أخبار وتقاريرمقالاتومضات

“العيش في السجن معزولا” للشيخ رائد: الحركة الأسيرة نبراس للإنسانية (3)

بروفيسور نادر مصاروة

هكذا كانت الحركة الأسيرة في السجون كما يصورها لنا الكاتب بعضا من ثناياها، فيقول: “وهنا أؤكد ما أكدته للأسير بلال أنه لا بد من كتابة تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية بكل دقائق تفصيلاته، لأن الحركة الأٍسيرة الفلسطينية بنت نظام حياة داخل السجون له عاداته وتقاليده وله آدابه وأشعاره، وله موقفه الإنسانية بحلوها ومرها، وله بصمات أفراحه وأحزانه”(80).

ويحاول الكاتب هنا أن يعطينا بعدا عاطفيا عميقا في تناول تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية، فهي لا تكتفي بالنظر إلى الأسر كمعاناة، بل تبرز كيف أنّ الأسرى تمكنوا من خلق حياة كاملة داخل السجون، حياة لها نظامها الخاص، عاداتها وتقاليدها، وآدابها، وكأنّ السجن تحوّل ـ رغم قسوته ـ إلى مجتمع نابض بالحياة والمشاعر.

يُبرز النص الجانب الإنساني للأسرى، حيث تظهر اللحظات الحلوة والمرة، الأفراح والأحزان، تماما كما يعيشها أي مجتمع حرّ، مما يضفي على الأسرى طابعا إنسانيا راقيا يتجاوز النظرة النمطية إليهم كضحايا فقط.

ثم تحمل الفقرة بُعدا سياسيا واضحا، إلى أنّ الحركة الأٍسيرة ليست مجرد تجربة فردية أو حالة اعتقال جماعي، بل هي حركة وطنية لها تاريخها، وثقافتها، ونضالها المتواصل.

فالدعوة إلى كتابة “تاريخ الحرية الأسيرة بكل دقائق تفصيلاته” هي دعوة سياسية لها نظرة عميقة لتوثيق تجربة نضالية جماعية يُراد لها أن تكون جزءا من السردية الوطنية الفلسطينية.

فالسجون لم تكن فقط مكانا للقمع، بل أيضا ساحات مقاومة والتنظيم والتعليم والصمود، ما يجعل من تاريخ الحركة الأسيرة أحد أعمدة الهوية السياسية الفلسطينية الحديثة.

بذلك تدمج الفقرة بين الإنساني والسياسي، وتُبرز كيف أنّ الأسرى الفلسطينيين لم يكونوا مجرد معتقلين، بل فاعلين في صناعة الوعي والكرامة والهوية داخل أقسى الظروف.

الأسير غالبًا ما يتحول إلى ضمير جماعي. هو من يعيد التذكير بالقضية، بالحق، بالمبادئ. هذا الوعي لا يولد في الفراغ، بل يُبنى من قراءة ومتابعة ونقاش طويل في الزنازين، مما يحوّل الأسر إلى مدرسة أخلاقية ووطنية، تصنع رجالًا ونساءً يحملون في داخلهم مشروع تحرر لا يقتصر على أجسادهم، بل يشمل مجتمعهم وشعبهم.

حنين وشوق وسند

حنين الأسير ليس ضعفًا… بل هو مقاومة بصمت. هو انتصار للروح حين يُقيد الجسد. هو دمع لا يُرى، لكنه يكتب قصة الصبر في وجه الظلم، ويحفظ للإنسان كرامته، مهما طال السجن، ومهما طال الغياب.

حنين الأسير لعائلته، لوالدته، لأطفاله، هو أحد أنقى أشكال الإنسانية “وفي هذا اليوم بدأت أنظم قصيدة ثانية اجتهدت أن أضمنها رسائل حب وشوق وحنين إلى أمي وزوجي وأولادي وبناتي وسائر ذريتي”(52).

في لحظة تختلط فيه الغربة بالحنين، يجلس الكاتب ليكتب بقلب مثقل بالشوق، يبحث في الشعر عن وسيلة تعيد إليه دفء العائلة وحنان الأم وطمأنينة الأبناء. لا يريد لهذه القصيدة أن تكون مجرد كلمات، بل تعبيرا عن نبض قلب مشتاق، رسائل حب متدفقة إلى من يملأون حياته معنى. ليبعث بأنين الفقد ورجاء اللقاء.

كل رسالة تصل، كل خبر يُهرّب، كل خبر يُروى عن الخارج، يُعيد للكاتب جزءًا من نفسه “…وصلتني أعداد صحيفة “المدينة” التي صدرت بعد اعتقالي مباشرة. فقرأتها بتلهف، وتفحصت صورها بانفعال.

كيف لا وقد وجدت فيها صورا لأمي وزوجتي وأولادي، ووجدت صوار توثق لحظات دخولي إلى السجن “أوهالي قيدار” في النقب قبل نقلي إلى سجن “رامون”، وقرأت فيها بيانات تضامن معي صدرت من هيئات علماء المسلمين في لبنان والعراق، أو صدرت من بعض القوى السياسية في تركيا وتونس، وماليزيا وغزة، وهو ما أِشعرني ـ بفضل الله تعالى ـ أأني لست وحدي، مهيض الجناح في سجن “رامون”(112).

وسط جدران السجن الصامتة، وفي عزلة تخنق الروح، وصلت إليه صحيفة كأنها نافذة صغيرة على العالم الخارجي، لكنها كانت أكبر من ذلك بكثير ـ كانت دفقة حياة، وجرعة أمل. تُقلّب الصفحات بعينين مشتاقتين، وإذا بصور أحبّائه تنبض أمامه: الأم، الزوجة، الأولاد… ، وكأنها تهمس له بالصبر والثبات.

لكن الأهم لم يكن الصور وحدها، بل تلك الأصوات السياسية والدينية التي علت من شتى بقاع العالم، ترفض عزله، وتعلن تضامنها معه. من لبنان إلى ماليزيا، من غزة إلى تونس، ترددت أصداء الموقف، وكأن العالم لم ينس صوته وقضيته.

كان لهذا التضامن وقع مختلف ـ ليس مجرد بيان، بل شهادة على أن السجن لم يعزل روحه، ولم يعطل نضاله. فحتى وهو خلف القضبان، بقيت رسالته حية، وجناحاه لم يُكسرا كما أراد سجّانوه.
في تلك اللحظة، التقى الحنين الإنساني بالحضور السياسي، فانبعثت في قلبه قوة جديدة… أن السجن ليس نهاية، بل محطة في طريق طويل لا يُسلك إلا بالكرامة والصبر.

آفة العنف همّ مجتمعي وجرح ينزف

العنف والجرائم في المجتمع الفلسطيني داخله وخارجه لم تكن قضايا تؤرق المجتمع فحسب، بل كانت كذلك هما يوميا يعيشه السجناء أيضا داخل السجون. فهؤلاء الأفراد، رغم عزلتهم خلف القضبان، لا يزالون جزءا من واقع اجتماعي يتأثرون به ويتفاعلون معه في كثير من الأحيان، فأحداث الجريمة في المجتمع في الداخل الفلسطيني وخارجه، وتأثيراتها النفسية والاجتماعية، تظل حاضرة في يوميات السجين، ويصور لنا الكتاب مشهدا مؤثرا يصله خبره خلف القضبان:

“..ثم خلال ساعات هذا اليوم علمت أن قريبا لجاري الأسير (ح) قد توفي، فناديته وقلت له: أعظم الله أجركم، سمعت أنه قد توفي قريب لكم، فقال: نعم، لقد قتلا رميا بالرصاص، فآلمني ذلك وهزني من داخلي، وقلت له: من هو القتيل؟ فقال: هو شاب صغير اسمه هلال، مضى عليه من العمر ستة عشر عاما، وقد قتل وهو صائم عند المسجد، كما وجرح أبوه!! ثم راح جاري الأسير(ح) يشرح لي ملابسات ما حدث، فبين لي أنه وقع خلاف بين أقاربه، وكان خلافا تافها، وكان بالإمكان تداركه، إلا أنه للأسف قد تطور وأدى إلى هذه النتائج الدموية. وقد صدق جاري الأسير (ح) بهذا الوصف، فمعظم جرائم القتل التي تقع في الداخل الفلسطيني تنتج عن خلاف تافه جدا ما أسهل علاجه”(77).

في هذا التوصيف تتجلى مأساة إنسانية مؤلمة، تُروى ببساطة لكنها تنضح بالحزن والأسى. فالكاتب، وهو شخص يعيش تجربة الأسر مع جاره، يصف لحظة صادمة حين علم أن قريبًا لجاره الأسير قد قُتل. لم يكن الخبر مجرد نبأ عابر، بل أصابه في أعماقه وأيقظ فيه مشاعر الحزن والتعاطف، خاصة حين عرف أن القتيل لم يكن سوى فتى صغير في السادسة عشرة من عمره، قُتل وهو صائم، واقفًا قرب بيت من بيوت الله.

جاره، رغم أسره، يحمل على عاتقه عبء الحزن والفقد، ويحكي تفاصيل الجريمة بوجع مرير، كاشفًا عن مأساة مركبة: شاب في ريعان العمر يُقتل بلا معنى، أب يُصاب، وعائلة تتمزق… وكل ذلك نتيجة خلاف تافه بين الأقارب، كان بالإمكان تجاوزه بكلمة حكيمة أو موقف رشيد. لكنها الحقيقة القاسية التي تعيشها المجتمعات، حيث كثير من الدماء تُسفك في لحظة غضب عابرة، وتتحول تفاصيل الحياة اليومية إلى ذكريات دامية.

هذا الوصف يحمل في طياته مرارة الواقع، ويطرح تساؤلًا صامتًا: كم من الأرواح البريئة ستُزهق قبل أن نتعلم كيف نصون الحياة، ونحتكم للعقل بدل السلاح؟.

العنف في المجتمع الفلسطيني لم يعد مجرد حوادث متفرقة، بل تحوّل إلى ظاهرة تؤرق الوجدان الجمعي وتخنق تفاصيل الحياة اليومية. ففي كل حي وبلدة، تتردد أخبار القتل، إطلاق النار، النزاعات العائلية، وجرائم لا مبرر لها سوى الغضب السريع، والاحتكام إلى السلاح بدل الحوار والعقل. وبعد أن يستعرض لنا الكاتب بعضا من أخبار القتل التي حدثت أيام العيد في أمكان مختلفة في مجتمعنا الفلسطيني يقول:

“..نعم، استعرضت تلك الأحداث المأساوية في داخلي وقلت متحسرا لا بد أن كل أم لهؤلاء الشباب القتلى والجرحى أو المعتقلين كانت قد صنعت كعك العيد ومعمول العيد خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان، فماذا ستفعل بهذا الكعك والمعمول بعد قتل ابنها أو بعد جرحه أو بعد اعتقاله؟ ثم لا شك أن لكل هؤلاء الشبان القتلى أو الجرحى أو المعتقلين إخوة صغارا وأخوات صغيرات، فماذا يفعلون بتلك الملابس الجديدة حيث كان أولئك الصغار والصغيرات ينتظرون لبسها بفارغ الصبر وقد ملأت الفرحة قلوبهم؟….”.

الحزن ينبض بكل كلمة يقولها الكاتب، وتتشكل صورة إنسانية دامية تلامس أوتار القلب. ليست مجرد كلمات، بل هي صرخة من وجدان موجوع يرى في العيد ما لم يعد عيدا، بل لوحة ناقصة، باهتة، مثقلة بالفقد والغياب.

الكاتب، وهو يتأمل حال أمهات القتلى والجرحى والمعتقلين، لا يرى فقط الحزن في وجوههن، بل يتخيله في تفاصيل صغيرة تمزق القلب: في كعك العيد الذي كانت الأمهات يعجنه بأيديهن، على أمل أن يتذوقه الأبناء يوم العيد، فإذا به يتحوّل إلى طعم مرّ، لا يأكله أحد، ولا يدخل السرور إلى أحد. الكعك الذي كان رمزا للفرح، بات شاهدا على المأساة، يوضع في الزوايا، كأنّ الزمن توقف لحظة الفقد.

ثمّ يصور لنا الكاتب صورة أخرى أشد وجعا: الأطفال الصغار، الإخوة والأخوات الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر لحظة لبس ثياب العيد الجديدة. ملابس اشتراها الآباء وربما إخوة أكبر، بشغف ومحبة، وعلقتها الأمهات في الخزائن بعناية، لتكون فرحة العيد كاملة. لكنّ الفرح انكسر. فكيف لطفل أن يفرح بثوبه الجديد وأخوه قد قُتل، جرح، اعتقل؟ كيف تبتسم طفلة وقد غاب أخوها أو أبوها إلى الأبد؟.

هذه الكلمات ليست فقط وصفًا لحال، بل هي مرآة لما تعيشه آلاف العائلات في الداخل الفلسطيني، التي يتحوّل فيها العيد إلى مأتم، والفرحة إلى ذكرى مؤلمة. هي صرخة إنسانية في وجه واقعٍ يسرق الحياة من بيوتنا، ويحوّل طقوس العيد، وأيام أخرى ـ بكل ما فيها من دفء وحنين ـ إلى طقوس وداع وحزن وصبر.

“يا للنفوس الخبيثة فينا التي استغواها الشيطان، فداست على كلّ أولئك الصغار والصغيرات وأوقدت نار آفة العنف وكأنّ قلوبها كالحجارة أو أقسى من الحجارة!! وماذا ستقول هذه النفوس الخبيثة عندما يتعلق بها أولئك الصغار والصغيرات يوم القيامة ويقولون: يا رب، هذه هي النفوس الخبيثة التي منعتنا فرحة العيد وصادرتهما منا عندما كانت مآذن المساجد تردد تكبيرات العيد؟؟! نعم، لقد هاجت في داخلي كل تلك التساؤلات كأنها أمواج بحر هادر، ثم رجعت أدعو الله تعالى أن يطهرنا من آفة العنف ومن ويلاتها التي لا ترحم صغيرا ولا كبيرا، وأردد في داخلي باكيا متضرعا: يا أرحم الراحمين ارحمنا”(106).

هنا ينفجر الألم من بين الكلمات كصرخة مكتومة في وجه قسوة لا تطاق، قسوة البشر حين تُنتزع من قلوبهم الرحمة ويُستبدل الحنان بالغضب الأعمى. الكاتب لا يكتفي بوصف الجريمة كفعل، بل يتأمل في فظاعة دوافعها، ويصف أولئك الذين سمحوا للشيطان أن يتغلغل في نفوسهم حتى قست قلوبهم، فصارت لا ترى الأطفال إلا عوائق، ولا تسمع صدى ضحكاتهم وهي تُخنق تحت رصاص الحقد.

يصرخ الكاتب من أعماق روحه، متخيلا مشهدا مهيبا يوم القيامة، حين يلتف أولئك الأطفال المظلومون حول من حرمهم من بهجة العيد، من لحظة الفرح، من حضن الأمان… ويقولون أمام الله: “هؤلاء هم، يا رب، الذين سلبوا فرحتنا بينما كانت مآذن المساجد تصدح بالتكبير” يا لها من صورة مؤلمة، تختصر حجم الظلم الذي وقع، لا على أجساد الأطفال فقط، بل على أرواحهم البريئة.

وتتوالى في نفس الكاتب العواصف الداخلية، كأمواج بحر هائج لا تهدأ، تتصارع فيها الغضب، الحسرة، الدعاء، والخوف من المصير. ومع كل موجة، يعلو صوت الرجاء، فينحني قلبه بالدعاء: “يا أرحم الراحمين، ارحمنا”. إنها لحظة إنسانية خالصة، حيث لا يبقى للإنسان ما يتمسك به إلا باب الرحمة الإلهية، رجاء في تطهير القلوب، وإنقاذ ما تبقى من إنسانيتنا من غرق في مستنقع العنف والكراهية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى