أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الجماهير، إلٰه يُعبد أم مطية يُركب

الشيخ كمال خطيب
الجماهير، الشعب، الرأي العام، الشارع، هذه المصطلحات التي تتردد على الألسن كثيرًا وفي وسائل الإعلام. إنها المصطلحات البرّاقة والفضفاضة يحاول البعض أن يتكسب ويسترزق بها في جولات سيره نحو النجومية. ومع أنه لا مجال لقياس وتحديد حقيقة ودلالة وحجم الجماهير وجموع الشارع التي يقصدها هؤلاء المسترزقون ممن يحاولون اقناع غيرهم بصواب موقفهم وصحة آرائهم واجتهاداتهم، حيث الدليل كما يزعمون هو تأييد الجماهير واستجابة الرأي العام وتفاعل الشارع.
إن مصطلح الجماهير يمكن أن يتحول إلى إله يعبد، فرأي الجماهير يجب أن يطاع ولا يعصى، وأن ينفذ ولا يعترض عليه أحد، لأن الجماهير والرأي العام لا يمكن أن يكون على ضلالة حسب زعمهم. إنهم ينطلقون من فهمهم أن مقياس الحق والباطل هو بمقدار الجموع والجماهير التي تهتف لهذا أو ذاك، وهذه والله قسمة ضيزى، فالحق والباطل لا يقاسان بقلة الأنصار أو كثرتهم، فعلى مدار العصور والأزمان كان الباطل أكثر اتباعًا وله جماهيره الواسعة كما قال الله تعالى {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} آية 116 سورة الأنعام ، لا بل لو أن الكثرة كانت تعني الحق لكان حقنا في فلسطين وفي القدس باطلًا، والسبب أن المؤسسة الإسرائيلية نجحت في خداع كثير من رؤساء وحكام الدول وأن إعلامها المؤثر نجح في التأثير على الرأي العام في تلك الدول بحقهم المزعوم في فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، فهل يعني ذلك ضياع حقنا؟! وهل إذا أصبح الكثير من الناس في بلد ما يشربون الخمر والمخدرات أو أن المخدرات قد انتشرت في أوساطهم، فهل يعني ذلك أن الخمرة لم تعد حرامًا أو أن المخدرات أصبحت حلالًا لكثرة من يتعاطونها. وهل إذا تم الاستفتاء الشعبي في دولة على جواز الزنا إذا تم برضى الطرفين فإنه يصبح حلالًا، وهل إذا صوّت أكثر أعضاء مجلس تشريعي أو برلمان في دولة بجواز الشذوذ الجنسي وأسموه مثلية جنسية، فهل يعني ذلك أنها أصبحت حلالاً أو حالة طبيعية يمكن التعامل معها، لا لشيء إلا لأن أكثر ممثلي الشعب قد وافقوا عليها أو لأن جماهير الشعب قد قالت كلمتها في الاستفتاء؟!
إن هذا ليس له إلا معنى واحد وهو أن الجماهير قد أصبحت إلهٰا يعبد، والجماهير كما قال المرحوم الدكتور مصطفى السباعي: “لا عقل لها فيما يوافق شهواتها، فليس إسراعها إلى كل ما يخالف الشرائع والقوانين والأخلاق دليلًا على صحة اتجاهها”. وليس هذا فحسب، بل إنها الشعوب والحضارات في الماضي والحاضر، كانت تنهار وتندثر لمّا تتبع أهواء جماهيرها وعوامها في سيرهم نحو الانحلال والفوضى، حيث أصبحت وتصبح الفوضى الأخلاقية والإباحية وتحليل الحرام واتباع الهوى إلهٰا يعبد من دون الله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} و {وَإِذَا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً آمَرْنا مُترَفِيها فَفَسَقُوا فِيها}آية 23 سورة الجاثية.
إن تهافت الجماهير واندفاع الشعب وانبهار الرأي العام في أكثريته حول الباطل وبريقه إنما هو كتهافت الفراش على النار حيث في ذلك الهلاك والفناء، وليس أنه عنوان الصواب والحق بسبب كثرة الجموع المندفعة بلا ضابط ولا معيار.
وكما أن من يحاول تصوير أن ما التقت عليه جماهير الناس وأكثريتها، فإنه الصواب والحق بل والإلٰه الذي يجب أن يطاع، فإن هناك من يتعاملون مع الجماهير والجموع بشيء من الازدراء والتحقير، وأن هذه الجماهير والجموع الغوغائية التي تحركها غرائزها وعواطفها وليس عقولها ولا دينها أو ثوابتها، فهي بالنسبة لهم ليست إلا قطيعًا يساق أو حمارًا يُركب أو مطية تستغل للوصول من خلالها إلى تحقيق الأهداف والمصالح الخاصة. إن مما يؤسف له أن هذا التعامل من الزعماء والمتطلعين نحو النجومية مع شعوبهم لا يختلف أبدًا عن منطق فرعون {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} آية 54 سورة الزخرف. نعم إن منهم من ينظرون إلى الشارع كوسيلة توصلهم إلى الملك والجاه وعضوية الكنيست الصهيوني.

إن استغلال عواطف الناس واستغلال ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أجل الزج بهم في معارك المصالح الشخصية والوصول للنجومية السياسية إنما هو استغلال بشع يصل إلى حد الاستعباد. نعم إن الجموع والجهل والخوف كانت دائمًا وسائل التسلط على رأي الناس وسرقة إرادتهم وآرائهم. إنه لا فارق إذًا بين من يتعامل مع الجماهير والشعب والرأي العام، على أنها صاحبة كلمة الفصل وأن كثرة الجماهير تعني الصواب والحق، بل إنها تصبح الإلٰه الذي يعبد ويطاع، فلا يخالف في شيء، وبين من لا يرى في الجماهير والشعب إلا الوسيلة التي بها تتحقق الغاية والمصلحة والمطية التي توصِل للهدف. وفي كلا الحالتين فمن يقرر متى تكون الجماهير إلٰهًا يُعبد ومتى تكون مطية تُركب بل وتعلف وهم أولئك الذين يملكون القدرة على التلون والتشكل والحديث بكل لسان من أجل الوصول إلى أهدافهم وفي كلا الحالتين، إن تعاملوا مع الجماهير والشعب على أنها إلٰه أو تعاملوا معها على أنها مطية، فإنها هي الخاسرة الوحيدة في معركة الكراسي والنفوذ وتحقيق المصالح وملء الجيوب والوصول إلى النجومية.

# صنّاع الحياة

القادة الحقيقيون وصنّاع الحياة ومن يتركون بصماتهم في حياة مجتمعاتهم وتاريخ أممهم، هؤلاء لا يبنون مواقفهم حسب توجهات عوام الناس استرضاء لهم، فيتلونون بألوانهم ويتشكلون حسب رغباتهم، ويقولون ما يعجبهم، وإنما القادة وصنّاع الحياة هم من أخذوا بالنافع والخيّر حتى لو كان من عوام الناس بل لو كان من أعدائهم “الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحقّ بها” . القادة الحقيقيون وصنّاع الحياة يقفون الموقف ويقولون الكلام الذي يرضى ربهم وترتاح له ضمائرهم حتى لو كان حولهم من الأنصار قلّة، إنهم الذين يضربون بعرض الحائط كل شرّ وفساد ويواجهون الباطل حتى لو نادى به وهتف له جموع الناس وأكثرهم {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}آية 116 سورة الأنعام. هواية هؤلاء القادة هي السباحة بعكس تيار الباطل وإعلان الحرب السافرة على المثبطين واليائسين والمهازيل والإمّعات الذين يدورون مع الموج حيث دار ويسيرون مع الريح حيث سارت.
صناع الحياة لا يستخدمون العبارات الرنّانة ولا الجمل المعسولة ولا الشعارات المخادعة، وإنما مواقفهم واضحة وكلماتهم صريحة وغير متلعثمة، وسياساتهم غير مواربة. القادة الحقيقيون وصنّاع الحياة لا يستوحشون بقلة السالكين معهم، ولا يغترّون أو يكترثون من كثرة الزبد وجموع اللاهثين خلف كل ناعق، ولا يخدعهم كل بريق زائف {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} آية 17 سورة الرعد.
القادة الحقيقيون وصنّاع الحياة لا يتهيّبون القول الذي يعتقدون صوابه ولا العمل الذي يطمئنون لضرورته خوفّا من الناقدين أبدًا، ولكنهم يعملون ما يعتقدون صحته وتترجح فائدته وترتاح له ضمائرهم ويرضون به ربهم ويكسبون به ثناء المخلصين الصادقين، فإن غضب عليهم بعد ذلك من غضب في حياتهم، فسيرضى عنهم من يرضى بعد موتهم، والأهم من ذلك أنهم لا يسعون إلا لرضى ربهم سبحانه.

# من يدعون لمقاطعة الانتخابات هم عملاء!
هذا ليس عنوانًا للتشويق والإثارة، وإنما هو مضمون وصريح ما كتبه أحد الداعين والمتحمسين جدًا للمشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني. إنه المحامي السيد جواد بولس.
لطالما تظلّم دعاة ونشطاء الأحزاب وقادتها من الاقتراب من مصطلحات التخوين والتكفير في خطاب الداعين للمقاطعة، وهي في الحقيقة إذا كانت، فإنها ليست إلا من أفراد عاديين ولا يمكن القبول بها ولا الموافقة عليها. حتى جاء السيد جواد بولس في مقالته يوم الجمعة الأخيرة 6.9.2019 في صحيفة حديث الناس بعنوان “انتخابات الكنيست، خطاب العقل”، فليس أنه اقترب من التخوين ولا أنه أشار إليه تعريضًا، بل مارسه وكتبه بصريح العبارة متهمًا من يدعون للمقاطعة “بالعمالة” حيث قال في جوابه عن مقولة (ماذا فعل لنا أعضاء الكنيست العرب؟)، قال: “عملت أجهزة الدولة الموكلة على نشر هذه الفرية بذكاء لافت، ونجحت بترسيخها في جيوب سكانية عديدة، فتبنتها قطاعات واسعة حتى ضاعت طاسة الحقيقة بين داع للمقاطعة عن عمالة وعن أغراض، وبين مُضلّل أو مؤمن بها عن جهالة أو عن يأس أو عن مجاكرة أو عن احتجاج… “.
وهنا أقول إنّ العملاء لا يقاطعون الانتخابات يا سيد جواد، بل إنهم من أشد المتحمسين للأحزاب الصهيونية التي ينتمون اليها.
ماذا يفيد يا سيد جواد أن تقول في نهاية مقالتك: “أدعو إذن الناس للتصويت، وأحترم في نفس الوقت حق من ينادي بالمقاطعة لأسباب دينية أو عقائدية”، بعد وصفك لهم بالعملاء والمضللين والجهلة اليائسين والمجاكرين؟!
إن السيد جواد بولس مثل “اللي نط عالجحش أجا منه وغاد” أو “جاء ليكحلها فعماها” وهو يحاول إقناع المقاطعين بقوله “أن يعدلوا عن قرارهم بمقاطعة الانتخابات”.
إن استخدام هذه المصطلحات ليؤكد المؤكد بفشل مشروع المشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني وطنيًا واًخلاقيًا.
ليس من حقك يا جواد ولست أنت من يوزع شهادات الوطنية على الناس، حيث معيارها المشاركة في الانتخابات، وإلا فإنها العمالة. ومن كان بيته من زجاج فلا يرم الناس بالحجارة!
لا يكتفي السيد بولس بتلك الأوصاف والشهادات يوزعها على أبناء شعبه، بل إنه يعِد بالكتابة لاحقًا في الرد على من يدّعي -حسب قوله- أن كل اليهود صهاينة، وبأن الصهاينة سواسية، حيث يقول: “فهل حقًا علينا أن نتعامل مع سموطريتش وأشكاله مثل تعاملنا مع نيستان هورفتش رئيس حزب ميرتس ورفاقه؟”
بكل بساطة ووضوح، فإن بولس يتفق تمامًا مع السيد منصور عباس الذي قال بوجود “صهيوني لايت” ووجود “حاخامات مستوطنين طيبين”، بل إنه بولس يمجد نيتسان هورفيتش ورفاقه وينسى أن يذكّرنا أن أحد رفاقه هو ليس إلا إيهود باراك، المرشح العاشر في قائمة “المعسكر الديموقراطي” وهو قاتل أبنائنا في هبة القدس والأقصى.
لا بل وينسى أو يتناسى السيد بولس أن يخبرنا بأن السيد نيتسان رئيس حزب ميرتس هو شاذ جنسيًا ومتزوج من رجل مثله، أم أن هذه التفاصيل ليست ذات أهمية وهي حق شخصي عند السيد بولس وعند الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي ينتمي اليه؟!
يا سيد جواد، هذا ليس خطاب العقل كما عنونته، وإنما هو خطاب التخوين والاتهام بالعمالة، بل وخطاب تلميع باراك والقبول بالشاذين جنسيًا وإن كان بشكل غير مباشر.
ألا ترى يا سيد جواد أن نهجكم هذا وقناعتكم بجدوى المشاركة في انتخابات الكنيست الصهيوني هو اجترار لنهج سبعين سنة لم تثبت جدواها؟
فإذا كان من حقك استمرار العزف على نفس الوتر، فإنه ليس من حقك استخدام ألحان النشاز بأنغام التخوين، وبالمقابل فإنه من حق الاخرين أن يقفوا في موقف مخالف لموقفك، بدون أن يكونوا عملاء ولا مضللين أو جهلة ابداّ. رحم الله امرءًا عرف حدّه فوقف عنده.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالبً على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى