المطلوب إسلاميا وعربيا بعد وقف إطلاق النار في غزة

الشيخ رائد صلاح
المطلوب الأساس الأول على الصعيد الرسمي الإسلامي والعربي، هو توضيح الموقف توضيحًا جليًا لا ريب فيه من القضية الفلسطينية بعامة، ومن القدس والمسجد الأقصى المباركين بخاصة!!
فهل يتعامل العمق الرسمي الإسلامي والعربي مع هذه القضية بعمومها وخصوصها، على اعتبار أنها قضية الأمة الإسلامية والعالم العربي إلى جانب اعتبارها أنها قضية الشعب الفلسطيني؟! أم يتعامل معها على اعتبار أنها قضية الشعب الفلسطيني فقط!!
ولا مجال للتعجب من هذا السؤال، فإنَّ بعض المواقف والخطابات الرسمية الإسلامية أو العربية تشير إلى أنَّ من يقفون من وراء هذه الخطابات من حكام وحاشيتهم يتعاملون مع القضية الفلسطينية كأنها قضية الشعب الفلسطيني فقط.
وعلى سبيل المثال، يوم أن سمحت بعض الأنظمة الإسلامية أو العربية لنفسها وقفزت عن القضية الفلسطينية وأبرمت اتفاقيات تطبيع مع المؤسسة الإسرائيلية، فهذا يعني أنّ هذه الأنظمة المُطبّعة يتعاملون مع القضية الفلسطينية على اعتبار أنها قضية الشعب الفلسطيني، ووفق حسابات هذه الأنظمة المُطبّعة فإن هذه الأنظمة المطبعة لها مساراتها الخاصة بها وللقضية الفلسطينية مساراتها الخاصة بها، ولهذه الأنظمة المطبعة ميزان المصالح والمفاسد والأرباح والخسائر، وربط العلاقات الإقليمية والعالمية أو قطعها وفق حساباتها الخاصة بها فقط حتى لو تعارض ذلك مع القضية الفلسطينية حاضرا ومستقبلا.
ولذلك في الوقت الذي قطعت فيها بعض الدول غير الإسلامية والعربية علاقاتها مع المؤسسة الإسرائيلية احتجاجا على هول الهدم والقتل والتهجير والحصار بغزة، رغم أنّ هذا البعض من الدول لم يعتبر في يوم من الأيام أن القضية الفلسطينية هي قضيته.
وفي الوقت الذي تجرأت فيه دولة جنوب أفريقيا وتقدمت بشكوى إلى محكمة الجنايات الدولية ضد المؤسسة الإسرائيلية متهمة المؤسسة الإسرائيلية أنها ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بغزة، وفي الوقت الذي أعلنت فيه تركيا صراحة قطع العلاقات مع المؤسسة الإسرائيلية إلا أن بعض هذه الدول المطبعة صدر عنها خلال مأساة غزة التي امتدت خمسة عشر شهرا صدر عنها سلوكيات وتصريحات ومواقف مريبة تؤكد أنها أبعد ما يكون عن اعتبار القضية الفلسطينية قضية الأمة الإسلامية والعالم العربي، فبعض هذه الدول المُطبّعة تلاعبت بشاحنات الإغاثة الإنسانية التي جاءت من دول شتى وكان من المفروض أن توزع على المنكوبين بغزة مأساة العصر.
وبعض هذه الدول المطبعة سمحت في نطاق محدود لشعبها أن يقوم بنشاط شعبي محدود لإسناد غزة في كربها، ومن كان يجرؤ ويتجاوز هذا النطاق المحدود من الشعب المطارد، كان يتعرض فورا للاعتقال، لدرجة أنها طالت لائحة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي في بعض هذه الدول المطبعة، لا لسبب إلا لأنَّ هؤلاء المعتقلين خرجوا عن دائرة النطاق المحدود لهم المسموح به للتعبير عن تعاطفهم مع كوارث غزة، وبعض هذه الدول المطبعة فتحت مجالها البري والبحري والجوي لمرور قوافل المساعدات المختلفة للمؤسسة الإسرائيلية يوم إن استعصى على هذه القوافل المرور من البحر الأحمر أو من أجواء شتى لدول رفضت تواصل الكارثة الإنسانية بغزة، ودعت الى محاكمة ومقاطعة المؤسسة الإسرائيلية.
وبعض هذه الدول المطبعة أبقت على أبواب السياحة فيها مفتوحة لكل الحركة السياحية الإسرائيلية، وكأن غزة لا تغرق بدماء رضعها وأطفالها ونسائها وعجائزها وشيوخها. وبعض هذه الدول المطبعة ألقت الحبل على غاربه لمن أمرهم بيدها من أصحاب مواقع التواصل المختلفة ومن أصحاب العمائم والكوفيات الدائرين مع هذه الأنظمة المطبعة حيث دارت.
فراح أبطال مواقع التواصل هذه وراح أصحاب هذه العمائم والكوفيات يلمزون ويهمزون بغزة بتعليقاتهم السفيهة وخطب الجمعة العرجاء والفتاوي المأجورة -تحت الطلب- وفق قاعدة السوق (بيع من يزيد) لسحر أعين الناس ومحاولة إحالة الضحية الى مجرم، وإحالة المجرم الى مظلوم، وخلط الأوراق، حتى يصبح الحليم حيرانا!!
وما كان هناك عاقل أو عاقلة في الأرض ينتظر من هذه الدول المُطبّعة أن تستدعي سفيرها المستلقي في تل-أبيب على أريكته الفاخرة، أو تستدعي السفير الإسرائيلي المدلل في حماها أو أن تعلن عن قطع علاقات تجارية أو سياحية أو رياضية أو فنية مع المؤسسة الإسرائيلية، احتجاجا على تواصل أهوال غزة التي هزت كل الإنسانية، وصدّعت الجبال وكادت السموات أن تتفطر وأن تقع على الأرض!!
وليت أنظمة التطبيع هذه اكتفت بالصمت، في الوقت الذي عجزت فيه عن قول كلمة حق واحدة جادة قد تواسي صرخة أرملة أو ثكلى أو بكاء رضيع أو ولولة يتيم بغزة!! ليتها اكتفت بالصمت ولعلها بذلك تكون قد أخذت بالتوجيه النبوي القائل: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)!! ليتها لو صمتت يوم أن عجزت عن قول الخير!! وليتها قد أخذت بالتوجيه النبوي القائل: (إذا بليتم فاستتروا)!! حيث إنه من الواضح أنها قد بليت بداء الوهن، فيا ليتها لو استترت لكانت بذلك تحفظ على نفسها عورتها، ولا تبان سوأتها!! وليتها قد أخذت بالتوجيه النبوي القائل: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان)!!
فيا ليتها يوم أن عجزت عن تغيير المنكر الذي جثم على غزة خمسة عشر شهرا بيدها أو بلسانها، ليتها لو اكتفت أن تغير هذا المنكر بقلبها!! ولكن هيهات هيهات فقلبها ليس مع غزة حتى يحزن على غزة ويرفض بقاء المنكر جاثما عليها خلال هذه الأشهر الطويلة!! بل إن هذه الأنظمة المطبعة كانت مشغولة على ما يبدو بمساعدة العم سام (بايدن) الحيران الذي كان يحاول طوال الوقت التوصل الى إجابة شافية حول السؤال التالي: ماذا عن اليوم الثاني بغزة!!
لكل ما أوردت أعلاه، ومع وجود الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، حيث أوشكتا على التقاعد، فقد بات من الضروري الكشف صراحة عن جدلية العلاقة بين كل نظام إسلامي أو عربي من جهة، وبين القضية الفلسطينية من جهة أخرى.
فكما أنه ليس كل ما يلمع ذهبا، وكما أنه ليس بروز نيوب الليث يدل على ابتسامته وكما أنها ليست دموع الثكلى كدموع المستأجرة، فقد آن الأوان للانتقال من مرحلة الأقنعة التي غطت وجوه أنظمة إسلامية أو عربية عقودا طويلة الى مرحلة التمايز والغربلة والوضوح، ومعرفة من هي الأنظمة التي أعلنت فك الارتباط مع القضية الفلسطينية، والأنظمة التي لا تزال تحافظ ولو نسبيا مهما كانت النسبة المئوية ضئيلة على اعتبار أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة الإسلامية والعالم العربي الى جانب كونها قضية الشعب الفلسطيني.
وإلا فإن هذه الحالة الضبابية التي تخيم على الحاضر الإسلامي والعربي في طبيعة التعامل مع القضية الفلسطينية ستُبقي القضية الفلسطينية كأنها قضية يتيمة لا عزوة لها، وكأنها قضية منبوذة لا سند لها، وكأنها قضية مبتورة لا عمق إسلامي عربي لها.
وها هي الأنظمة الإسلامية والعربية في امتحان مكشوف تحت المجهر وبالبث المباشر، والكل يشاهدها الآن طوال الوقت، على صعيد الجماهير المسلمة والعربية على امتداد الحاضر الإسلامي والعربي، وعلى صعيد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وعلى صعيد الحاضر الإنساني في الأرض، حيث أن هذه المليارات من المسلمين والعرب والفلسطينيين وغيرهم من سائر الملل والنحل، باتت تسأل نفسها الآن: كيف ستتعامل الأنظمة الإسلامية والعربية مع فاجعة غزة؟!
هل ستتعامل معها في المنظور الإغاثي فقط؟! وكأن فاجعة غزة هي كأية فاجعة أخرى وقعت على أي شعب آخر في الأرض ويكفي الأنظمة الإسلامية والعربية أن تتصدق على شعب هذه الفاجعة بدراهم معدودة قياسا للمليارات التي تمتلكها؟! أم ستتعامل مع فاجعة غزة على اعتبار أنها فاجعة الأمة الإسلامية والعالم العربي؟!
وكيف ستتعامل هذه الأنظمة الإسلامية والعربية مع تصريحات ترامب الخرقاء الأخيرة التي تدعو الى استباحة التطهير العرقي بغزة واستباحة صفحة التهجير من جديد كما كانت عليه مع بدايات نكبة فلسطين؟! هل ستستشعر هذه الأنظمة أن هذه التصريحات الترامبية تشكل خطرا مصيريا يهز عروشها على اعتبار أن الشعب الفلسطيني أمانة في أعناقها كسائر الشعوب المسلمة والعربية؟! أم ستتعامل مع هذه التصريحات الترامبية على اعتبار أنها خطر محدود ومحصور في حدود الشأن الفلسطيني فقط.
وماذا عن مصير القضية الفلسطينية التي طالت عليها الأيام؟! هل ستبقى الأنظمة الإسلامية والعربية تناشد بإقامة دولة فلسطينية، مما يعني أن فاجعة غزة قد تعود على نفسها أو قد تصيب الضفة الغربية أو قد تصيب الأهل في الداخل الفلسطيني أم أن هذه الأنظمة ستصارح نفسها مؤكدة أن الحديث عن حقوق الإنسان بلا قوة ضاغطة سياسيا أو اقتصاديا أو دبلوماسيا ما هو إلا ثرثرة فوق النيل!! ولا بد من صناعة ضغط إسلامي عربي سياسي واقتصادي ودبلوماسي سيختصر الزمن على مستقبل القضية الفلسطينية، وسيتحول خطابها من لهجة المناشدة الى لهجة الضغط، سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا، مما سيفرض قيام دولة فلسطينية؟!
وماذا عن مصير القدس والمسجد الأقصى المباركين؟! هل ستبقى جدلية العلاقة بينهما من جهة وبين هذه الأنظمة الإسلامية والعربية من جهة أخرى، هي علاقة المتفرج عليهما بشعور قلة الحيلة أم أن صناعة الضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي يوم أن توفرها هذه الأنظمة الإسلامية والعربية، ستشكل الإسناد الحقيقي للقدس والمسجد الأقصى المباركين، على اعتبار أنهما قضية الأمة الإسلامية والعالم العربي كما أنهما قضية الشعب الفلسطيني.