ثبات الأهداف ووضوحها في زمن المحن

أمير نفار
إن أهدافًا شرعية كبرى، كهداية العالم، وتحكيم الشريعة، وإقامة الخلافة، ونصرة المستضعفين، وغيرها الكثير، لا يمكن أن يتم تهميشها في حس أجيال المنتسبين إلى العمل الإسلامي، بل وأطياف الأمة الإسلامية، اكتفاء بموعظة بليغة، أو رضا بتعليم مفيد، أو قيامًا بخدمة خيرية. حيث يجمعها أنها: عمل في “المساحات الآمنة”، أو أن فيها تسويغًا لقدر من التعايش مع الباطل وأهله.
فقد روى الإمام البخاري حديثًا لسيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه قال فيه: “قلنا يا رسولَ اللهِ ألا تَستَنصِرُ لنا ألا تدعو اللهَ لنا فقال: إنَّ من كان قبلَكم كان أحدُهم يُوضَعُ المنشارُ على مَفْرِقِ رأسِه فيخلصُ إلى قدَمَيه لا يصرفُه ذلك عن دِينِه ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما بين لحمِه وعظمِه لا يَصرِفُه ذلك عن دِينِه ثم قال: واللهِ لَيُتِمَنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غنمِه ولكنكم قومٌ تَستَعْجِلونَ”.
وعلى الرغم من أن الممارسة الفعلية للأسباب المباشرة لهذا “التغيير العالمي” تأخرت، إلا أن أقدام أهل الإسلام ظلت تتحرك في واقع معاش تحكمه اعتبارات، لكنها تتحرك. وحركتها لها وجهة محددة، إنها تتحرك نحو هدف لا يغيب عن العينين، والقلب المحرك يستمد طاقته من رؤيته لهدفه، وهو -في نفس الوقت- يتخير المواضع للقدمين. إذ لو غفل عن الأولى.. تاه، وربما ضاع، ولو غفل عن الثانية.. تعثر وربما سقط.. وضبط العلاقة بينهما هو الاتزان الشرعي المطلوب.
وفي توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه معالم ودلالات منها:
1- أن التضحيات لا ينبغي أن تكون ذريعة لتشويه المنهج، ومن أرهقته التضحيات! فليعط نفسه فرصة لالتقاط الأنفاس، وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان”.. والذي أخذ منه فقهاء الدعوة أن من كان تحت تأثير ضغط ما، يفقد الاتزان الذي لا يجوز أن يحكم بدونه، فهل يتأنى المُتعبون؟ وهل يتأنى المُكبّلون …؟
2- ضعف الأمة أمام أعدائها، هو نفس الظرف الذي تنزلت فيه كلمات الوحي بالأهداف الكبرى، وكان التذكير بهذه الأهداف، مع ضبط الممارسة تجاه الواقع، كان ذلك كله مما أخرج خير أمة، وحقق أفضل واقع.
3- إن الممكن في عالم الأهداف، أكبر من الممكن في عالم الممارسة، وإن رد الفعل بالتفريط في الأهداف، احتجاجًا بقيد الممارسة الممكنة، لهو خطأ أكبر، إذ يسبب تشوهًا في فهم الدين، وقصورًا في نصرته.
4- التعلق بالأهداف الكبرى يحفظ القلب عن التأثر السلبي بظرف الاستضعاف لواقع مرفوض، فلا يتعايش معه، ولا ينكسر أمامه.
5- التعلق بالأهداف الكبرى يحرر القلب من وهم ثبات الأوضاع الباطلة، واستحالة تغييرها، يتحرر بأمل ويقين، يحركان القدمين، لتخطو الحركة المناسبة في الاتجاه الصحيح.
– لا بديل عن تبني الأهداف الكبرى، إلا… الانتحار الدعوي، فالداعية حين يتشاغل عن قضايا الأمة المصيرية، كالخلافة الغائبة، والشريعة المحاربة، والمقدسات المحتلة، والثغور الملتهبة، وغيرها من النوازل الكبرى… ويرضى فقط بما تسمح به “الثقافة الغالبة” كقصة رقيقة، وموعظة لطيفة، وقضية وهمية يحارب فيها أعداء منقرضين، أو أطلال أعداء لا يمثلون التحدي الأخطر على الأمة حاليًا، ونحوها… يمارس انتحارًا دعويًا.
والداعية حين لا يكون صوتًا للحق، ونصرة للمظلوم.. بل ينتقل ليكون تشويشًا على الحق ولو تلميحًا، وينتقل إلى تسويغ ظلم، ولو بأوهى تأويل، حين يفعل ذلك… يمارس انتحارًا دعويًا.
والداعية حين يغير المواقف والمبادئ الشرعية الثابتة، ليتواءم مع أوضاع جديدة، ربما تكون قهرًا يغلّ اليد، وربما تكون مكتسبات توضع في اليد، ويسبغ عليها شرعية مُدعاة.. حين يتغير هكذا.. يمارس انتحارًا دعويًا.
ختامًا: نرجو أن تكون هذه الكلمات حياة لأرواح المؤمنين، ورفعة لقلوب الصادقين، ونورًا لأبصار المهتدين، في زمن غربة واستضعاف، وحال ظلمة والتباس -مع إيماننا الجازم بأننا إلى الفرج أقرب بإذن الله- وصدق الله: {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} -الصف 9 -.