أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

ما زال طعم الحلوى في فمي

الشيخ كمال خطيب
إنها ليست حلوى عيد الأضحى، وقد أكلنا منها نحن وأولادنا وأحفادنا من كافة الأشكال والألوان، إذ لعلي أجزم أن ما بقي في بيوتنا أكثر مما استهلكناه، ومثل ذلك أنواع الفاكهة والطعام، وأما عن الملابس فحدث ولا حرج. إنها نعم الله علينا التي لا تعد، وآلاؤه سبحانه التي لا تحصى.
ويحنا إذا اقتصرت رسالة العيد على هذه المظاهر دون أن تكون قد تركت فينا ذلك الفهم بأن للعيد معاني اجتماعية وتربوية بها نرتقي بمجتمعاتنا، وبها نقوي نسيجنا عبر الالتفات إلى الأرحام والجيران والأيتام والفقراء من أبناء شعبنا. وما أجمل ما قاله المرحوم الشيخ مصطفى السباعي:” إن عيدًا في الأرض يضحك فيه أناس ويبكي آخرون، هو مأتم عند أهل السماء”. ولا تتم الفرصة الحقيقية عند المسلم الصادق إلا عندما يُفرح أولاد الجيران كما يفرح أولاده.
إن آثار فعل الخير وصنائع المعروف لا تمحى ولا تنسى أبدًا، مع أن الواجب يحتم على أحدنا أن يبادر لفعل الخير دون أن ينتظر آثار ذلك الفعل وعودتها بالنفع عليه أو لا.
إنه رجلٌ كبير السن، وكان يرقد في المستشفى، وكان يزوره هناك شابٌ لا يتخلف عن زيارته ولو ليوم واحد، يجالسه ويسامره ويساعده في تناول طعامه، ثم يأخذ بيده ليمشي معه في ردهات المستشفى، ثم يطمئن عليه في سريره ويودعه ويذهب. ولقد لفت حضور هذا الشاب المستمر بلا انقطاع انتباه الطاقم الطبي حتى أن إحدى الممرضات قد قالت له يومًا وهي تناوله الدواء:” ما شاء الله يا حج، الله يخليلك ابنك فهو يزورك يوميًا، قلما نجد أولادًا مثله في هذا الزمن“. نظر الرجل المريض إلى الممرضة وتنهد قائلا لها:” ليته كان ابني فأنا ليس لي أبناء، لكن هذا الشاب يسكن في حيّنا منذ مات أبوه، حين رأيته عند باب المسجد باكيًا فأخذته واشتريت له حلوى وانصرف ولم أره منذ ذلك اليوم، ولم أره منذ سنوات، ولا أعرف كيف علم بمرضي فجاء يزورني وها هو يتردد في كل يوم كما ترين، وقد قلت له يا ولدي لا حاجة لأن تتكبد هذا العناء كل يوم، فابتسم وقال لي:” يا عمّ ما يزال طعم الحلوى في فمي”.
إنه عمل الخير وفعل المعروف، والصدقة والإحسان تفعله ثم تنسى، لكنك لا تعلم كم هي الدعوات تقرع أبواب السماوات تدعو لك، قد يكون فقيرًا أغنيته، أو حزينًا أسعدته، أو مظلومًا انتصرت له، أو مكروبًا فرجت عليه، أو صاحب حاجة مشيت له في حاجته وقضيتها له. لا تستهن بمعروفٌ تفعله، ولعل الشيطان وحظوظ النفس في بعض الحالات تقول وتوسوس لك أن هذا لا يستحق، وقد قيل:” إصنع المعروف مع أهله وفي غير أهله، فإن أصبت أهله كان أهله، وإن لم يكن هو أهله فأنت أهله”. فما دامت نيتك لله، وعملك خالصًا لوجهه الكريم فهذا يعني أن جزاء هذا العمل لن يضيع، وإنما ستلقى جزاءه من أكرم الأكرمين سبحانه، فالمهم إخلاص النية لله، ليس رياءً ولا سمعة، رحم الله الشاعر لما قال:

إزرع جميلًا ولو في غير موضعه ** فلا يضيع جميلٌ أينما زُرعا
إن الجميل وإن طال الزمان به ** فليس يحصده إلا الذي زَرعا
لقد اعتاد الناس ترديد عبارة:” إعمل خير وارم بالبحر“بمعنى أن لا تنتظر الجزاء من أحد، وأنا أقول بأن تكون على يقين بأن المعروف لا يضيع، سواء ألقي في البحر أو في بطن الحوت، أو عملته في عتمات الليالي. إنك إن بذرت بذورك يومًا في أطراف الأرض ونسيت أين بذرتها فلا تقلق وانتظر قليلًا لأن المطر سيخبرك أين زرعته، فابذر الخير فوق كل أرض وتحت كل سماء، واصنع المعروف مع أهله وفي غير أهله فإنك لا تعلم أين ومتى ستجده، فإن آثار معروفك ستصلك يومًا، وإن خُيّل لك بأنه ضاع أو كان في غير أهله.
وفاء الكلاب وغدر الرجال
فإذا كان ذاك الشاب اليتيم لم ينس للشيخ فضله، وإن كانت هي حبة حلوى ظلّ يجد طعمها في فمه بعد سنين، فإن من الناس من تقوم على خدمتهم وإسداء المعروف إليهم لسنين، فإذا بهم ينسون معروفك في لحظات.
يحكى أن ملكًا ظالمًا قد أمر بتربية عشرة كلاب وحشية بها يعاقب كل وزير يخالف أمره، وذات يوم أبدى أحد الوزراء رأيه في قضية خالف بها رأي الملك، فأمر برميه للكلاب المتوحشة، فقال له الوزير: خدمتك عشر سنوات ثم تفعل بي هكذا. طلب الوزير من الملك عشرة أيامًا قبل تنفيذ الحكم فيه، تواصل خلالها مع الشخص المكلف بالعناية بالكلاب، وراح الوزير يطعمها ويسقيها ويعتني بها، وبعد انقضاء الأيام العشرة جاؤوا بالوزير ليُزجّ بها في مربض الكلاب الجائعة، وجلس الملك مع حاشيته لينظر إلى الكلاب تفترس وزيره لكنه رآى عجبًا، حين قامت الكلاب تجلس عند قدمي الوزير تتودد له، فراح الملك ينظر إلى من حوله يسألهم عما رأوه من الكلاب، عندها قال له الوزير: ”خدمت الكلاب عشرة أيام فقط فلم تنس لي هذا الفضل، وخدمتك عشرة سنوات فنسيتها في لحظة” ففهم الملك مراد الوزير وعفا عنه.
إن الوفاء لمن أحسن إليك من خلق الإسلام وتعاليمه، وإن المسلم الصادق هو الذي لا ينكر العشرة ولا ينس الفضل والوفاء لأهله. ولقد ورد في القران الكريم عشرون آية تتحدث عن الوفاء بالعهد وأنها من صفات المسلم ومن سمات المؤمن
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} آية ٤٠ سورة البقرة. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} آية 177 سورة البقرة.
وإن أقوى العهود، ومما يتوجب الوفاء بها هو عهد الإنسان مع ربه، لأن الذي ليس بينه وبين الله عهد، فلا عهد بينه وبين الناس، ولن يكون وفيًا في عهده معك، من كان خائنًا في عهده مع الله. ولقد قيل أن تملك أموالًا كثيرة فأنت غني، لكن أن يكون لك أصدقاء أوفياء فأنت الغنى بذاته. إن صداقة الوفي هي التي تدوم، وأما صداقة المصالح فإنها مثل الطيور المهاجرة مهما أقامت فإنها سترحل. وإذا كان من الناس من يتباهى بأن لديه أصدقاءه مثل عدد شعر رأسه سيفاجئ المسكين عند الشدائد أنه أصلع أي ليس له أي صديق، وهذا ما قاله الشاعر:
فما أكثر الإخوان حين تعدهم ** ولكنهم في النائبات قليلُ
ويحكى أن رجلًا كان عنده صديقٌ فقير، وكان يتصدق عليه من فضل الله، ودارت الأيام وانقلب الحال، أصبح الغني فقيرًا والفقير غنيًا، لكن الفقير الذي أغناه الله من فضله لم يكن وفيًا لصديقه الذي وقف إلى جانبه يومًا، وقد كان إذا رآى صديقه في الطريق أشاح بوجهه أو غيّر طريقه خشية أن يطلب مساعدته، فاستوقفه الصديق الذي كان غنيا وافتقر وقال له:
تراني مقبلًا وتصد عني كأن الله لم يخلق سواك ** سيغنيني الذي أغناك عني فلا فقري يدوم ولا غناك
ولقد قيل إن أحقر الناس من يدير لك ظهره عندما تكون في أمسّ الحاجة إليه. ومثل وفاء الإنسان للإنسان، فإنه وفاء المسلم لدينه ودعوته فهل يليق بالواحد منا أن يعتز ويفتخر بدينه ودعوته التي ربته وأنجبته وعلمته وجعلت له مكانة حتى إذا دارت الأيام ووقع على دعوته البلاء والظلم أدار لها الظهر كأنه لم يكن يومًا ابنها، ولا هي كانت أمه التي أرضعته من حليبها.
لا تُسلّي نفسك على حساب مشاعر غيرك
هي لحظة واحدة فارقة بين أن تعطي وأن تأخذ، وبين أن تنتقم وتسامح وبين أن تجعل غيرك يبكي، أو أن تجعله يضحك. إنها اللحظة التي يقدح في ذهنك معاني الخوف من الله سبحانه ومراقبته وفيها تتذكر أخلاق نبيه صلى الله عليه وسلم، وكيف يجب أن يراك عليه، وفيها تتذكر ماذا لو كنت مكان الآخر كيف ستتصرف؟ فيروى أن شيخًا وأحد تلاميذه كانا يسيران بين الحقول، والشيخ يذاكر لتلميذه ما علّمه إياه، وبينما هما كذلك إذ يريان حذاء قديمًا، فقال الشيخ لتلميذه لعلّ صاحب هذا الحذاء يعمل في الحقل، خلعه ليسهل عليه العمل في الأرض فإذا انتهى سيعود إلى حذائه ويرجع إلى بيته. التفت التلميذ إلى شيخه وابتسامة خجولة على شفتيه وقال: ما رأيك لو نمازح صاحب الحذاء فنخبئ له حذاءه ونختبئ لنرى ردة فعله كيف سيتصرف عندما لن يجد حذاءه. قال له الشيخ: يا بني كيف نُسليّ أنفسنا على حساب مشاعر الفقراء والمساكين؟ ما رأيك أن تجلب لنفسك سعادة بأن تضع قطعة من المال داخل حذاء الرجل، ثم تختبئ وتراقب آثار ذلك عليه عندما يرى المال في حذائه؟ أعجب التلميذ باقتراح الشيخ وقام بوضع المال في الحذاء، ووقفا يراقبان، ولم يمضِ وقت طويل حتى خرج الفلاح من وسط الحقول، وقد ظهر عليه التعب والإعياء حتى وضع رجله في حذائه، ولمس شيئا غريبا ونظر فإذا هي قطعة نقدية، وكذلك فعل بشق حذائه الآخر فوجد قطعة أخرى. نظر الفلاح إلى النقود بين يديه ولم يصدق ما تراه عيناه من أين وكيف جاءت، والتفت يمنة ويسرة ولم ير أحدًا، فرفع يديه إلى السماء قائلا: “شكرًا لك يا الله على رزق سقته إليّ، أنت تعلم يا الله أن زوجتي مريضة وأولادي جياع لا يجدون الخبز، وسأشتري لهم بهذا المال طعاما “ومشى وهو يدعو لمن أحسن إليه في هذا المال، عندها همس الشيخ في أذن تلميذه قائلًا: ألست الآن أكثر سعادة؟ قال التلميذ: إنه درس لن أنساه.
ما أجمل أن يعوّد أحدنا نفسه على العطاء لا على الأخذ، لأن متعة العطاء تفوق متعة الأخذ، وإن الثمرة إذا نضجت فإنها تعطي حلاوتها للآخرين، وإلا فإن أمسكت حلاوتها في داخلها فإنها ستتعفن وتفسد ويأتيها النمل والذباب. ألا ينصح الأطباء بأن يقوم الإنسان المعافى بالتبرع بالدم كل بضعة أشهر ليس فقط لأن فيه مساعدة إنسان آخر، بل لأن فيه فائدة صحية على المتبرع نفسه، بحيث يتخلص من دم ويتجدد غيره؟ حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حبّب إلينا العطاء ولو بأقل القليل كما قال:” تبسمك في وجه أخيك صدقة“.

الملعقة العجيبة

إنّ كلمة الحب كلمة جامعة، وتحمل معان ودلالات كثيرة قد تبدأ بحب الدنيا والمال وتنتهي بالحب الأعظم حب الله ورسوله، لكنه الفارق بين حب حقيقي صادق، وحب مزعوم تتلفظ به الشفاه وتفتقر إليه القلوب.
وقد ثار جدال أمام أحد الحكماء بين مجموعة من الجلساء حول الحب الحقيقي الصادق والحب المزعوم، فأراد الرجل الحكيم أن يريهم الفارق فدعاهم جميعًا إلى وليمة، وأجلس الحكيم من علِمَ أن حبهم لبعضهم حب مزعوم لا يتجاوز الحناجر، وأمر الطهاة أن يصبوا لكل واحد منهم الحساء في إناء أمامه، وأعطى لكل واحد منهم ملعقة طولها متر كامل، واشترط عليهم أن يشربوا الحساء بهذه الملعقة العجيبة. حاولوا جاهدين لكنهم لم يفلحوا لأن طول الملعقة حال دون ذلك، ومن نجح منهم فإن نجح باحتساء القليل وصل إلى فمه بينما سكب معظمه على الأرض، وقاموا عن الطعام جائعين. ثم قام الحكيم وأجلس على الطاولة من علم بفراسته أن حبهم صادق وأنه حب القلوب لا حب الألسن والشفاه، فقدم لهم الحساء وناول كلّ واحد منهم ملعقة عجيبة فنظر هؤلاء إلى الحساء وإلى وجوه بعضهم البعض فأخذ كل منهم ملعقته ومدها إلى إناء الرجل الجالس مقابله ليحتسيها ثم كان العكس من الآخر حتى أكل الجميع وشبعوا دون أن ينسكب الحساء على أحد. عندها وقف الحكيم وخاطب الجميع قائلا:” من يفكر على مائدة الحياة أن يشبع نفسه فقط، فإنه سيبقى جائعًا، ومن يفكر أن يشبع أخاه فسيشبع الإثنان معًا“. أليس هذا هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال:” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى