أرجو أن لا ننسى كل ذلك

الشيخ رائد صلاح
نحن، أمام مشهد إسرائيلي بدأ يتبلور على هيئة معسكرين. المعسكر الأول هو معسكر بقايا اليسار (الذي لم يبق منه إلا كباقي الوشم على ظاهر اليد)، إلى جانب وسط اليمين. أما المعسكر الثاني، فهو معسكر اليمين وتكتل المتدينين. وها هو المعسكر الثاني يتولى سدة الحكم الآن، ويقف على رأسه (نتنياهو)، في المقابل، لا يزال المعسكر الأول في صف المعارضة، ويقف على رأسه (لابيد).
وها هو العالم يرى، عبر البث المباشر، مشهد القتل والحصار والتجويع والتهجير والهدم بلا توقف في غزة، إلى جانب مشهد يقع في الضفة الغربية بعامة (وعلى مخيماتها بخاصة)، ليس ببعيد عما يقع في غزة.
ورغم أن العالم بات عاجزًا عن وقف ما يجري من مآسٍ في غزة أو الضفة الغربية، إلا أنه خرج عن صمته، وباتت العديد من الحكومات والمنظمات الدولية والحركات الشعبية تدين ما يجري في غزة والضفة الغربية (تارة تصفه بالإبادة الجماعية، وتارة بجرائم حرب، وتارة بجرائم ضد الإنسانية).
وكما نعلم، فإن جنوب إفريقيا لم تقف عند حد بيانات التنديد، بل رفعت شكوى ضد الحكومة الإسرائيلية في محكمة الجنايات الدولية. وعلى إثر ذلك، باتت مجموعة من أفراد الحكومة الإسرائيلية مطلوبة للعدالة، وهناك احتمال القبض عليها إذا سافرت إلى العديد من الدول الملتزمة بقرارات محكمة الجنايات الدولية (لدرجة أن نتنياهو تجنب السفر إلى إيطاليا لتهنئة البابا الجديد، لأنه قد يتعرض للاعتقال بناءً على كونه مطلوبًا للعدالة، وفق ما أعلنته محكمة الجنايات الدولية).
لكن الغريب العجيب، أن المعسكر الأول الإسرائيلي (الذي يضم بقايا اليسار ووسط اليمين) لم نسمع منه أي تعقيب على مشهد كل هذه المآسي التي لا تزال تقع في غزة والضفة الغربية. وهو الذي صدّع رؤوسنا على مدار عقود ماضية، وهو يتحدث عن التعايش والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، وعن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. لكن كل هذه الشعارات تبخرت خلال التسعة عشر شهرًا الماضية، وكأنها لم تكن أصلًا.
وأنا شخصيًا، لم أسمع من أي شخص يمثل هذا المعسكر الأول الإسرائيلي يدين القتل والحصار والتجويع والتهجير والهدم في غزة أو الضفة الغربية (سوى تصريحات يتيمة من يعلون).
وكذلك، لم نسمع من أي من المجتمع الإسرائيلي (الذي يقف وراء هذا المعسكر الأول) أي تصريح يطالب بوقف هذا القتل والحصار والتجويع والتهجير والهدم في غزة والضفة الغربية، ولا يزال هذا المعسكر الأول الإسرائيلي، على صعيد قيادته وجمهوره، يلتزم بالصمت المطبق حتى الآن حيال ما لا يزال يقع الآن من ويلات على غزة والضفة الغربية.
ويوم أن بدأ هذا المعسكر الأول الإسرائيلي يطالب بإيقاف الحرب، ويوم أن بدأ بتنظيم المظاهرات والمسيرات، ويوم أن بدأ يهاجم هذه الحكومة الإسرائيلية الحالية، ويوم أن بدأ يهاجم نتنياهو وبعض وزراء هذه الحكومة، ويصفهم بكلمات جريئة، فإن هذا المعسكر الأول الإسرائيلي ما قام بكل ذلك إلا من منظور مصلحة إسرائيلية خالصة فقط.
حيث إنه قام بذلك لأنه يطالب بعقد صفقة تؤدي إلى إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين، ولأنه يخاف على مصير المؤسسة الإسرائيلية إن استمرت هذه الحرب على غزة، ولأنه يخاف على مصير اقتصاد المؤسسة الإسرائيلية، وعلى سمعتها دوليًا، وعلى خطر تفكك تماسكها الاجتماعي، وعلى خطر تآكل قوتها الردعية. لكل ذلك فقط يطالب هذا المعسكر الأول الإسرائيلي بإيقاف الحرب، ويواصل شن هجومه بلا توقف على الحكومة الإسرائيلية الحالية.
وكأن مأساة غزة ومأساة الضفة الغربية ليست في حسابات هذا المعسكر الأول الإسرائيلي، بل وكأن مأساتنا في الداخل الفلسطيني (على صعيد الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية) ليست في حسابات هذا المعسكر الأول الإسرائيلي. فأنا وغيري، لم نسمع أي تنديد من هذا المعسكر الأول الإسرائيلي بالاعتقالات الإدارية التي طالت العشرات منا في الداخل الفلسطيني، وفي مقدمتهم الأستاذ رجا إغبارية، ولم نسمع من هذا المعسكر الأول الإسرائيلي أي تنديد بتقاعس الحكومة الإسرائيلية الحالية المشبوه عن القيام بدورها لمحاربة العنف الأعمى الذي بات يهدد مصير مجتمعنا في الداخل الفلسطيني.
ولم نسمع من هذا المعسكر الأول الإسرائيلي أي تنديد بما يتعرض له النقب الآن من خنق وتضييق وترحيل لا يطاق، وبما يتعرض له الجليل والمثلث من تصاعد وتيرة هدم البيوت فيه.
ولم نسمع من هذا المعسكر الأول الإسرائيلي أي تنديد بحزمة القوانين العنصرية التي صيغت على مقاسنا في الكنيست الإسرائيلي، والتي لا تزال تزداد يومًا بعد يوم، ولا أي تنديد بسياسة مصادرة الحريات وتكميم الأفواه، والتضييق على الطلاب الجامعيين العرب، وفصل البعض منا من أماكن عملهم على الشبهة، سواء كانوا أطباء أو ممرضين أو معلمين أو عاملين، ولا تزال قائمة المفصولين مرشحة للزيادة، ومع ذلك، لم نسمع أي تنديد صدر عن هذا المعسكر الأول الإسرائيلي حيال ما يقع الآن مما يحدث في غزة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، وأرجو أن لا ننسى كل ذلك.
1- أرجو أن لا ننسى كل ذلك، لأنه بعد قليل، سيقترب موعد انتخابات الكنيست القادمة، وسيتظاهر هذا المعسكر الأول الإسرائيلي بالتقرب إلينا، وسيبسط لنا يده مدعيًا كرمًا حاتميًا وإنسانية بلا حدود، وحرصًا على الحريات، وسعيًا لاستئصال العنف الأعمى الذي يهدد مصيرنا من جذوره، وقد يتسلل هذا المعسكر الأول الإسرائيلي إلى بلداتنا في الداخل الفلسطيني، ويعلق فيها صور مرشحيه للرئاسة والعضوية، وقد يبدأ فجأة برفع صوته والتغني بشعار (دولة لشعبين)، أو بشعار (تعايش ومساواة)، أو بشعار (دحر اليمين الفاشي)، وكأن نبضه ليس يمينًا، أو بشعار كنس التكتل الديني الاستيطاني، علمًا أنه هو أول من بدأ بمشروع الاستيطان، وقد ينطلي ذلك على البعض منا مع شديد الأسف.
2- أرجو أن لا ننسى كل ذلك، لأن البعض فينا سيتوجه لنا كأنه المعلم ونحن التلاميذ، وقد يقول لنا: آن الأوان أن تفهموا في السياسة، وآن الأوان أن تسمعوا لي وتصادقوا على تحليلاتي وتطيعوا أمري، وأن تدعموني بأصواتكم في انتخابات الكنيست، فأنا الذي سيحول لكم منبر الكنيست إلى منقذ لغزة والضفة الغربية والداخل الفلسطيني، وأنا… وأنا… وأنا….
3- أرجو أن لا ننسى كل ذلك، لأن البعض الآخر فينا سيخرج علينا بزينته، وسيقول لنا معاتبًا على قاعدة (خذوهم بالصوت حتى لا يغلبوكم): آن الأوان أن تصدقوا ما قلت لكم بالسابق، آن الأوان أن ننتقل من لعبة الكنيست إلى لعبة الانخراط في أي ائتلاف حكومي إسرائيلي، سواء كان يمثل المعسكر الأول الإسرائيلي أو المعسكر الثاني الإسرائيلي، آن الأوان أن نجرف حقوقنا جرفًا يوم أن ننخرط في أي ائتلاف حكومي إسرائيلي، ودعوكم من مصطلحات القضايا المطلبية والقضايا الوطنية، فهي سفسطة كلامية.
4- أرجو أن لا ننسى كل ذلك، لأن البعض منا سيخرج علينا وكأنه يقطر براءة، وسيقول لنا: ما العيب أن نحصل على دعم مالي من صناديق دعم أمريكية لتغطية نفقات حملاتنا الانتخابية في الكنيست؟ فصناديق الدعم الأمريكية في وادٍ وبايدن وترامب في وادٍ آخر.
5- أرجو أن لا ننسى كل ذلك، لأن البعض منا سيلبس لنا ثياب الواعظين، وسيبدأ يحدثنا عن قدسية الوحدة، وأهمية وحدة الصف، وعن ضرورة بناء قائمة موحدة في الكنيست، وسيبدأ يتغزل على مسامعنا بالوحدة، وكأنه قيس والوحدة ليلى، وسيقول لنا: الوحدة قوة، الوحدة صوت الجماهير، الوحدة حصن الشعب الكريم، وبطبيعة الحال، لن يسمع لأحد إذا ذكّره بالوحدة التي وأدناها بأيدينا.
6- لكل ذلك أرجو أن لا ننسى كل ذلك.