أخبار وتقاريرمقالاتومضات

جوع العموم وجوع الخصوص وجوع خصوص الخصوص

الشيخ رائد صلاح

هناك جوع غزة وهناك جوع المسلمين والعرب وهناك جوع سائر البشرية، فهي ثلاثة أصناف للجوع، ويمكن أن نطلق عليها جوع العموم وجوع الخصوص وجوع خصوص الخصوص.

أما جوع العموم فهو جوع سائر البشرية، وأما جوع الخصوص فهو جوع المسلمين والعرب، وأما جوع خصوص الخصوص فهو جوع غزة.

وحول جوع العموم وهو جوع سائر البشرية، فيمكن أن يقول كل حر عاقل إن سائر البشرية جائعة اليوم، ولكن ليس جوع أمعاء وبطون، بل هي غارقة اليوم في معظم أوضاعها في ترف الزاد المادي ما بين طعام وشراب وحلويات وفواكه ومسليات، بيد أنها جائعة جوعًا لم يكتب عنه التاريخ قبل ذلك، إذ إنها جائعة للقسط والعدل والإنسانية.

فهي البشرية اليوم التي تعيش في ظلم عالمي وجور عالمي وهمجية عالمية، وهي البشرية اليوم التي لن يغني عنها سمنة بطونها وغلظة رقابها ووفرة صحة أبدانها، ما دامت غارقة من رأسها حتى أخمص قدميها في لعنة هذا الثالوث الدنس: الظلم والجور والهمجية.

وها هي هذه المسكينة كأنه أصابها مس من الجن، وها هي موجوعة متألمة، وها هي كآبتها وضنكها وتعاستها تلازمها كملازمة الظل للجسد، تحضر فيها وهي تأكل وتشرب، وهي تلهو وتمرح، وهي تصفق في تصفيات كأس كرة القدم الأوروبية وغيرها، وهي تسترخي على مقاعد وثيرة على شواطئ البحار وعند ضفاف الأنهار ومنتجعات السباحة، وهي تستلقي منتشية على مقاعد طائرتها، بل وهي تغط نائمة في مخادعها الأنيقة وخدورها المعطرة، لأنها جائعة.

وكيف لها ألا تجوع وهي تشاهد بالبث المباشر مأساة غزة وفاجعتها الكبرى وكربها الشديد؟ وها هي هذه البشرية الجائعة تبحث عما يسد رمق جوعها في مظاهراتها واعتصاماتها في شتى بقاع الأرض، ولكن هذه المسكينة باتت تزداد جوعًا رغم هذه المظاهرات والاعتصامات في شوارع عواصمها وساحات جامعاتها وجسور أنهارها، لأنها باتت تزداد جوعًا للقسط والعدل والإنسانية كلما زاد منسوب مأساة غزة، وكلما طفح كيل فاجعة غزة، وكلما ضاق خناق كرب غزة. وكأني بعسر غزة التي تحتضر الآن قد أصاب البشرية في مقتل، وباتت البشرية تحتضر كما تحتضر غزة، وبات جوعها يميت أعضاءها بالتدريج كما يميت الجوع بالتدريج رضع غزة وأطفالها ورجالها ونساءها.

ويبدو أن حكومة الدجل العالمية التي تحكم الأرض اليوم باتت تتلذذ بصرخات هذه البشرية المتواصلة، التي مهما ارتفعت صرخاتها، وحتى لو وصلت عنان السماء، فلن تتحول إلى لقمة طعام في فم جائع في غزة.

ولن تطول الأيام حتى تكتشف هذه البشرية الجائعة أنها محتلة اليوم في عقر دارها في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وروما وموسكو وغيرها، وما وقع احتلال على قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، مما يعني أنها لن تطول الأيام حتى تكتشف هذه البشرية أن غزة محتلة وهي محتلة، وأن غزة محاصرة وهي محاصرة، وأن غزة جائعة وهي جائعة.

وإذا كانت السياسة الأمريكية وسياسة بعض الدول الأوروبية وسياسة المؤسسة الإسرائيلية هي التي تحتل غزة وتحاصرها وتجيعها، فإن حكومة الدجل العالمية هي التي تحتل البشرية اليوم وتحاصرها وتجيعها جوع العموم وتسلب منها ثالوث النعمة: القسط والعدل والإنسانية، وتفرض عليها الثالوث الدنس: الظلم والجور والهمجية.

ومن هي حكومة الدجل العالمية؟ إنها التي لا تقدر عليها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والأونروا ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية وسائر المنظمات الدولية المختلفة، وإنها هي التي يرجو رضاها ترامب وماكرون وسائر زعماء أوروبا، وإنها هي التي كتب عنها عشرات الكتاب العالميين ما بين عرب وعجم، فلقي بعضهم حتفه بعد أن كتب عنها أو أعلن أنه سيكشف عن القوى الخفية فيها، وإنها هي التي أقامت لها فروعًا ذات بأس شديد في الكثير من الدول، بما في ذلك دول مسلمة وعربية، وإنها هي صاحبة القرار في هذه الدول، بما في ذلك المسلمة والعربية منها، وإنها هي التي جعلت البشرية اليوم بين وجه يحكمها علانية ولكن بدون صلاحيات حقيقية، وبين وجه آخر يحكمها هو صاحب النفوذ والكلمة الأخيرة في مصير هذه البشرية وفي مصير هذه الدول، بما في ذلك المسلمة والعربية منها، وإنها هي التي يُطلق عليها مصطلح الدولة العميقة التي تَرى ولا تُرى.

وإذا كانت هناك دولة عميقة في كل دولة من هذه الدول، بما في ذلك المسلمة والعربية منها، فمن البدهي أن تكون هناك دولة عميقة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وسائر الدول الأوروبية (المتحضرة !)، ومن البدهي أن تكون هناك هيئة عميقة هي هيئة الأمم المتحدة.

ويبدو أن غوتيريش، العنوان الأول في هيئة الأمم المتحدة، بات منزوع الصلاحيات بأمر من الهيئة العميقة في هيئة الأمم المتحدة، ويبدو أن الكثير من رؤساء الدول، بما في ذلك المسلمة والعربية، باتوا محدودي الصلاحيات بأمر من شبكة فروع هذه الدولة العميقة التي اخترقت مناصبهم حتى النخاع.

ولعل أتعس حال مرت به البشرية على مدار تاريخها هو حالها اليوم، ولا مخرج لها من هذه الورطة إلا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا”.

فهي خلافة على منهاج النبوة وليس على منهاج الهوى، ويوم أن تقوم ستملأ الأرض كل الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت الأرض كل الأرض ظلمًا وجورًا.

ثم هناك جوع الخصوص وهو جوع المسلمين والعرب، فهم جائعون كسائر البشرية للقسط والعدل والإنسانية، وهم جائعون بالإضافة إلى ذلك إلى التحرر والاستقلال والكرامة، بمعنى أن المسلمين والعرب اليوم باتوا بلا تحرر واستقلال وكرامة.

ومهما أعدت مطابخ المسلمين والعرب من أصناف الطعام والشراب والحلويات والمسليات، فهم جائعون، ومهما امتدت كروشهم واغلظت أعناقهم وانتفخت خدودهم، فهم جائعون، ومهما غنّى فيهم كاظم الساهر وجورج وسوف وشعبلو، فهم جائعون. وهل هناك أشد من ضراوة هذا الجوع، حيث إن الجائعين، وخاصة للكرامة، لن يجدوا بديلًا عن الكرامة المفقودة إلا الذل والهوان والوهن؟ وها هو واقع الحال الذي يعيشه المسلمون والعرب على امتداد جغرافية الأمة الإسلامية والعالم العربي، ولا يمكن لكل سحرة الإعلام في حاضر المسلمين والعرب أن يغطوا هذه الحقيقة.

وكم أحزن لدرجة أن دموعي تسيل رغم أنفي بعض الأحيان عندما أشاهد بعض القنوات العربية التي تُعد بالمئات، تبث مناظر التمدن التي وصلت إليها هذه الدولة العربية أو تلك

حيث تحرص هذه القنوات العربية أن تبث مشاهد العمارات الشاهقة والأسواق التجارية العامرة والمتنزهات الغناء والموانئ الحاشدة بسفن الصيد البحري والسياحة البحرية ورحلات الصيد البري وسباقات الإبل وما إلى ذلك، فأقول في داخلي متألمًا: يا للخسارة، ثم يا للخسارة والحسرة، ثم يا للخسارة والحسرة واللوعة، فأي قيمة لكل هذه المشاهد البراقة التي لا تزال تعرضها بعض القنوات العربية كشواهد للتمدن في بعض الدول العربية، وهي لا تملك القدرة على حماية نفسها ولا على حماية شعوبها ولا على حماية أوطانها ولا على حماية كل هذه المشاهد البراقة لكل هذا التمدن السطحي؟

فهي دول عربية في خطر لو غزاها أي عدو خارجي، وهي إن ملكت قدرة حماية، فهي قدرة حماية محدودة الضمان بهدف أن تحمي عروشها من غضب شعوبها إذا استيقظت هذه الشعوب في يوم من الأيام.

بل إن الربيع العربي قال لنا في أحد دروسه، إن زين العابدين استعان بساركوزي رئيس فرنسا ليحافظ له على عرشه في تونس، وإن بشار استعان بإيران وروسيا لتحافظ له على عرشه في سوريا، وإن الدولة العميقة في مصر استعانت بالحكومة الأمريكية والإسرائيلية لتحافظ لها على بقائها في مصر، ولا نعرف عن الكثير مما جرى وراء الكواليس في ليبيا واليمن والعراق، ولعل قادمات الأيام ستكشف عن ذلك.

وهكذا سيبقى هذا الحال البائس رابضًا على صدر المسلمين والعرب حتى يستوعبوا مقولة الفاروق عمر رضي الله عنه: “نحن قوم كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة من عند غير الله أذلنا الله”.

ثم هناك جوع خصوص الخصوص وهو جوع غزة، وسلفًا أقول، إن الذي يميز هذا الجوع أنه جوع وكرامة وليس جوعًا للكرامة، وهو جوع للقسط والعدل والإنسانية كما هو جوع العموم الذي هو جوع سائر البشرية، وهو جوع للتحرر والاستقلال كما هو جوع الخصوص الذي هو جوع المسلمين والعرب، مع التأكيد مرة أخرى على وفرة الكرامة في غزة، وإن كانت لا تزال تعاني من جوع للتحرر والاستقلال. ثم جوع غزة هو جوع بطون وأمعاء، وهو جوع للطعام والشراب والدواء والأمان، وهو جوع رضع وأطفال ورجال ونساء، وهو جوع مميت لا يرحم كبيرًا ولا صغيرًا ولا سليمًا ولا مريضًا ولا غنيًا ولا فقيرًا ولا أرملة ولا ثكلى ولا يتيمًا، وهو جوع مفروض على غزة وليس من صنع يدها، ولا تقبله ولا تسكت عنه، بل ترفضه دون أن تنكسر له.

وهو جوع جعل غزة خاوية البطن، ولكن لم يجعلها خاوية الصبر واليقين. وهو جوع بات يرضى به أصحاب الموائد الفاخرة ما بين البيت الأبيض وقصر الإليزيه وسائر القصور الرسمية لبعض الدول الأوروبية، وهو جوع بات يسكت عنه كل أصحاب الجلالة والفخامة والمعالي والسيادة والرفعة في الدول المسلمة والعربية، وهو جوع سيتحول إلى عام فارق في عمر البشرية بعامة وعمر المسلمين والعرب بخاصة، فكما قيل في الماضي عام الفيل، سيقال منذ اليوم فصاعدًا عام الجوع.

وهو الجوع الذي باتت تعترف به كل المؤسسات الدولية على اختلاف عناوينها، بداية من هيئة الأمم المتحدة إلى جانب كل المؤسسات الإعلامية العالمية، إلا من الثنائي ترامب ونتنياهو، فلا يزالان يكابران، ولا تزال بطانتهما تردد صدى مكابرتهما وتنكر وجود جوع في غزة. وهو جوع بات يحبس أنفاس أهل الأرض وباتوا يتساءلون: هل نحن بشر إزاء جوع غزة؟ وهو جوع بات يجلد بصوت تأنيب الضمير كل أحرار وحرائر المسلمين والعرب، وباتوا يتساءلون: هل نحن مسلمون؟ هل نحن عرب؟ فيا لهذا المخاض العالمي الذي أحدثه جوع خصوص الخصوص في غزة، ولأنه مخاض، فإن لكل مخاض آلامًا، وإن لكل مخاض مولدًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى