عام على رحيل عبد الحكيم مفيد ولا يزال المقعد شاغرا والضحكة الرنانة تأبى أن تخفُت

كان ذا رؤية إعلامية نادرة وقراءة سياسية متميزة
حامد اغبارية
تكاد لا تصدّق أنه مرّ عام كامل على رحيل الزميل ورفيق الطفولة والصبا والشباب، ثم رفيق الدرب في مجال العمل الدعوي والسياسي والإعلامي، الأستاذ عبد الحكيم مفيد رحمه الله تعالى.
كيف تمر الأيام هكذا بسرعة خاطفة، ونحن لمّا نستوعبُ الرحيلَ بعدُ؟ كيف ونحن ما زلنا نسمع صدى ضحكته الرنانة، التي تجلجل في أرجاء المكان، وصدى صوته يهدهد؛ مناقشا، مجادلا، مخالفا، موافقا، مهاجما، مدافعا، مُقنعا، مُقتنعا، غاضبا، راضيا، فرحا، حزينا، مبتسما، دامعا، لائما، معاتبا، مُسامحا، محتضنا؟
أهكذا تتسرب الأيام واللحظات من بين أصابعنا، ونحن لا نُلقي لها بالا، حتى إذا جاء من يقول لك: اقتربت الذكرى الأولى للرحيل، فغرْتَ فاكَ غير مصدّق: أحقا؟! أبهذه السرعة؟!
لا يزال المقعد شاغرا، وصفحات الصحيفة تنتظر المقال الأسبوعي، الذي يتأخر كالعادة، حتى اللحظة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة: كنتُ مشغولا، سامحني أخي… اعتقدتُ أنني أرسلته، كنت في عكا، كان عندنا اجتماع، أنا الآن في شفاعمرو مع اللجنة الشعبية، هل يمكنك أن تنتظر حتى أتمكن من الوصول إلى جهاز حاسوب قريب؟ ثم يحاول أن يخفف عنك وطأة التأخير، فيعود بك إلى قصص وحكايات أيام الطفولة، فتهدأ، وتستسلم لطرائفه التي لا تنتهي، ثم ينقلك إلى حوار حول موضوع تحبه، لكنه لا يترك لك مجالا لقول شيء، يقول كل شيء، نيابة عنك وعنه، كأنه يستعجل الأشياء والأفكار قبل أن تنتهي رحلة العمر القصيرة.
كان – رحمه الله تعالى- صاحب نظرة ثاقبة في مجمل ما يجري من حولنا، وكان عنيدا في الدفاع عن وجهة نظره، حتى لو خالف بها الجميع، ليتضح فيما بعد أن وجهة نظره – في أحيان كثيرة- كان صائبة. ولم يكن يجد حرجا في الاعتراف بأنه أخطأ في تقدير الأمور، لكنه كان يحزن كثيرا لهذا، لأنه كان يحب دائما أن يقرأ المشهد كما يجب أن يُقرأ، وأن يحلل الحالة كما هي على حقيقتها، ثم يردد: (وفوق كل ذي علم عليم).
كان رائعا في قراءته للحالة الإسرائيلية، وكان يسبُر غوْر ما بين سطور الإعلام الصهيوني، فيقدم لك وجبة دسمة تغنيك عن كتب كثيرة. وكان متميزا في قراءة الحالة الفلسطينية والسورية والإيرانية والخليجية، وكان حسّه الإسلامي طاغيا في كل ما يكتب، لكنه كان يبرزه بذكاء السياسي، وأدوات الإعلامي المتمكن، دون أن يتنازل عن ثابت من الثوابت الإسلامية، وفي دفاعه عن دعوته وعن ثوابت الإسلام، وعن المظهر الإسلامي في مجتمعنا، في وجه الحملات التحريضية من الداخل وداخل الداخل ومن الخارج، لم يكن يجامل أحدا، يقول ما يؤمن به دون أن يحسب حسابا لأحد، ومع ذلك استطاع أن يحافظ على توازن في العلاقات مع الجميع.
سبقَنا الراحل أبو عمر بسنوات في قراءته للحالة الخليجية على وجه الخصوص، فبيّن الخلل في أنظمة الخليج كلها على الإطلاق، ولم يفرّق بين تلك الأنظمة التابعة للفلك الأمريكي، وبين النظام الإيراني الذي يحمل مشروعا خاصا به في المنطقة. وقد أصاب أيّما إصابة.. ونحن نرى اليوم عيانا ما نبّه إليه قبل عشر سنوات، حتى قبل ثورات الربيع العربي. وكان ينبّه طوال الوقت إلى أن إشغال الأمة بالصراعات بين الأنظمة العربية، وبينها وبين إيران، وبين السنة والشيعة، هدفه حرف البوصلة عن الخطر الحقيقي الذي يشكله المشروع الصهيوني، الذي يهدد الجميع، سنة وشيعة.. عربا ومسلمين.
كان الراحل أبو عمر ذا رؤية إعلامية نادرة، في الفضاء الإعلامي الذي طغى عليه الهُزال والتطبيل وتشويه المشهد، وخدمة الأجندات الفاسدة. نعم، كان هو أيضا يحمل أجندة في تعاطيه مع الإعلام، لكنها لم تكن أجندة فاسدة، وكانت تسعى أن تنقل المتلقي من حالة الغيبوبة الإعلامية إلى حالة من الوعي واليقظة على واقع متردٍّ كان للإعلام المُفسد دورٌ كبيرٌ في صناعته. وكان يدرك إدراك الأكاديمي، ولكن أيضا إدراك المسلم الذي يؤمن بقضية، أن الإعلام الذي يجب أن يؤدي دور صناعة الرأي، وليس هذا قط، وإنما صناعة جيل التغيير، وصناعة التغيير، ساهم بدلا من ذلك في حرف البوصلة إلى حدّ كبير، من خلال صناعة مشهد إعلامي مزيف لا يقول كل الحقيقة، وإنما يقول جزءًا صغيرا منها، أو يمارس الكذب والدجل، فكان هذا في نظره عملية تضليل إعلامي خطير، حذّر منه في كثير من مقالاته ومداخلاته التلفزيونية، ومقابلاته، ومشاركته في منصات الحوار المختلفة.
وكان حلمه الذي ردده دائما أن يؤسس لمدرسة إعلامية من نوع آخر، مختلف، تحملُ همّ المواطن البسيط، ولا تكتفي بحمله، بل تعالجه أيضا، وتحملُ همّ مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وتحملُ هم الشعب الفلسطيني، وتعالجه، وتحمل همّ الأمة، وتقدم الحلول، برؤية إسلامية، وقراءة واقعية، بعيدا عن خزعبلات وأضاليل الإعلام الفاشي الغربي، وعن أكاذيب الإعلام الصهيوني الذي طغى أو كاد، على المشهد الإعلامي، وعلى ممارسات العاملين في حقل الصحافة العربية المحلية، حتى أصبح المرجعية الوحيدة تقريبا بالنسبة للجميع، وعن دجل الإعلام العربي الرسمي الذي خرّب العقول، وأفسد الأذواق، وهدم الهيكل فوق رؤوس المواطنين.
قبل رحيله بنحو سنتين عكف أبو عمر على وضع تصور إبداعي لمدرسة إعلامية خاصة به، تحمل اسم “إعلام حكيم”، أراد أن يصب فيها كل ما اكتسبه من علم أكاديمي وخبرة عملية ورؤية ثاقبة وقراءة استشرافية، ليقدمه للأجيال القادمة. وقد حمل الاسم ازدواجية في المعنى؛ اسمه الشخصي، الذي كان له منه نصيب، ولكن أيضا الحكمة المطلوبة في التعاطي مع المادة الإعلامية.
حلم أن يُصدر مجلة إعلامية إلكترونية، تتبعها نسخة ورقية، مختصة في شؤون الإعلام والبحث الإعلامي، تبحث في القضايا المختلفة في مجال الإعلام، وكان يريد أن يؤسس لستوديو أخبار يتيح لطلاب الإعلام بشكل خاص، والموهوبين في المجال الإعلامي، إمكانيات التعبير عن قدراتهم من خلال توفير تقنيات واستشارات وتوجيهات في مجال الإنتاج الإلكتروني، وإنتاج برامج حوارية ووثائقية، وقد أحسنت الثانوية الأهلية في أم الفحم بافتتاح غرفة إعلام تحمل اسم الراحل، تحقق هذا الهدف، لكنه لم يحظ برؤية هذا الإنجاز، إذ افتتح الاستوديو في المدرسة بعد وفاته رحمه الله تعالى. وحلم كذلك بإنشاء مكتبة تجمع كل ما كتب وأنتج عن الفلسطينيين في الداخل منذ 1948، وكان أكثر ما شغل باله في الفترة الأخيرة إنشاء موقع إلكتروني يحمل اسم “إعلام حكيم” متخصص في قضايا الإعلام بكل تخصصاته ومجالاته، كما طمح في وضع موسوعة إعلامية باللغة العربية (هي الأولى من نوعها) تساهم في تقديم كل ما يحتاجه المهتمون بالإعلام من معرفة ومعلومات وأبحاث ودراسات، وفروع إعلامية.
كانت أحلامه كبيرة، بحجم الهم الكبير الذي يحمله كل من ينتمي حقيقة وفعلا إلى قضية شعبنا وأمتنا، ويسعى إلى وضع بصمة وأثر، مهما كانت هذه البصمة متواضعة. وقد ترك المرحوم بصمة كبيرة، ليس فقط في مجال الإعلام، بل أيضا في مجال العمل السياسي والتحليل السياسي، وقراءة الحدث، وكذلك في مجال العلاقات بين مختلف التيارات الفاعلة في الداخل الفلسطيني، كما ترك أثرا في مجال خدمة أبناء شعبه، خاصة في الأزمات، من خلال دعوته التي انتمى إليها، ومن خلال وجوده في لجنة المتابعة. وربما كانت أحلامه أكبر من أن تتحقق كلها في مساحة زمنية قصيرة، كما أراد هو، ولكن لعل زملاءه وأصدقاءه وأسرته الكريمة يحققون له هذا الحلم، أو جزءا منه، فينفع به مجتمعه بعد وفاته، كما نفعه وقدم له عصارة تجربته في حياته.



