مَعالم سياسية في الهجرة النبوية
مارية ماجد محاجنة
سأتناول موضوع الهجرة النبوية بمفهوم مختلف عن المعاني الراقية والسامية المتداولة غالبا في هذه الذكرى، مثل التضحية بكافة أنواعها؛ والصبر على الابتلاء والمحن… وغيرها من الدروس والعبر المستوحاة من هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم…
سأتناولها من زاوية سياسية؛ عمل نبينا صلى الله عليه وسلم فيها على بناء دولة راسخة شامخة، ضمن حدود جغرافية محددة ومعلومة وهي “المدينة المنورة” بعد الهجرة، ضمن ضوابط سياسية أخلاقية تُراعَى فيها مشاركة الشعب وإضفاء الشرعية لوجوده ومشورته؛ وليعلمنا كيف تبنى الدول والحضارات والثقافات إلى قيام الساعة!!
_ فقد سبق الهجرة من مكة إلى المدينة أعوامٌ من الإعداد المتواصل والدؤوب؛ والتكوين الإيماني العقدي؛ والأخلاقي التربوي؛ والتعبدي (إلى حد ما…إذ من المعلوم أن معظم الشعائر كالصوم والزكاة والحج فرضت في المدينة) لخير القرون والأجيال؛ وخير البشر بعد الأنبياء عليهم السلام؛ هم الثلة المؤمنة من الصحب الكرام مهاجرين وأنصارا..
والنبي الكريم يواصل تربيتهم وإعدادهم وتكوينهم ليجهز نواة وقاعدة صلبة من أفراد يخلصون لمنهجهم وعقيدتهم ويفدونها بأرواحهم ودمائهم؛ حتى إذا حان أمر الهجرة يهجرون بيوتهم وعائلاتهم وبلدتهم ووطنهم دون تردد أو تلكؤ أو تباطؤ، يبتغون العزة والتمكين لدينهم، والمجدَ لدستورهم القرآن!!!
ويقابلهم أهل المدينة بأسمى آيات النبل والإيثار وأرفع درجات الأخوّة والانتماء للعقيدة والمبادئ والتعاليم الرفيعة السامية التي ضربوها في بيعتهم لله ورسوله والمؤمنين عند العقبة؛ بيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره!!!
والإنفاق في العسر واليسر!!!
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!!
وأن يقولوا في الله لا يخافون فيه لومة لائم!!!
وعلى النصرة والمنع مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم!!!
يبايعون وقلوبهم تخفق طربا استجابة لنداء الله؛ وأمر الله؛ وقدر الله؛ ليسجل التاريخ مقولة نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام: لولا الهجرة لكنت إمرئ من الأنصار!!!
فإذاً المعلم الأول كان بناء الإنسان عقيدة وأخلاقا؛ وهو ما يسمى “ببناء البشر” الذي سبق بناء الحجر (المسجد) …فكان التأهيل للأفراد ثم للجماعة فالمجتمع، مما حدا بسيد قطب أن يسميه “جيل قرآني فريد” يحمل اللواء ويبتغي العزة دينا والتمكين نصرة ورفعة دينه!
المَعلم 2:
“الدستور والسلطة التشريعية”،
_بعد بيعة العقبة الكبرى التي سطرت أروع الأمثلة في القيم السياسية المكفولة للمواطنين في دولة النبي الكريم، ابتداء من:
_حقهم في فهم مبادئ الدولة الجديدة وتشريعاتها ودستورها ومواثيقها… ووضوح الرؤى والمبادئ إبتداء؛وبالتشاور قيادة وأتباع!!!
_ الحوار البناء والتشاور بين القاعدة (الأنصار) والقيادة (النبي صلى الله عليه وسلم) وما تلاها من البيعة والولاء للبنود المطروحة في البيعة!!
_اختيار النقباء من قبل الأفراد (قومهم) وليس من النبي صلى الله عليه وسلم، وترك الحرية الكاملة لهم لاختيار ممثليهم!!
_ التمثيل النسبي في الاختيار، بحيث أن نسبة الخزرج كانت ثلاثة أضعاف الأوس بل أكثر؛ فكان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج!!!
_ توكيل النقباء الاثنا عشر في الإشراف على سير أمور الدعوة في بلدتهم، والتواصل الفعال مع قومهم وعشيرتهم في فهم رسالة الإسلام الخالد واعتناقها، مذلِّلين الطريق أمام وجودهم السياسي والاجتماعي الذي قرروا فيه أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى!!!
_التمثيل النسائي وفي مقدمتهن نسيبة بنت كعب أم عمارة؛ بل إنها بايعت بيعة الحرب ليكتب الله لها فيما بعد أن تشارك بالحروب والمعارك تنتصر لدينها ونبيها الكريم… وهي من شاركت في قتل مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة في حروب الردة فكان تمثيلا فعالا مؤثرا !!!
_ احترام المواثيق والعهود بين الأنصار وجيرانهم اليهود..
_ بعد وصول النبي العظيم للمدينة كان من أول ما أمر به كتابة إحصاء لعدد الأشخاص في المدينة وتدوين أسمائهم في سجلات!!
_ الحرص على تفعيل إعلام حضاري يحمل رسالة الدولة والمتمثلة بالشاعر حسان بن ثابت، الذي أمضى حياته منافحا عن دولة الإسلام وعز المسلمين داحضا للشبهات والإشاعات!!
_ تأهب وتجهز بيوتات حاضنة للفكرة والرسالة؛ ابتداء من جعل بيوتهم حاضنة للدعوة الإسلامية، وانتهاء بتقاسمها مع إخوانهم المهاجرين مسكنا ومبيتا، بل طعاما وشرابا ومالا!!! في أصدق مثال في التاريخ الإنساني والحضاري تحت مسمى التكافل الاجتماعي!!!
_ ذوبان العصبية القبلية التي أثخنت الأنصار جراحا عبر مر السنين، ولم يلتئم الجرح النازف إلا بمرهم العقيدة والأخوة وتعاليم الدين الجديد !!!
_ تميزت حرية الدعوة ونشر التعاليم في دولة المدينة خلافا لمكة
(حيث اضطهاد الفكرة ومحاولة طمس معالمها وملاحقتها)؛ ورسم معنى جديد لمعالم الوطن والدولة، حيث أن الوطن يكون حيث تكون الراية خفاقة عالية شامخة باسقة؛ وإنْ مُنع الآذان والقرآن في مكة فلا نألو جهدا عن إقامته في المدينة…
_ سرية التنظيم والتجهيز الذي سبق إعلان الهجرة؛ وإعلان قيام الدولة، بل وسرية هجرة النبي وصاحبه، وتوخيه الحذر في كل الخطوات والاختيارات؛ كالمكان والزمان، والاستعانة بعبد الله وأسماء ابني أبي بكر الصديق يدلل على أهمية التخطيط والتنفيذ الدقيقين في العمل التنظيمي السياسي…
_جواز اتخاذ المعاريض في تمويه العدو والخصم السياسي، وجعله لا يتوقع الخطط والأمور التنظيمية أو ما يسمى بلغة العصر: “الخطاب الدبلوماسي”؛ وأن لا نكشف أوراقنا بدواعي النزاهة والمصداقية!!!
_ الإستعانة بأهل الاختصاص، وإن كانوا كفارا، شريطة أن يؤمَن جانبُهم، فلا يقدح بنزاهة القيادي أو السياسي.
معالم سياسية في الهجرة النبوية
المَعلم الثالث: الحدود الجغرافية لأرض الوطن!!!
_الموقع الإستراتيجي للمدينة المنورة رشحها لأن تكون عاصمة الإسلام الآولى، بحيث لا يتمكن العدو منها، كونها إمتازت بتحصن عسكري حربي لا يتمكن منها جيش منظم، لأنها محاطة بأشجار النخيل والزروع الكثيفة!!
_المدينة المنورة وطن الفكرة والعقيدة بحيث إلتحم مجتمع المهاجرين بمجتمع الأنصار رغم إختلاف طباعهم وعاداتهم وتقاليدهم، وانصهرت في بوتقة العقيدة الواحدة التي جمعتهم ووحدت شملهم!!!
ختاما نجد أن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم كان أول من أسس لقيام دولة على أسس متينة حضارية ترتقي لمستوى الريادة والعالمية على مر الأجيال؛ والهجرة فرصة ثمينة لدراسة خطواتها وتطبيقها في الواقع المعاصر لبناء دولة تمنح الحريات وتحفظ حدود بلادها..
عامة ما كتب مستفاد من كتابات د.الصلابي ود.منير الغضبان.