سؤال الاخلاق والسياسة .. الحالة العربية

صالح لطفي .. باحث ومحلل سياسي
لا تزال تداعيات مقتل جمال خاشقجي على يد أركان حكومته تتوالى كاشفة عن اعمق أزمة اخلاقية يعيشها نظام عربي منذ عدة عقود علما أن استباحة الاعراض والدماء والارواح وتدمير البلدان كما حدث في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن، لم يحرك ساكنا لدى هؤلاء الذين انتفضوا من أجل خاشقجي.
لعل في هذا الذي حدث سر قدري لا نعرفه ستكون الايام القادمة كاشفة لبعض معالمه لكنَّ المؤكد أنَّ هذه الجريمة فتحت الأبواب على مصراعيها وطرحت بقوة لا مراء فيها جوهر العلاقة بين السياسة والأخلاق “سؤال السياسة والاخلاق” فقد كشفت هذه الحادثة رغم فرادتها عن حجم تغول السلطة والسلطان على الانسان الفرد ولعل جريمة خاشقجي كشفت وأعادت الى الواجهة عشرات الالاف من المعتقلين في سجون الطواغيت لمجرد أنهم معارضون ومن قتلوا واختفت آثارهم لا نعلم عنهم شيء.
كلنا يعلم أن ملايين البشر قتلوا من اجل السلطة والسلطان، والاستئثار بهما، هكذا فعل ستالين، وهكذا فعل فرانكو وهكذا فعل عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الاسد واخيرا بشار الأسد والسيسي والقذافي وعلي عبد الله وحفتر، وفي المقابل على نطع المصالح السياسية البعيدة والمتجردة من الأخلاق تخلقت العلاقات الدولية على أسس من القوة الناعمة وغير الناعمة وفي عالم العرب استأسدت السعودية على الدول العربية ومعظم الدول الاسلامية بفضل المال الهائل الذي بين يديها وحاجة هذه الدول لهذا المال ولعل تورط السعودية في صفقة القرن ومطالبتها رئيس سلطة رام الله للقبول بهذه الصفقة يكشف أسوأ في جدل هذه العلاقة بين الأخلاق والسياسة بشرطيها اللازمين الحرية السياسية والحرية الروحية فاستغلال محمد بن سلمان وفريقه استغلوا وضعية السلطة وفقدانها من حيث المبدأ حريتها السياسية بحكم انها سلطة حكم ذاتي وزاد الأمر ضغثا على أبالة أن محمد بن سلمان تنازل عن القدس باعترافه بها عاصمة لإسرائيل وهو ما يعني تنازله عن المسجد الاقصى المبارك وبذلك يكون هذا الأمير قد فقد شرطي الاخلاق للتمكين السياسي شرط الحرية السياسة بعبوديته لطرامب وشرط الحرية الروحية باعترافه بحق إسرائيل على القدس وفي القدس” بيت المقدس”.
في سياق نزع الأخلاق عن السياسة في حالتنا العربية يمكننا الاستشهاد بما حصل لشعوب الربيع العربي من جرائم لا تزال تمارس ضد من عمل على تغيير هذا الواقع الأسن ويمكننا أن نطلع الى معالم الفجور السياسي الذي حط رحاله في عالم العرب حكاما ومحكومين ففي وضعيات الحكام أصبح الفجور السياسي حالة منهجية والهدف منه السيطرة على حيوات الناس ويتم ذلك عبر عمليات ردة أخلاقية وثقافية وقد تعاظمت هذه السياسات في الدول العربية بعد ربيعها الخريفي وما يحدث اليوم في السعودية بشكل ممنهج تشرف عليه الدولة يهدف الى خلق حالات من الخنا والعلمنة ” المزيفة ” والليبرالية ” المتوحشة ” تتسيد الشعب العربي المسلم في بلاد الحجاز ألا مثالا حيا على كيفية الردة الاخلاقية المحمية بجناب الدولة بما تمتلكه من أدوات البأس والقوة لفرض هذه الأخلاق تمشيا مع بقاء السلطان واستمرار حكمه وما أصدق ما قاله المقفع حين تنبه الى دور العقل في لجم الدولة وتغولها ” أيها العقل أنت بصر ونور وأنتِ أيتها الدولة قوة وقهر وتدبير ولا تمام ألا باجتماعكما- رسائل البلقاء ، محمد علي كردص172″ ، ولذلك فحين تستغني الدولة عن العقل وتتملكها شهوة البقاء ” الابدي” تستعمل كل انواع السفف لتحقيق ما ترنو إليه وهذا ما تمارسه الدول العربية ونخبها الحاكمة. وتعمل النخب الحاكمة ومعها النخب المترسملة وأصحاب النفوذ على استبدال أخلاق العامة بأخلاق دخيلة تستحسن الفواحش والمنكرات وتحيلها من بعدها الأخلاقي الصرف الى بعدها السياسي الصرف وبذلك تزيل عنها هالة الإثم وتجعلها ضمن الحريات الخاصة لا العامة.
طرامب يفضح المستور
لماذا نصر على أن تداعيات مقتل هذا الرجل لها ما بعدها في دنيا العرب وكاتب هذه المقالة يزعم أن مقتله بات يؤسس للربيع القادم الذي يتخلق في رحم غيب قريب نكاد نلمسه ولا نراه حاله محال الهواء وهذا من تدابير القدر عند اقتراب لحظات التغيير . نُصرَّ لأن مقتله فضح علنا ثلاثة حقائق كنا نحن الاسلاميون على يقين بها نقولها صراحة ومواربة كل حسب ظرفه ووضعيته ومعنا الكثير من التيار اليساري العربي. الحقيقة الاولى أنَّ الدول العربية مزارع للغرب ، والحقيقة الثانية أنَّ هذه الدول محميات امريكية وبريطانية وفرنسية ولولها لما بقيت لها قائمة والحقيقة الثالثة أن ولاة أمور هذه الدول\المزارع خاضعين بالمطلق لأوليائهم خلف البحار وحيواتهم كلها من ألفها إلى يائها مرتبط بهذا الغرب فهلاَّ وجد واحد منا مثلا ولد أو بنت من أبناء هذه ” الطائفة ” يدرس في غير تلكم المحاضن؟.
لم يتردد طرامب بالقول انه لولا بلاده لما بقي آل سعود على كراسيهم لحظة. شهادة من خبير مطلع على الامور تكشف أبعد من هذه الكلمات أنها تبين العلاقة القائمة بين الأخلاق والسياسة ففي حين يلتزم هذا الرئيس الانجيلي المتصهين والمترسمل أخلاق بلاده في معاني الحرية ” الظاهرة ” وهو المستفيد هو وعائلته من أموال آل زايد وآل سعود ، يحتج بأخلاقيات دولته الرافضة لهذا العمل الفاجر من طرف صبيانية في الحكم حين يطفو على السطح فعلهم المشين، وتتطلب أخلاقهم عندئذ تدفيع الفاعل الثمن علما انها تبارك كل جريمة مهما كانت باغية فاجرة فاحشة إن بقيت سرا .
طرامب في مقولاته المترددة في قضية قتل وذبح الصحفي جمال خاشقجي يمارس الاخلاق النفعية بكل ما فيها لتحقيق اكبر قدر ممكن من المصالح لبلاده وما كان طرامب ليفعل ذلك مع قضية كهذه ولا مع كل قضايا عالمنا العربي ألا ليقينه ومن خلفه من المفكرين ومراكز التفكير والأبحاث أنّ الأخلاق النفعية تغلغلت في أمة العرب ألى حد النخاع وأنها أصابت قطاعا واسعا من العلماء لدين والشريعة قبل غيرهم من عوام الناس بل أن هذا الفريق من العلماء والدعاة جعل للنفعية تخريجات شرعية ودلالات فقهية فإذا كانت الفلسفة النفعية مبنية على أنّ السعادة الحقيقية تتمثل بإشباع الغرائز والشهوات وظهور أبهة المُلك فقد شرعن اهل الدين “المسيس” ذلك الفعل ومن ثم أضحى التعامل الاجتماعي قائم على هذا الأساس: أساس المصلحة وحدها، على الاخلاق التجارية، وهل ما يفعله حكام العرب ومن معهم من البيادات وعوام الناس ببعيد عن هذه الأخلاق؟. ولأنّ هذه الأخلاق تسيدت الموقف في حيواتنا حدث الذي حدث من إجهاض لربيع الشعوب العربية التي رنت بأبصارها نحو الحرية والعدالة وكل من شارك في جريمة سحق هذه الشعوب من قلم كتب وشرطي اعتقل ورجال أمن اعتقلت وحققت وقتلت وعسكر قتلوا أهلهم بالطائرات والبراميل المتفجرة وانتهاء بالزعيم ” الملهم” ، كلهم متورطون بهذه الجريمة ومعهم تلاميذ مدرسة الاخلاق النفعية المضادة للأخلاق المشرقية فضلا عن الاخلاق الاسلامية .ولا نبعد النجعة اذا قلنا ان دولنا العربية فاقدة لكل إبداع وتصنيع وعمل -طبعا الامر لا يقارن من اسرائيل ولا حتى مع المقاومة الاسلامية والوطنية في غزة ، هذا كمثال- وهي لا تتجاوز واحدة من هذه الخمسة: بيع الثروات الباطنية الخام كالنفط والغاز الطبيعي ، بيع الاثار ، بيع الارض أو تأجيرها كقواعد عسكرية للأعداء، المتاجرة بالرقيق الأبيض ” الجنس “، والمتاجرة بالعمالة السوداء “: تأجير ابناء تلكم الدول للعمل في دول غنية ليزودوا دولهم بالعملات الصعبة. ودولنا اليوم بين شدائد ثلاثة: ضعفهم الكبير، واستيلاء الغرب على مقدراتهم ، وايران واسرائيل كل من وجهته الاستراتيجية وبأدواته التي يملكها يسعى للسيطرة على هذه الدول، وفي الوقت ذاته فإن شعوبنا كذلك بين شدائد ثلاثة: حكام ظلمة ومعهم الملايين من التبع الذين يمارس القمع اليومي على هذه الشعوب ، الإفقار المستمر والممنهج حتى لا تكاد هذه الشعوب ترفع رأسها بسبب لهاثها وراء اللقمة وتوفيرها يوميا لأسرهم، ونشر الرذيلة والسوء عبر بوابات الافلام والمسلسلات والاغاني بسبب توافر الصحون اللاقطة ولك أخي القارئ اختي القارئة أن تجول ببصرك الى أي مخيم من مخيمات شعوبنا المقهورة التي طردت وشردت لتجد الصحون منتشرة بيت تلكم الخيام؟. وفي الوقت ذاته فإن الحركات الاسلامية وبالذات الاخوان المسلمين التي هي أمل هذه الامة حاضرا ومستقبلا بين شدائد ثلاثة: مطاردتها وملاحقتها وقتل ابنائها والزج بهم في السجون والمعتقلات، تفكيك بناها التنظيمية وهياكلها المؤسسية في ظل الاضطهاد الذي تنوء بحمله الجبال، وإشكالياتها الداخلية التي تؤثر على تصويبات المسارات والخروج من هذه الازمات المتتالية، وسبب ذلك كله أزمة سؤال العلاقة بين السياسة والاخلاق في دنيا العرب.
فقدان العرب شروط الاستخلاف
في ظل ما ذكرت وفي سياقات الحرب التي يشنها العرب على التيار الاسلامي عموما وعلى كل رافض لسياساتهم وبسبب طول استخذاء هذه الانظمة وانتفاء مصدر الاستقلالية عنها، وبسبب خنوع شعوبنا العربية لهذه الأنظمة الطاغوتية المستبدة الباغية وبسبب تآكل دور العلماء فإن أمة العرب فقدت شروط التمكين السياسي المتمثل قرآنيا بفقه الاستعمار : استعمار الارض بصوغه السياسي والاستخلاف المتمثل بالتمكين الروحي المؤسس على القاعدة القرآنية “ولقد كرمنا بني آدم ” ففقدان الكرامة يؤسس لفقدان السيادة أي لفقدان الفاعلية السياسية تماما كما أن فقدان الحرية مُؤَسس لفقدان الحرية التعبدية والعلو الإيماني فالمسلم من أسلم وجهه لله ومن ثم فهو غير خاضع لغيره أي أنه حر مطلق الحرية من حيث الولاء والاتباع، والمغلوب يخضع لغيره رغبا ورهبا، ومن ثم فهو غير خاضع لله وبذلك أصابه رذاذ شرك ” سياسي” وبذلك فهو ليس مسلما بحق وقد ذهب الفيلسوف التونسي الى ما هو أشد من ذلك فاتهم العربي/ المسلم التابع للغالب بالشركية. وقد قيل قديما أن المهزوم مولع بتقليد الغالب وذهب ابن خلدون الى ان المُستخلَفْ رئيس بطبعه لأنه يحمل رسالة الاستخلاف في الارض وتلزمه هذه الرسالية ان يكون مفكرا ومبدعا وعالما وواثقا من نفسه ، والعرب اليوم سوى تياراتها الاسلامية فاقدة لهذا الاستخلاف وهؤلاء مطاردون من قبل الدولة التي تشن حربا لا هوادة فيها على هذه الحركات تحت شماعة الارهاب وتمادت منذ عقود لتتطاول على مسلمات الدين بل وأسست مراكز بحثية مهمتها تميع الدين وتنزيله من طوره الالهي غير القابل للنقد كنص إلهي مقدس إلى ان يتطاول عليه كل كفار أثيم تحت أسم البحث العلمي الجريء والتحقيق التاريخي سعيا لتاريخانية القرآن على أمل هدم أخر معاقل الاسلام من نفوس المسلمين، وكل ذلك من اجل شهوة الملك عند أراذلنا من الحكام وتصفية حسابات وحسم لمستقبل البشرية عند طرامب وزمرته ، ولذلك فالعرب اليوم فقدوا اهليتي الاستعمار والاستخلاف ويبدو لي أنها شرعت تنتقل الى شعوب اسلامية غير ناطقة بالضاد في اسيا وافريقيا وكل شيء بقدر مرتبط بقدر التولي والاستبدال.
ولذلك لا بدَّ لعرب اليوم من مسلمين وغيرهم أن يحددوا معالم طريقهم بين أن يكونوا في مقدمات الشعوب الناهضة أو من المتخلفين فعالم اليوم تتنازعه كتلتان تتداخل حد غياب الفواصل وتتنافر الى حد وضوح الفروق، الكتلة الاوراسية تقودها روسيا واستثني منها الصين والهند كلاعب دولي صاعد يقعان في منطقة “غياب الفواصل في السياق الاورياسي” والكتلة الامريكية تقودها الولايات المتحدة وهناك كتلة ثالثة تتخلق ببطيء شديد ولكنها تحت مجهر الكتلتين أسميها الكتلة الاسيو-افريقية وفيها تدخل دول كتركيا وماليزيا واندونيسيا وباكستان وايران ونيجيريا يجمعها الاسلام بفضائه الحضاري، والعرب خارج هذه الكتل الثلاثة وهم فقط من يملك مقدرة الابحار السريع في العودة لاستلام قمرة قيادة سفينة البشرية أذا عادوا الى استبطان واستنطاق ومعايشة القران بتوجهاته الاستخلافية واستعمار الارض.
شروط عودة العرب لقمرة القيادة
لا يمكن أن تكتمل مسيرتنا الاخلاقية ألا بتحقيق شرط الحرية من حيث هي جوهر لا عرض في مسيرتنا اليومية والعامة وتعلقنا بخالقنا جلَّ في علاه فالحرية من حيث هي جوهر لها وجهان متلازمان عبودية لله مطلقة ذكرتها سابقا ينجم عنها حريتان سياسية وعلمية تكملان بعضهما في تحقيق استعمار الارض( الحرية بأفقها القرآني ومداه ” لكم دينكم ولي دين” “لا أعبد ما تعبدون”) وتحقيق خلافة الانسان كونه صناعة رب العالمين مناطهما العدل والكرامة ، ومن هذا المتن المؤسس لفكرة الحرية بوصفها عبودية لرب العالمين لا لبشر ولا لمخابرات ولا دولة نعود أدراجنا ألى سدة الحياة السياسية الدولية .
يرافق شرط الحرية شروط العلم والعمل ورفض العنف كدلالات متجلية لمعنى الحرية فالعنف اما أن يكون إيجابيا بحمايته للحرية وإما أن يكون سلبيا بنهبها ومصادرتها ويضاف الى هذا كله إدراك النسبية والإيمان بها حقيقة قدرية لا فكاك منها ونحن نمارس العلم والعمل ، فقد سبق العلم العمل ومنه يستمد العمل حقيقة وجوده وبتحققه يصبح نسبيا فنحن امام دوائر ثلاثة فقدها العرب منذ قرون فقدان العلم الرحب ودرنا عدد قرون في متون الفقه وفقه المتون فدالت البشرية لغيرنا ونحن نظن ان من حفظ البخاري سار على الماء ورد الاعداء ، وبعودتنا الى معاني العلم بِصَوغِها القرأني والنبوي الثابت عن نبينا ﷺ واستثمار علوم الحضارة الانسانية وعودتنا الى العمل على قاعدة التعاطي مع الكل الانساني بصفته معطى حضاري مدني وعمراني بصفته حلقة من حلقات الصيرورة التاريخية وهذه النسبية تنبه لها العلامة ابن تيمية رحمه الله مشيرا الى العلاقة القائمة بين المقدرات الذهنية من حيث هي علم ” ناقص” وعلم الوقائع الوجودية من حيث هو قدر لا مجال لمحاجّته “كحقيقة الشمس والقمر والكواكب والارض والبحار والثمار..” وهذه العلاقة تقوم على اساس من ثلاثية المعرفة والعلم والعمل ويوم يقوم للعرب قائمة بأن يدركوا معالم النسبية في مسارات الحياة عندئذ يمكن لعقلهم السياسي ان يعود الى رشده الأخلاقي مدركا ان القوة المادية التي يعتمدها الحاكم والدولة للبطش برعيته قد يتحقق زوالها بفعل بشري مماثل أو بفعل قدري خارج عن قوانين البشر.
وشرط العمل بالفقه القرآني الرحب “وقل اعملوا ” وفي التوجيه النبوي الكريم الملفت للنظر في الانفس والافاق “إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا”.


