أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

إبداع القرآن في بناء الانسان

الشيخ كمال خطيب
حينما نرى لوحة جميلة رسمتها يد فنان مبدع فتشدنا ألوانها وخطوطها وفكرتها، فإنه الثناء والمديح ينهال على تلك الأنامل التي أبدعت. وإذا رأينا بيتًا كبيرًا أو قصرًا منيفًا فإن المنطق يوصلك إلى ذلك المهندس المبدع الذي اجتمعت أفكاره المبهرة مع قلمه المبدع ليخرج من ذلك رسمة وخارطة غاية في الجمال، وضعت بين يدي بناء ماهر صنع من حجارة صمّاء ذلك البيت الجميل. وإذا دخلت حديقة غنّاء تمتد على مساحات واسعة فبهرتك بروعتها وتناسق أزهارها وأشجارها وأنهارها، وكلمّا تجزم أن ليس بعد هذا الإبداع إبداع وإذا بك تدخل قسمًا آخر من أقسام هذه الحديقة لتجد نفسك أمام مشهد الجمال والجلال والذوق قد صنعت أمامك مشهدًا تكاد تقول لو كان فقط مثل هذا في الجنة لاستحقت أن نعمل من أجلها مع علمك أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
صحيح أن الله جلّ جلاله قد أبدع في خلق أجسادنا وخلقتنا ليخرج من ذلك الإبداع هذا الإنسان المتكامل في كل شيء والمتناسق في كل شيء {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} آية 3 سورة التين. {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} آية 7 سورة الانفطار. {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} آية 88 سورة النمل.
ولكنه كذلك الله جلّ جلاله الذي أنزل هذا القرآن وفيه من الآيات والتوجيهات التي أنزلها وهي كلام العليم الخبير بها أراد الله عز وجل بعد إبداع صنع خِلقَتنا، فإنه أبدع في صناعة وصياغة أخلاقنا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} آية 14 سورة الملك. ليكون هذا الإنسان المسلم الذي أراد الله تعالى أن يكون حامل رسالته إلى العالمين. فليس المسلم مميّزًا بخلقه، فهو مثل كل من خلق الله من الناس ولكنه مميز بخُلُقه إن هو تخلّق بخلق القرآن واقتدى بسيرة وسنة المصطفى العدنان محمد صلى الله عليه وسلم الذي كما قالت عائشة رضي الله عنها: “كان خلقه القرآن”.
إنه القرآن كلام رب العالمين الذي نزل به جبريل أمين السماء على محمد صلى الله عليه وسلم أمين الأرض، إنه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله.
إنه القرآن الذي إن عملت بآياته ولسان حالك يقول {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} آية 285 سورة البقرة، فإنه سيصيغ ويصنع منك ذلك الإنسان الذي ليس فوقه مرتبة إلا الملائكة، لا بل إن من العلماء من جعلوا الإنسان المؤمن الملتزم بشرائع الله تعالى وآياته أفضل من الملائكة مستنبطين ذلك من قول الله تعالى تعال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} آية 7 سورة البينة.
ومثلما أن البيت الجميل بشكله وألوانه والذوق الرفيع في هندسته والمرافق المريحة في داخله، وهو نتاج هندسة وضبط مهندس مبدع، فإن سلوك المسلم وأخلاقه ومعاملاته وعلاقاته مع الناس هي هندسة المبدع الخالق العظيم الله سبحانه وتعالى.
فلقد ضبط الله في قرآنه ألفاظك أيها المسلم لما قال {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} آية 83 سورة البقرة.
وضبط جدالك مع الناس لمّا قال {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} آية 125سورة النحل.
وضبط تصرفك وردود أفعالك إذا وقع عليك الأذى من أحد من الناس فقال {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} آية 40 سورة الشورى.
وضبط العلاقة مع والديك وكيفية التعامل معهما لمّا قال {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} آية 23 سورة الإسراء.
وضبط مشاعرك حينما تجزع وتحزن وينزل بك البلاء فقال {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} آية 45 سورة البقرة.
وضبط سلوكك وثقتك بنفسك حين تكون في دائرة المسؤولية فقال {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آية 159 سورة آل عمران.
وضبط أهواءك ونزواتك وغرائزك لمّا قال {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} آية 26 سورة ص.
وضبط تصرفك وأداءك في كل الأمور وفي جميع الظروف والأحوال فقال {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} آية 112 سورة هود.
وضبط نتائج وعاقبة سلوكك وأنك لن تحصد إلا ما زرعت فلا تلومنّ إلا نفسك {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} آية 7 سورة الإسراء.
وضبط صوتك ونبرتك لمّا قال {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} آية 19 سورة لقمان.
وضبط مشيتك لمّا قال {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} آية 37 سورة الإسراء.
وضبط هندامك ومظهرك وشكلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال”.
وضبط حتى رائحتك ولباسك فقد قال صلى الله عليه وسلم: “من عرض عليه ريحان فلا يرده فانه خفيف المحمل طيب الريح”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح”. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: “ما رأيت أحدًا أنظف ثوبًا وأشد تعهدًا لنفسه وشاربه وشعره وشعر بدنه من أحمد بن حنبل”.
وضبط عينيك وبصرك ونظرك فقال {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} آية 131 سورة طه.
وضبط سمعك وأذنيك لمّا قال {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} آية 12 سورة الحجرات.
وضبط طعامك لمّا قال {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} آية 31 سورة الأعراف. وقال صلى الله عليه وسلم: “فثلث لطعامك وثلث لشرابك وثلث لنفسك”.
وضبط وقتك بحيث لا يهدر ولا يضيع فقال سبحانه مبينًا قيمة الوقت لمّا أقسم بالعصر والضحى والفجر والليل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: إغتنم حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك”.
وضبط مالك ورزقك فلا يذهب هدرًا ولا ينفق إلا على متاع الدنيا أو من غير فائدة وأن يكتسب من حلال وينفق في حلال، فقد قال سبحانه {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}. بل إنه رسول الله صلى الله وسلم قد بيّن أن أفضل المال ينفق هو ما ينفق على عيالك “ودرهم تنفقه على عيالك”.
وضبط انفعالاتك وغضبك، فقد قال صلى الله وسلم: “لا تغضب لا تغضب لا تغضب”. وقال: “ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”.
وضبط نفسك ورغبتها في الانفلات أو في الغرور والاستعلاء على الناس، فقال سبحانه {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ} آية 32 سورة النجم. وقال رسول الله سلم: “وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد”. واحذر إن ءاتاك الله نعمة من ماله أو ولد أو منصب أن تقول {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} آية 78 سورة القصص. وإنما أضبط ذلك بإظهار الافتقار لله وحمده وشكره سبحانه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} آية 7 سورة إبراهيم.
فقد كان الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله يلقي درسًا، وأثناء الدرس فتح الله عليه بابًا بعبر وعظات ووقفات واستنباطات جميلة جدًا جعلت جمهور الحاضرين يتفاعلون معه، فأحس بالإعجاب في نفسه وبعد انتهاء الدرس ركب مع سائقه عائدًا إلى بيته، وفي الطريق مرّ من جانب مسجد فقال للسائق: قف! فقال السائق: يا شيخنا لم يحن وقت الصلاة بعد، وقد ظن السائق أن الشيخ يريد أن ينزل للصلاة.
نزل الشيخ الشعراوي إلى المسجد ودخل إلى الحمامات وأماكن الوضوء وبدأ ينظفها بيديه، ولمّا طالت غيبته نزل السائق يتفقده فلعلّ عارضّا أصابه فوجده على تلك الحالة وهو ينظف مراحيض وحمامات المسجد، فسأله السائق لم فعلت هذا يا شيخ؟ فقال أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها.
فإذا كان الله تعالى في قرآنه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته وأصحابه من بعده في سيرته العطرة ساهموا في هندسة وصياغة شخصية المسلم، فكيف لا يصبح هؤلاء نماذج فريدة وجيلًا ربانيًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
ولقد ظهر ذلك عندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام بتعيين عمر بن الخطاب على قاضيًا على المدينة. مكث عمر كما تروي الكتب سنة كاملة لم يفتح جلسة ولم يختصم فيها اثنان، فطلب من أبي بكر أن يعفيه من القضاء، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ فقال عمر: لا يا خليفه رسول الله ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين:
عرف كل منهم ماله من حق فلم يطلب أكثر منه
وما عليه من واجب فلم يقصّر في أدائه
أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه
إذا غاب أحدهم تفقدوه
وإذا مرض عادوه
وإذا افتقر أعانوه
وإذا احتاج ساعدوه
وإذا أصيب واسوه
دينهم النصيحة
وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففيم يختصمون ففيم يخصمون؟!!
نعم هكذا ستكون النتيجة فيمن ضبطوا أنفسهم وفق ضوابط كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم. صحيح أنهم لم يصبحوا ملائكة، ولكنهم كانوا خير من وطأت أقدامهم الثرى، يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: “ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أم على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت”.
وهكذا يجب أن نكون جميعًا على هدي الإسلام وميزان الإسلام وضوابط الإسلام ووفق قالب الإسلام نهتدي ونزن ونضبط ونقولب أنفسنا، لأن في هذا عز الدنيا وفلاح الآخرة بإذن الله تعالى.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى