الأقليات المدلّلة والأكثريات المغفّلة

نص نقله بتصرف: د. يوسف عواودة
عند مجيئي لأكتب ما جال في خاطري من أفكار حول مسألة غالبا ما تُثار عند وصول إسلاميين إلى سدة الحكم، ومن أجل إسناد أفكاري وتأصيلها، رحت أبحث فيما توفر بين يدي من مراجع، فوقعت على نص دقيق عميق رشيق آثرت أن أضعه بين يدي القارئ مباشرة (مع تصرّف طفيف جدا)، فلست ممن بمقدوره أن يعبّر عن هذه المسألة بمثل قدرة كاتب النص وبلاغته وقوة حجته وجزالة عباراته، فالغاية هي التبيين للناس وكشفِ الالتباس، نسأل الله التوفيق والتسديد.
وإليكم مباشرة ما كتبه المفكر محمد المختار الشنقيطي عن التناقض المتوهم بين اختيارات الأكثرية الدينية، وحقوق الأقليات الدينية والأقليات اللادينية، وعن نعت اختيارات الأكثرية بالطائفية واللاديمقراطية فقط لأنها اختيارات دينية!. وقد ورد هذا النص ضمن فصلين وخاتمة من كتابه الصغير في حجمه والكبير في مضمونه وهو بعنوان: “ديمقراطية لا علمانية” الصادر في العام 2022، حيث يقول:
“إن إنصاف الأقليات غير المسلمة في الدول العربية والإسلامية غير متاح دون إنصاف الأكثريات المسلمة. ومن إنصاف الأكثريات احترامُ خيارها في صياغة بناء دستوري وسياسي منسجم مع منظورها الاعتقادي والأخلاقي.
فأكبر خطأ يمكن أن يقع فيه الأقليات غير المسلمة في العالم العربي والإسلامي هو اعتبار كل قوة سياسية إسلامية عدواًّ، واعتبار كل أسلمة للفضاء العام اضطهاداً. والواقع أن الوحي الإسلامي هو الذي يضمن أساسا أخلاقيا صلبا لحقوق الأقليات غير المسلمة (…).
لا بديل عن المواطنة المتساوية التي لا منّة فيها من حاكم على محكوم، أو من أغلبية على أقلية، لكنها مواطَنة تحترم الخيار الشعبي الذي تعبر عنه غالبية المجتمع، كما هو الحال في كل الديمقراطيات الحقّة.
أما استعلاء الأقليات على الغالبية الساحقة من المجتمع، وتمسكها بامتيازات موروثة عن عهد الوصاية الاستعمارية الغربية على المنطقة، فهو يقود إلى مزيد من التشظي المجتمعي والتفتت السياسي. ومن المعترف به تاريخيا أن الاستعمار الغربي -لدوافعه الاستراتيجية والثقافية الخاصة- قد آثر الأقليات على الأكثريات في المجتمعات العربية.
مشكلة الأقليات لا تنفك عن مشكلة الأكثريات، إذ المعركة واحدة، والمصير واحد. لكن بعض العلمانيين العرب يكرهون الإسلام أكثر مما يحبون الحرية، ويدافعون عن حقوق الأقليات ويهدرون حقوق الأكثريات. أما شعار العلمانية والليبرالية الذي يرفعه هؤلاء فيكون -أحيانا- مجرد غطاء شفَّاف، تتستر به الأقلياتُ المدلَّـلة، لتمتطيَ ظهْر الأكثريات المغفَّلة.
ومثل النخب العلمانية العربية في هذا الموقف قادة القوى الدولية الطامعة، الذين يؤرقهم الاضطهاد المحتمَل للأقليات أكثر مما يهمُّهم الاضطهاد الواقع على الأكثريات.
أقصرُ طريق لحصول الأقليات على حقوقها هو تبني حقوق الجميع، وأطولُ طريق إلى ذلك هو بناء هوية حقوقية منفصلة عن بقية المجتمع، ومنسلخة من الرابطة الوطنية الجامعة والفضاء الحضاري المشترك. لكن بعض العلمانيين العرب يرفعون شعار “الدولة المدنية” ويدعمون الدولة العسكرية، ويرفعون شعار “المواطنة المتساوية” ويفكرون بعقلية القلعة الصليبية المتعالية على محيطها.
من المهم أن تدرك الأقليات الدينية والأقليات اللادينية في العالم العربي أن كل الديمقراطيات في العالم متأثرة بدين الأغلبية، ومنقوعة في منظومة القيم التي تؤمن بها الأغلبية، وأن الديمقراطية في العالم العربي لن تكون استثناء من ذلك.
الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية.
يحرص بعض العلمانيين العرب، من المنتمين إلى الأقليات الدينية والأقليات اللادينية، إلى التمييز بين الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية، ويجادلون بأن الذي يحكم في الدول الديمقراطية هو الأغلبية السياسية، وأن ليس للأغلبية الدينية أهمية سياسية في ذاتها. وفي هذا السياق يأتي رد د. عزمي بشارة على الجابري (المفكر المغربي محمد عابد الجابري) في قوله: “لا يمكن أن نقبل خلط الجابري بين الأكثرية والأقلية الطائفية وبين الأكثرية والأقلية في النظام الديمقراطي.
فالديمقراطية لا تعني حكْم الأغلبية الدينية وإنما حكْم الأغلبية فحسب”. وكلام د. عزمي بشارة قد تكون له وجاهة إذا أُخذ في سياق إجرائي وتجريدي، لكنه في السياق العملي والقيَمي كلام لا يستقيم على إطلاقه، بل يحتاج إلى استدراكين اثنين على الأقل:
أما الاستدراك الأول فهو أن الديمقراطية لا تنبت في فراغ ثقافي واجتماعي، والدولة ليست كيانا إجرائيا مجردا، بل هي حصاد تدافعات وتوافقات اجتماعية، منقوعة في الهوية الثقافية والتاريخية لكل مجتمع. والديمقراطيات التي لا تنحاز لدين الأغلبية في نصوص دساتيرها، تنحاز له في نصوص القوانين، وفي المراسيم الإدارية، وفي الانتخابات الدورية. وكل ذلك ناتج عن ترجيحات واختيارات مرتبطة بثقافة الناخبين، وعقائدهم، وقيَمهم، فضلا عن مصالهم المادية المتعيِنة.
فليس غريبا أن أكثر من قرنين وثلث القرن من الديمقراطية الأميركية الراسخة لم يجلب للرئاسة سوى رئيسين كاثوليكيين من أصل خمسة وأربعين رئيسا، هما الرئيس القتيل جون كينيدي (1963-1917)، والرئيس (السابق) جو بايدن.
ورغم أن الدستور الأميركي لا يميِّز ضد الكاثوليك، وهم مسيحيون ويصل تعدادهم نحو خمس السكان البالغين، فإن كل الرؤساء الاميركيين -باستثناء هذين- ينتمون إلى الغالبية البروتستنتية بأطيافها المختلفة: معمدانيةً ومنهجيةً ومشْيخيةً.. وغيرها.
وأما الاستدراك الثاني -وهو الأهم- فهو الفرق بين السياسة العملية المجردة من صراع القيم، كتصويت البرلمان على تمويل شَق طريق أو بناء جسر، وبين السياسة القيَمية التأسيسية التي يظهر فيها التمايز بين الهويات الدينية والثقافية والقومية للمواطنين، مثل كتابة دستور جديد، أو سن قوانين جديدة تتعلق بالهوية والانتماء ومنظومة القيم الاجتماعية.
وفي هذه السياقات القيَمية التأسيسية تحديداً يكون ادِّعاء الفصل بين الأغلبية الدينية والأغلبية السياسية ادّعاءً هشًّا في أحسن الأحوال، وانحيازًا أقلَّويًّا في أسوئها.
والطريف أن من يسعون لتجاهل الأغلبية الدينية، يرفعون شعار الأغلبية القومية، مما يعني أن مشكلتهم ليست مع حكم الأغلبية غير السياسية في ذاته، بل مع ما تحمله الأغلبية المسلمة من عقائد وهوية وقيم.
وحتى في صياغة الدساتير، قد يختلف الأمر في صياغة الفصول الدستورية، من حيث الدلالة السياسية للأغلبيات والأقليات الدينية في ذلك. فقد ميز بعض علماء القانون الدستوري بين ما دعوه “الشِق الكثيف” من الدستور المتعلق بالقيم الكبرى والهوية والمرجعية، و”الشِق الخفيف” من الدستور المتعلق بالمؤسسات والصلاحيات والإجراءات. وتظهر أهمية الأغلبية الدينية في أوقات صياغة “الِشق الكثيف” من الدستور تحديدا، لأنها لحظة تأسيسية، يتم فيها تحديد المبادئ الكبرى، والقيم الناظمة للاجتماع السياسي.
وهي لحظة يكون للأغلبية الدينية وزنها ودلالتها السياسية الصريحة فمن الأكيد -مثلًا- أن الذين صوتوا لمنح المسيحية اللوثرية مكانة خاصة في دستور النرويج والسويد – مثلا- ليسوا المواطنين الكاثوليك أو اليهود في هاتين الدولتين، بل الأغلبية اللوثرية، وهي أغلبية دينية، لا “أغلبية فحسب”.
ومن الأكيد كذلك أن الذين صوتوا لمنح البوذية مكانة خاصة في دساتير سريلانكا وكمبوديا ليسوا المواطنين المسلمين أو الهندوس في هاتين الدولتين، بل الأغلبية البوذية، وهي أغلبية دينية، لا “أغلبية فحسب”.
ومثل ذلك يقال عن كل التنصيص على الهوية والمرجعية الدينية في دساتير العديد من دول العالم، فلماذا نتوقع من الأغلبية الدينية الإسلامية أن تتجرد من تصوراتها وقيمها إذا انخرطت في السياسة ومارست الديمقراطية؟!
وأخيرا..
إن الموقف الإسلامي والإنساني المبدئي يقتضي التصدي لاضطهاد أي فرد أو جماعة دينية أو سياسية، مهما تناقضت أطروحاتها مع رؤيتنا الإسلامية، والوقوف في وجه احتكار السلطة، ورفض حرمان أي كتلة اجتماعية -متدينة أو علمانية- من حقها في العدل والحرية، وفي عرْض بضاعتها السياسية على الشعوب لتحكم لها أو عليها.
كما أن الموقف المبدئي يستلزم التصدي لأي سلطة قهرية، سواء حكمت باسم الدين أو باسم العلمانية. لكن الديمقراطية الحقة في نهاية المطاف انعكاسٌ لوجدان الشعوب تديُّناً أو غيرَ تدين، والصيرورة التاريخية هي التي تحدد التشكل الثقافي لأي مجتمع وما ينتج عن ذلك التشكل من توجهات دستورية. وفي هذا السياق من المهم أن ندرك أيضا أن الهوية غير المهدَّدة ليست بحاجة إلى حصانة دستورية وحماية سياسية، لذلك فإن الولايات المتحدة -مثلا- ليست لديها لغة رسمية، لأن اللغة الإنكليزية التي تغزو كل ركن من أركان العالم اليوم ليست مهددة في عقر دارها بطبيعة الحال.
لكن الأمر مختلف بالنسبة لعدد من اللغات الأخرى، ومنها اللغة العربية اليوم مثلا. وتواجه الهوية الإسلامية اليوم تهديدات وجودية، تتعاضد فيها القوى الدولية ذات الذاكرة التاريخية المعادية للإسلام، مع القوى العلمانية المحلية، وبعض أبناء الأقليات الدينية والأقليات اللادينية، الساعين إلى احتلال الفضاء الثقافي العربي وتوجيهه حسب تحيزاتهم الدينية وأهوائهم اللادينية.
وإذا كان الرادع الخارجي قد حصّن عددا من الأقليات الدينية في العالم العربي ضد الظلم والاضطهاد، منذ التدخل الأوروبي في شؤون الدولة العثمانية في مطالع القرن التاسع عشر حتى اليوم، فإن الأكثريات المسلمة ليست محصّنة ضد أنماط العدوان والتسلط الداخلي والخارجي. فتحتاج هذه الأكثريات المسلمة إلى احترام ذاتها وإنصاف نفسها، دون أن تقع في غبنٍ أو ظلم للأقليات غير المسلمة، التي تجمعها مع المسلمين أرحامٌ وثيقة من النسب والثقافة والتاريخ والجغرافيا.
وفي إنصاف الأكثريات لنفسها مصلحةٌ للجميع: أقليةً وأكثريةً، إذ لا استقرارَ سياسيا على حساب الأكثرية، وأي نظام سياسي يُبني على حساب الأكثرية فهو بركان خامد، ومشروع حرب أهلية مؤجلة (كما كان في سوريا إبّان الحكم البائد).
على أن مفاهيم الأقلية والأكثرية تبقى مفاهيم نسبية، وهي تتغير بحسب الاعتبار، فالكردي السوري -مثلا- جزء من الغالبية المسلمة رغم انتمائه إلى أقلية قومية، والمسيحي السوري جزء من الأغلبية العربية رغم انتمائه إلى أقلية دينية. فالواجب مراعاة دوائر الانتماء المتعددة، واحترام الهويات المتراكمة والمتزاحمة في الفضاء العام، وإعطاء كل ذي حق حقه، بعيدا عن استعلاء الأقليات، وطغيان الأكثريات.
ويبقى واجب الوقت على كل مسلم حر، في الزمن السياسي العربي الراهن، هو التصدي لمن يستغلون حالة الإنهاك والتمزق في مجتمعاتنا لفرض سوابق دستورية على حساب الإسلام، فهذا وقت التشبُّث بالمرجعية الإسلامية السمحة، التي تسع الجميع بروحها الإنسانية الرحبة، وقاعدتها الأخلاقية الصلبة”.



