قف أمام المرآة وتأمل واسأل…
# صفحات القرآن أم صفحات الفيسبوك؟
لا أحد ينكر مدى تأثير التقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي على الناس، ومقدار الوقت الذي يقضيه كل شخص وهو يبحر في عالم ومحيط هذه المواقع الغثّ منها والسمين، النافع منها والضّار، الخبر والمعلومة معروفة المصدر صحيحة المضمون، أو تلك مجهولة المصدر فارغة المضمون بل لعلها كذب وافتراء.
إنها الساعات الطوال في معدل ما يقضيه كل واحد منا وهو مستمر بين يدي جهاز الكمبيوتر أو هاتفه النقال الذي لا يكاد يفارقه في كل ساعات ليله ونهاره، بل ويقتحم عليه حياته الخاصة، بل إنه يصبح قرينه وظلّه حتى في مسجده وصلاته.
وإنّ من الناس كما نقرأ من نتائج الاستطلاعات المهنية من يتصفّح هاتفه الذي لم يفارقه إلّا سويعات قليلة جدًا عند نومه، ولعلّه كان ينام عند رأسه ويبدأ بتصفح صفحاته قبل أن يغسل وجهه وقبل أن يتوضأ للصلاة.
فليس المصلون بمنأى عن احتلال صفحات التواصل قلوبهم، واغتصاب أوقاتهم مثلهم مثل كل الناس، ولذلك فإنّ من هؤلاء من يكحل عينيه برؤية صفحات التواصل قبل أن يكحّل عينيه بماء الوضوء، ومنهم من يقلّب صفحات التواصل الفيسبوك وغيرها قبل أن يقلّب صفحات القرآن الكريم.
إنّ من السنة الشريفة التي هي التطبيق العملي لآيات القرآن الكريم التي تُحدثنا عن قيمة قرآن الفجر وعظيم نفعه وبركاته ومعانيه على النفس { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} آيه 78 سورة الإسراء، حيث سنّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ وردًا من القرآن كل يوم، وأفضل الأوقات لهذا الورد هو الصباح لتبدأ به يومك، و إلّا فإن تعسّر ذلك لظروف فخلال النهار، لكن أن يتحول الأمر إلى ورد الفيسبوك قبل ورد القرآن فإنها مصيبة.
أيّها الأخ الحبيب، أيّتها الأخت الفاضلة لا تقدّموا على كتاب الله أيّ شيء، واضبطوا علاقتكم مع هذه التقنيات فلا تستعبدكم، وضعوا المصحف عند رؤوسكم أو على الطاولة أو في الحقيبة أو حقيبة السيارة، ولا تترددوا أن يكون لكم منه ورد كل يوم، وليكن في الصباح.
كحّلوا عيونكم بصفحات القرآن قبل صفحات الفيس بوك، واضبطوا أوقاتكم جيدًا فلا تضيّعوها في غير النافع والمفيد. نعم، لا تغفون على صفحات الفيس بوك تحت تبرير أريد أن أقرأ آخر الأخبار، ولا تستيقظوا على صفحات الفيس بوك تحت تبرير أريد أن أعرف واقرأ جديدها وما كان خلال ساعات النوم، بل وطّنوا أنفسكم أن تناموا على الأذكار وبعد أن تستيقظوا فليكن وردكم من القرآن الكريم به تكحّلون عيونكم، واسألوا أنفسكم أيهما ترونهم أولا وأكثر، صفحات الفيس بوك أم صفحات القرآن؟
# إعرف نفسك في يوم عرفه :
اليوم الخميس يوم التاسع من ذي الحجة، يوم عرفة حيث الحجيج على جبل عرفات يؤدون الركن الأعظم من أركان الحج، وقيل في سبب تسمية جبل عرفات بهذا الإسم أنّ في هذا المكان عرف آدم حواء، بعد إذ هبطا من الجنة بعد إذ وسوس لهما الشيطان فأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، فكان جزاؤهما كما قال الله سبحانه { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وُرِي َعنهما سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلّا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين }19+20 سورة الأعراف. إلى قوله سبحانه { قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } آيه 24 سورة الأعراف.
فكما عرف آدم حواء في عرفات، وكما عرفا حجم الخسارة التي لحقت بهما بعد إذ أُخرجا من الجنة لينزلا إلى الأرض بشقائها وبلائها. بسبب الذنب والمعصية والخطيئة التي وقعا فيها لمّا لم يستجيبا لأمر الله، واستجابا لوسوسة الشيطان ولكن بعد فوات الأوان. فحاول أنت أن تعرف نفسك جيدّا وتزن أعمالك قبل أن توزن عليك.
قف أمام المرآة لتقف على حقيقة نفسك، بل لا أعظم من القرآن الكريم به ومن خلاله تتعرف على نفسك، كما كان يفعل الأحنف بن قيس حكيم العرب وخطيبهم لمّا كان يجلس مع أصحابه يقول لهم تعالوا نتعرف على حقيقة أنفسنا، وإنّ أفضل ضابط وميزان لهذه المعرفة هو كتاب الله الذي قال فيه سبحانه { ولقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون} آية 10 سورة الأنبياء أي فيه شرفكم ومكانتكم.
بدأوا يقرأون في القرآن، فأتوا على قول الله سبحانه { كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} 17-18 سورة الذاريات فقالوا يا رب لسنا من هؤلاء، هؤلاء قُوّام الليل فنحن مقصرون، ثم أتوا على قول الله سبحانه { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } آية 134 سورة آل عمران فقالوا يا ربنا لسنا من هؤلاء فلطالما غضبنا وظلمنا ولم نعف عمّن أساء إلينا، وهكذا في عدة مواضع من القرآن الكريم حتى أَتوا على قول الله سبحانه { إنّهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} آية 35 سورة الصافات فقالوا نعوذ بالله أننا لسنا من المستكبرين ولا من الذين لا يطيقون سماع كلمة التوحيد فنحن مسلمون موحدون رغم تقصيرنا، ثم أتوا على قول الله سبحانه { ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين} 27-32 سورة المدثر، فقالوا نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، فنحن والحمد لله نصلي ونصوم ونعبد الله على تقصير منا وتهاون، فأصبحوا يقولون لبعضهم إذن من نحن؟ فإذا لم نكن من الصنف الأول، صنف الأخيار والأبرار ولسنا من الصنف الثاني صنف الأشرار، فمن نكون؟ فمروا على قول الله تعالى{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم } آية 103 سورة التوبة، فتنادوا وكلهم يقول يا رب نحن من هؤلاء نحن هؤلاء، أي لسنا ملائكة معصومين ولا نحن شياطين، ولكننا من بني آدم الخطّائين، ولكننا بعد كل خطأ نستغفر ونتوب.
أنتَ وأنتِ وأنا وكلنا من هؤلاء المخلطين الذين يدورون بين الطاعة والمعصية بين الذنب وبين الإستغفار، بين الملائكية وبين الشيطنة، بين غلبة الخير وبين غلبة الشر ليظل رجاؤنا بالله سبحانه أن يغفر لنا ذنوبنا ويتجاوز عن سيئاتنا وأن يرحم ضعفنا ويجبر كسرنا وأن يبدل سيئاتنا حسنات.
أخي أختي هل عرفتم أنفسكم؟ فإذا كان الجواب نعم فإنه اليوم يوم عرفه، أكثروا فيه من الاستغفار، وليكن يوم بداية عهد جديد بينكم وبين الله سبحانه وتعالى.
# قليل من الحياء يا هؤلاء
هل سمعتم عمّن يذهب إلى الدكان لشراء حاجات بيته دون أن يكون معه المال لدفع ثمن ما يشتريه؟ هل عرفتم أنّ طالبًا يحمل حقيبته ويذهب إلى الجامعة ليدرس فيها دون أن يكون قد تسجل فيها ودفع قسطه الجامعي ورسوم التسجيل؟ هل سمعتم عمّن يحمل حقيبته ومعه زوجته وأولاده ويذهب إلى المطار يريد السفر لقضاء نزهة ورحلة استجمام دون أن يكون قد دفع ثمن تذاكر السفر وحجز له مقعدًا في الطائرة هو وأولاده؟ وهل سمعتم عمّن يريد الزواج من فتاة دون أن يملك المال من بعضه يدفع المهر، ومن بعضه الآخر ينفق على متطلبات الزفاف وغيرها؟
واضح أن الجواب على كل هذه الأسئلة هو، لا. سبحان الله لا نطمع بحاجات البيت من الحانوت بدون ثمن، ولا نفكر أبدًا بدخول الجامعة دون دفع رسوم التسجيل وقسط الجامعة سلفًا، ومجنون من يذهب إلى المطار للسفر دون شراء التذاكر ودفع ثمنها، وغير مقبول شرعًا وعُرفًا الزواج من دون المهر حتى لو كان متواضعًا. سبحان الله كل هذا من متاع الدنيا لا يكون إلا بثمن، إلا الجنة فإننا كلنا يريد دخولها بلا ثمن ومن غير مقابل. إننا نطمع بالجنة دون أن ندفع ثمن تذكرة دخولها. فكيف لا تُحرَج وأنت تقف أمام البائع بلا نقود، وكيف لا تُحرَج وأنت تقف أمام موظف المطار بدون حجزٍ مسبقٍ، وكيف تفكر بالزواج دون أن تملك المهر، إنها ليست إلا قلة الحياء لمن يقف هذه المواقف.
وماذا يمكن أن نسمي من يريد الجنة بلا ثمن وبلا مهر وبلا مقابل، ودون أن يكون قد أعدّ الزاد وأخذ بالأسباب وخالف هواه، وعصى شيطانه وأطاع مولاه، وسار على درب نبيه صلى الله عليه وسلم ( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ) .
فقليل من الحياء أيّها المفرّطون، المقصرون. قليل من الحياء يا من تريدون الجنة وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ورؤية وجه الله جل جلاله والنعيم المقيم فيها بلا ثمن، ودون أن تتعب نفسك في مواجهة شيطانك يدعوك إلى الإثم، ودون أن تتعب نفسك في صلاة لله سبحانه وفي كل أمر يدعوك إليه. فقليل من الحياء يا هؤلاء.
# اليوم وغدًا
إنه الله سبحانه وتعالى الذي ما من نعمة ولا فضل ولا رزق إلا منه سبحانه { وما بكم من نعمة فمن الله } آية 53 سورة النحل . { وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها } آية 34 سورة إبراهيم فنعمة المال، والولد، والصحة ونعمة الإسلام التي هي أعظم النعم كلها من فضله سبحانه وكرمه علينا.
ومع ذلك فإنه سبحانه الذي خلقنا وأعطانا المال، ومقابل ذلك فإنه يريد أن يبيعنا الجنة والثمن هو المال الذي أعطانا ورزقنا إياه { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } آية 111 سورة التوبة .
هو سبحانه أعطانا المال والرزق، ثم هو يريد منا أن نقرضه { من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة} آية 245 سورة البقرة .
ما أتعسنا وما أشقانا ونحن نحسب الحسابات الخاطئة والمغلوطة في معاملاتنا مع الله سبحانه يعطينا فنبخل، ويرزقنا فنجحد. إنه في دنيانا الفانية هذه يطلب منا أن نتصدق بالصدقة ولو كانت شقّ تمرة، ولو كانت مثقال ذرة فيقبلها منا ويضاعفها لنا أضعافًا كثيرة بكرمه، ومع ذلك فإننا نبخل ونتردد ونقبض أيدينا( ونظن فعلًا أن الله فقير ونحن أغنياء، وأن المال الذي بين أيدينا هو مالنا وليس هو عطاء الله ورزقه سبحانه).
ما أغبانا وما أقلّ حياءنا نحن الذين نبخل اليوم بدرهم أو دينار نتصدق به، بل ما أقلّ حياءنا ونحن نبخل بمثقال ذرة، بينما يوم القيامة قد قضى الله بين العباد وكان مصير بعضهم إلى النار والعياذ بالله، وإذا بهذا البعض ممن مات على الكفر يتمنى أن لو كان يملك ملك الأرض ذهبًا لتصدق به، وينسى لغبائه أن الله لن يقبله منه وهو أصلًا لا يملكه { إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} آية 91 سورة آل عمران.
فما دمت وما زلت في يومك، ولم يأت غدك فاعمل في يومك لأجل غدك، وأنفق في يومك ولو كان القليل، لأنه لن ينفعك يوم القيامة أن تتمنى التصدّق بالكثير، ولو كان معك لأنه لن يكون. فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.
رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي ولوالدي بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون