد من الشباب العربي معتادا على التعبير عن سخطه، لأنه رأى وعود ثورات 2010-2011 وخيباتها، وبات مُحصَّنا ضد ألاعيب قادته. علاوة على ذلك، فلم يعد هؤلاء القادة يمتلكون الوسائل الكافية لشراء صمت الناس بعد الآن. إن ما يبدو حاليا على أنه تراجع إقليمي منذ عام 2011، قد يُعتَبر في المستقبل المرحلة الأولى في عملية إنعاش عربي يستغرق مدة أطول. قد يكون الطريق إلى ذلك الإنعاش صعبا، مُعبَّدا بالآلام، لكن إن كان ثمة أمر واحد تعرفه الشعوب العربية، فهو أنه لا يمكن للأمور أن تظل على ما هي عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى