معركة الوعي (232) الصعود إلى الهاوية أحلام ترامبياهو في إمبراطورية غزة

حامد اغبارية
(1)
هَبْ أنَّ الاحتلال الإسرائيلي، ومِن خلفه الويلات المتحدة الأمريكية، حققت وَهْمَ الانتصار على غزة وعلى حركة حماس، كما يردد نتنياهو وحاشيته منذ السابع من تشرين الأول 2023؛ وهَبْ أنّ حركة حماس وسائر الفصائل الفلسطينيّة قررت الانسحاب من المشهد الفلسطيني والاختفاء من الساحة كليًّا، فهل سينتهي الأمر عند هذا الحد؟ هل ستتوقف أطماع المشروع الصّهيوني؟ أم أنَّ هناك من لا يزال يصدّق بأنّ مشكلة الاحتلال هي مع حركة حماس، حتى إذا اختفت حماس استقرت الأمور وعاد الاحتلال ليلعب الورق في مقاهي تل أبيب؟
إن أطماع وخطط المشروع الصهيوني أكبر بكثير مما يمكن أن يتصوره المغرَّر بهم. ذلك أن مشكلة الاحتلال ليست مع هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك، وإنما مشكلته مع الشعب الفلسطيني من حيث وجوده أصلا.
هذا ما قلناه طوال الوقت، وهذا ما قدمنا عليه الدليل تلو الدليل، بل قدم قادةُ المشروع الصهيوني منذ بن غوريون عليه من الأدلة ما يكفي ويزيد، قولا وفعلا وسلوكا وممارسة.
ولو أنك راجعت سياسة الاحتلال الإسرائيلي منذ 1948، ولغاية اليوم، وخاصة في المحطات المفصلية ذات التأثير على مجريات الأمور، فإنك ستجد في كل محطة ما يقول لك إن أحلام المشروع الصهيوني لا تتوقف عند حدود فلسطين التاريخية، بل تصل إلى أكثر وأكبر من ذلك بكثير. وإنّ ما يجري اليوم في غزة والضفة الغربية إنما هو فصل في كتاب ضخم أو هو حلقة صغيرة في سلسلة تمتد حلقاتها أبعد من خيالك المحاصَر بتفاصيل ليس لها علاقة بالواقع، أدخلَك فيه محللون عابرون عبر الشاشات، لا تتجاوز “إبداعاتهم التحليلية” مساحة الحدث الحالي.
من النيل إلى الفرات؟
نعم… وهذا قالوه ويقولونه بصراحة!
مكة المكرمة ومدينة رسول الله؟
نعم… وقد قالوا هذا ويقولونه بكل وضوح ووقاحة وجلافة وصفاقة!
إنشاء مملكة إسرائيل الكبرى؟
نعم… وهل قام المشروع الصهيوني إلا من أجل هذا؟
واعلم أنّ حلم مملكة إسرائيل الكبرى هو حلم تلمودي يؤمن به المتديّن منهم والعلماني والملحد. ثم اعلم أنّ لهذا الحلم شروطا حتى يتحقق، ومن أهمّ شروطه بناء هيكل ثالث مزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، فدون ذلك سيبقى الحلم معلقا، ولن يتمكن “ميلخ مشيّح” من حكم العالم من مملكته مترامية الأطراف، ولن يستطيع تخليص البشرية من “الأشرار” الذين هم نحن؛ أنا وأنت.
لذلك فإن وجود الشعب الفلسطيني، حتى لو كان ساكنا هادئا مسالما مستسلما لواقعه، يشكل العقبة الأكبر أمام هذه الأحلام، ولذلك لا بدّ من إزالة العقبة واقتلاعها من جذورها.
إن كنت فهمت فاحمد الله على هذه النعمة، وإن لم تستوعب حجم المسألة حتى هذه اللحظة، فلن تستوعب بعد الآن، لأنك تعاني من مشكلة معقدة ليس لها علاج.
(2)
هل سألت نفسك: لماذا تمنع السلطات الإسرائيلية الأسرى الذين أطلقت حركة حماس سراحهم ضمن الصفقة، من التحدث إلى وسائل الإعلام؟ لماذا لا يسمحون لهم بإطلاع جمهورهم على ظروف أسرهم؟ ولماذا يفرضون التعتيم التام على هذه القضية؟ ولما “يَخرُج” أو “يُخرَج” أحد أقارب (وخاصة إحدى قريبات) هؤلاء الأسرى ليدلي أو تدلي بتصريح حول “التنكيل والتعذيب والتجويع والضرب والإهانة والتكبيل بالسلاسل والاعتداء الجنسي” (آه والله…!) الذي تعرضوا له في أسرهم؟! ما الذي يريدون إخفاءه عن سمع جمهورهم وبصره وعقله وعن الرأي العام العالمي؟
أثارت حالة الهزال التي بدا عليها الأسرى الإسرائيليين الثلاثة، الذين أُطلق سراحهم في الدفعة الأخيرة السبت الماضي، ردود أفعال غاضبة في أوساط الإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين وسائر الكذابين من أدعياء الإنسانية، وبدأت حفلة لطم وبكاء من المحيط إلى المحيط لم تنته إلى هذه اللحظة، مع تشبيه الحالة (يا للهول!!) بمشاهد ضحايا النازية في معسكرات الاعتقال، ذلك دون أن يسأل هؤلاء عن السبب. فالسبب جاهز دائما والمتهم موجود. فقد تعمد آسروهم تجويعهم والتنكيل، دون أن ينسى اللطّامون مزج بكائياتهم بتهمة اللاسامية وكراهية “شعب الله المختار”. يحدث هذا على الرغم من أن الدنيا كلها تعرف السبب، بمن في ذلك اللطّامون أنفسهم.
ولكن من ذا الذي سينصت إلى صوت الحقيقة في الوقت الذي تعمل ماكنة التضليل الإعلامي على غسل الأدمغة وتضليل العقول منذ لحظة الأسر الأولى؟ لا أحد يريد أن يسمع إلا ما يقوله أبناء البيضاء. أما أبناء زبيبة فلا يُسمح لأحد أن يسمعهم، فهُم أبناء السوداء الذين لا يستحقون حتى البكاء على مصيبتهم.
لقد تباكت عيون الكذب على مشهد ثلاثة أسرى فقدوا بضعة كيلوغرامات من وزنهم في الأسر، وأصبح الثلاثة حديث الإعلام الغربي، من البيت الأبيض إلى كل بيوت العهر السياسي حول العالم.
لم يعلم هؤلاء أن السبب يكمن في سياسة التجويع التي يفرضها الاحتلال على مليوني فلسطيني في قطاع غزة منذ خمسة عشر شهرا.
ولم ير هؤلاء العميان مئات آلاف الفلسطينيين الغزيين الذين لم يفقدوا وزنهم فحسب، بل فقدوا كل أسباب الحياة بسبب جرائم الاحتلال المنهجية. لم تر عيون هؤلاء المثقوبة مئات الأطفال والرضع والخدّج والعجائز الذي تحولوا إلى هياكل عظمية وفارقوا الحياة، نزفا أو جوعا أو عطشا أو مرضا، بسبب سياسة الاحتلال المستمرة منذ الاجتياح المجنون.
فقَدَ هؤلاء بصرهم وسمعهم ونطقهم ومشاعرهم، فلم يروْا عشرات آلاف الضحايا، ولم يسمعوا أنين الجرحى والجوعى والعطشى والعراة والمشردين، ولم يشعروا بألمهم ووجعهم وعذابهم ومعاناتهم، فخرست ألسنتهم عن النطق.
أما الحقيقة فهم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، بل أكثر مما يعرفون أبناءهم، يعرفون أنّ الأجدر بالتشبيه لما حدث في معسكرات الاعتقال النازية هم أهل غزة بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم. لكن هؤلاء صمّوا وعمُوا وأصيبوا بالبُكم فهم لا يرجعون.
(3)
لا يمكن أن تبني القصور على السراب، ولا على الوهم أمجادا. لذلك فإنّ إشغال العقول والنفوس والأوقات الثمينة في البحث عن مواقف ذات شأن من أنظمة العار العربية على خلفية مشروع ترامب لإفراغ غزة من أهلها هو من العبث وتضييع الوقت وبذل الجهد فيما لا ينفع.
فلو كان عند هذه الأنظمة ذرة من كرامة، أو بعضٌ من رجولة، أو حتى شذرة من مروءة أهل الجاهليّة الأولى والثانية والثالثة لظهرت عليهم “أعراض الحمل” من أول لحظة. لكنك لم تجد بينهم حتى مروءة هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية المخزومي الّلذيْن أبت عليهما مروءتهما وصلة الدم أن يبقى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون الأوائل محاصرين في شِعب أبي طالب، فعمدا إلى خرق الحصار وتمزيق صحيفة الظلم التي هي أشبه ما تكون بكل صحائف الظلم في العصر الحديث. أما أنظمة العار فلا يقال لها إلى كما قال أبو طالب عمّ النبيّ منشدا:
وَلَمَّا رَأَيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ فيهِمُ وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِل
وَقَدْ صارَحُونا بالعَداوةِ وَالأَذى وَقَد طاوَعُوا أَمْرَ العَدوَّ المُزايِل
وَقَدْ حالَفُوا قَوْماً عَلَيْنا أَظِنَّةً يَعَضُّونَ غَيْظا خَلْفَنا بِالأَنامِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابهِ بِالْوَصَائِلِ
أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ، حَقُّ الْبَيْتِ، مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ … وباللَّه إنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
فما أشبه غزة بشِعب أبي طالب!
(4)
لن تنتهي الحكاية ولن ينتهي المشهد الحالي على الصورة التي يريدها نتنياهو وترامب ومن لف لفهما. فإننا إزاء حالة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، تقف فيها “إمبراطوريّة غزة” في مواجهة فلول الكرة الأرضية وعصاباتها من عجم ومن عرب ومن غيرهم من الذين يريدون السوء ليس فقط لغزة ولا للشعب الفلسطيني فحسب، وإنما لأمة سبق لأجداد هؤلاء أن حاولوا اقتلاعها فلم يفلحوا، وخابت جهودهم وذهبت أوهامهم أدراج الرياح، وخرجوا من التاريخ ملعونين خاسرين يلعقون بقايا خيبتهم وصديد فشلهم.
ويقيني أنّ ما يجري من أحداث في الأيام الأخيرة ومن تداعيات وتصريحات ومخططات ومشاريع إنما هي إرهاصات لأحداث جليلة عظيمة يُعِدّ لها رب الكون سبحانه ما لم يخطر لهؤلاء الحمقى في بال.