في مناقشة قصة ميسون أسدي (هل الأولاد يعرفون؟) هـــل الكبار يعقـــلون؟!
حامد اغبارية
بعد هدوء العاصفة، وبعيدا عن التشنج وردود الفعل المتوترة، وغير المنضبطة أحيانا، سنحاول هنا أن نناقش قصة ميسون أسدي للأطفال “هل الأولاد يعرفون؟”، التي تتطرق فيها، بأسلوب قصصي، إلى كيفية الحمل والإنجاب والعلاقة الجنسية بين الزوجين، وخلفياتها ودوافعها، وهو في الأساس نقاش مع الكاتبة، أو حول الكاتبة، قبل أن مع مضمون القصة.
مما لا شك فيه أن الخلفية الفكرية والثقافية والعقائدية والإيديولوجية لأي شخص تحدد له بوصلته، ومن ثم تحدد مصطلحاته وأدواته التي يستخدمها في حياته وممارساته وكتاباته ونقاشاته، بل أيضا أسلوب حياته في البيت والمجتمع، وطريقته في التعاطي مع مختلف الأمور.
وميسون أسدي خلفيتها علمانية شديدة الوضوح، وهي تحمل أفكارا “تحررية” مشربة بخليط من الإيديولوجيات الشيوعية والغربية. ومن منطلق فهمنا لشخصية الكاتبة، نسجل هذه الملاحظات:
أولا: تعقيبا على موقف الجمهور من قصتها تلك، قالت أسدي في إحدى مقابلاتها الصحافية: “أنا حرة بالمضامين التي أقدمها، والضجة التي أثارتها قصتي متخلفة”.
وهذا رد متشنج وعصبي، ينم عن دخول الكاتبة في ضائقة نفسية جراء الحملة ضد قصتها تلك، وهذه الحالة معروفة في علم النفس الاجتماعي، حيث أن أي شخص ينجز عملا ما يظن أنه أحسن فيه، فإنه يتوقع أن ينهال عليه المديح من كل جانب، ويرفض-في اللاوعي-أي انتقاد أو هجوم أو رفض لما أنجزه، حتى لو حاول أن يظهر بمظهر المتقبل للنقد السلبي، فيكون رد فعله عفويا غاضبا، وغير منطقي. ولهذا نراها تصف منتقديها بالتخلف و “هبّة القطيع”!! بمن في ذلك الاتحاد القطري لأولياء الأمور، ولجان الآباء ومسؤولي وزارة المعارف، وكوكبة من المثقفين والخبراء والمختصين التربويين والكُتّاب ومديري المدارس والمدرسين وغيرهم. وحقيقة الأمر أن الذي يكون رد فعله بهذه الطريقة المتشنجة فإنه، عمليا، يدرك في قرارة نفسه أنه ارتكب خطأ ما، أو فعل عملا لا يليق، لكنه يرفض الاعتراف بذلك، بل ويريد من الآخرين، ويتوقع منهم، أن يوافقوه على موقفه، لمجرد أنه هو الذي قال كذا أو فعل كذا، وهذه صفة بارزة، بشكل خاص لدى الأدباء من كتاب قصة وشعراء، وكذلك لدى الفنانين التشكيليين والممثلين والمطربين وأشباههم.
ثانيا: نعم… ميسون أسدي حرة في المضامين التي تكتبها، كما قالت في مقابلة صحافية، وليس من حق أحد أن يناقشها في هذا، لكنها، أبدا، ليست حرة في تسويق مضامينها في أوساط طلاب المدارس، الذين هم أبناؤنا، ونحن، كآباء، الذين نحدد لأبنائنا نوع الثقافة والمعلومات التي يجب أن يتلقوها، ونوع الثقافة والمعلومات التي لا يجب أن تفرض عليهم، خاصة إذا كانت هذه الثقافة وهذه المعلومات من خارج منهاج التعليم، وخاصة إذا كانت تتعارض مع قيم مجتمعنا وثقافته ومفاهيمه وتعاطيه مع ما يدور حوله.
غير أن ميسون أسدي وجدت في مدارسنا بيئة خصبة لأفكارها، لأننا نحن أيضا ساهمنا – كمجتمع-في التصفيق لها، رغم أنني أعتبر مستواها الفني واللغوي في فن القصة، وبالذات في قصص الأطفال، دون المتوسط. فإنك عندما تراجع تاريخ الكاتبة فسوف تكتشف أن عددا كبيرا من المدارس في الداخل الفلسطيني قد استضافها في مناسبات مختلفة، باعتبارها كاتبة قصص أطفال، لتقدم ما تريده للطلاب، دون رقيب أو حسيب. يعني بالعامية: احنا اللي أعطيناها نفَس!! والعجيب أن مسؤولي مدارس من مديرين ومسؤولين تربويين، من الذين استضافوها في مدارسهم، يطالبون الآن بمنع تعميم قصتها تلك في مدارسهم. فأين كانوا عندما استضافوها وتركوا طلابهم فريسة لأفكارها؟ هل يعلم أيٌّ منهم ماذا كانت تقول لهم؟ وأية أفكار روجت لها أثناء لقاءاتها بهم؟!
ثالثا: في إحدى المقابلات الإذاعية دافعت أسدي عن قصتها قائلة: أنا إنسانة وطنية وأحب شعبي!! وهذا – لعمري-رد انفعالي مثير للضحك. وهذا هو حال المفلس، الذي لا يملك بضاعة حقيقية، فتراه يلجأ إلى الشعارات الكبيرة. فهل من الوطنية وحب الشعب تدمير الأجيال القادمة لهذا الشعب؟ والمؤسف أن كثيرين من أبناء شعبنا، من أمثال ميسون أسدي، ومنهم سياسيون كذلك، يلجأون إلى شعارات الوطنية، كي يهربوا من مناقشة مواقفهم، فتراهم يقولون مثلا: هل تشكك في وطنيتي؟! نحن الذين سبقنا إلى كذا وكذا. نحن الذين دافعنا عن كذا وكذا قبل أن تولدوا! نحن الذين رفعنا شعار كذا وكذا! إلى غير ذلك من مبررات السقوط، وهروبا من المسؤولية. بل وأحيانا كثيرة، بل وفي أغلب الأحيان، تراهم يغضبون وتنتفخ أوداجهم، ويستخدمون ألفاظا قاسية، وأحيانا (غير لائقة)، وأحيانا أخرى لا علاقة لها بالموضوع، مستخدمين لغة جسد عنيفة، يحاولون بواسطتها حرف البوصلة عن صلب الموضوع.
رابعا: في ذات المقابلة الإذاعية تقول أسدي، في محاولة لتبرير مضمون قصتها: (بجيل صف ثاني بشوفو أفلام إباحية)!!! ولنفرض أن زعمها هذا صحيح، فهل بقصصها تلك سننقذ طلاب الصف الثاني من مشاهدة الأفلام الإباحية؟! وهل قصتها المعنية (هل الأولاد يعرفون) أقل إباحية من الأفلام الإباحية، وهي التي يفترض أنها تعرف أن تخيل الشيء والتفكير به أشد تأثيرا من مشاهدته؟! ألا ترى أن قصة مثل قصتها هي عمليا تشجيع لجيل الصف الثاني لمشاهدة الأفلام الإباحية، (كي يروا بصورة عملية كيف يخلع الزوجان ملابسهما، ثم يستحمان ويتعطران، ثم يتعانقان، ثم ينتقل الحيوان المنوي الصغير إلى البويضة)؟ أي تبرير للسقوط هذا؟! وهل كانت أسدي تفكر فعلا بوضع حل لمشاهدة طلاب الصف الثاني للأفلام الإباحية عندما جلست وكتبت قصتها تلك؟! هذا خداع وتضليل!
ولعله من المفيد أن نسأل: لماذا يشاهد أطفالٌ (وليس كل الأطفال…) أفلاما إباحية؟! وكيف عرفوها؟ وكيف وصلوا إليها؟
إذا كان ربُّ البيت بالدفّ ضاربًا فشيمةُ أهل البيت كلهمُ الرقصُ
وكونها أديبة، فلا بد أن ميسون أسدي تدرك معنى هذا البيت من الشعر. فما كان الأبناء لينحدروا إلى هذا الدرك، لولا أن الآباء وصلوا هم أنفسهم إلى درك أسفل منه! فالآباء قدوة عملية وسلوكية وأخلاقية وفكرية وتربوية للأبناء. أضف إلى هذا ما يحدث في المدارس اليوم من كوارث أخلاقية داخل الصفوف وفي الساحات، من خلال تداول هذه الخبائث بين الطلاب عبر الهواتف النقالة التي يشتريها الآباء للأبناء وهم في الصف الثالث أو الرابع، وأعقلهم من يشتري لابنه هاتفا نقالا مع دخوله المرحلة الإعدادية، إلا من رحم. فهل علاج هذا الوباء يكون على طريقة ميسون أسدي؟! يا للعجب!!
خامسا: تقول أسدي في إحدى المقابلات الصحافية إنها كتبت القصة لطفلها ابن الثالثة، بسبب كثرة أسئلته حول الموضوع! واسمحوا لي وسامحوني: إنها لا تقول الحقيقة! فطفل في الثالثة من عمره بالكاد يحسن الكلام، وبالكاد يجمّع جملة سليمة مفهومة، وعالمه في مثل هذه السن بعيد كل البعد عن مثل هذه المواضيع. ولغة القصة (بغض النظر عن المستوى الفني واللغوي) لا تتناسب إطلاقا مع أطفال في سن الثالثة. وقد ناقضت الكاتبة نفسها عندما قالت في المقابلة الإذاعية إن القصة مخصصة لسن عشر سنوات. فهل كانت لأطفال في سن عشر سنوات أم لأطفال في سن ثلاث سنوات؟! ولنفترض أن ما تقوله في الحالتين صحيح، فهل الشغل الشاغل لأطفالنا – كما تريد الكاتبة أن توهمنا-هو طرح الأسئلة حول سر قدومهم إلى الحياة؟! في الواقع هذا ليس صحيحا إطلاقا. نعم؛ قد تُطرح الأسئلة من حين إلى آخر، وربما يسألها الطفل مرة في حياته، وهي أسئلة تقليدية، عرفتها المجتمعات (العربية وغيرها) قبل ثورة التكنولوجيا بسنوات ضوئية، فما الذي تغيّر اليوم حتى تأتي كاتبة قصة أطفال وتزعم – ضمنا-أن هدفها هو التثقيف والتربية؟!
سادسا: لا أتمنى أن يحدث هذا. ولكن ماذا كانت الكاتبة ستفعل، لو أنها – لا سمح الله-عادت يوما إلى البيت ووجدت طفلها ابن الثالثة، يحاول تطبيق ما علمته إياه أمه – من خلال القصة-مع أخته مثلا؟! عذرا على هذه القسوة، ولكننا نعرف الكثير من القصص التي تقشعر لها الأبدان. ولا بدّ أن الكاتبة تعرف هذا أيضا. كيف كانت ستبرر هذا السلوك من طفلها؟ كيف يكون رد فعلها؟
سابعا: تبرر الكاتبة نشرها للقصة أن البديل سيكون الشوارع والانترنيت، إذا لم “نثقف” أبناءنا. وهذا تبرير ممجوج لا أرضية له يقف عليها. ولو كانت صادقة مع نفسها لتحدثت عن دور الآباء والمحاضن التربوية (المدارس) في توجيه الأبناء وحمايتهم من آفات الشارع والانترنيت. ولكن لأنها أصلا غير مهتمة بهذا الموضوع، بل تدافع بعصبية عن موقفها، فإنها تأخذنا إلى الشارع والانترنيت كبديل سيء لتثقيف الأبناء (جنسيا)، وكأن الهمّ الأول، وربما الوحيد، هو التثقيف الجنسي، قبل التربية على الأخلاق والسلوك الإيجابي والاهتمام بالتحصيل الدراسي، واختيار الأصدقاء الجيدين، والتربية على الاهتمام بالهم الجماعي للمجتمع، وطاعة الوالدين والمدرسين، واحترام الكبار، والحفاظ على الأملاك العامة، وتشجيع الميول الإبداعية في مختلف الفنون… الخ.
ثامنا: لنفترض أن (التربية الجنسية) لطلاب المدارس هي من المواضيع الضرورية، فهل أصبحت أسدي خبيرة في هذا المجال، حتى تفرض أسلوب حياتها على أبنائنا؟! أليس هذا الموضوع الحساس جدا يحتاج إلى خبراء وتربويين وعلماء نفس وعلماء اجتماع كي يقرروا فيه، وفي مضامينه، وتدرّجاته، ويحددوا السن التي تصلح لتلقي هذا النوع من (التربية)، ويضعوا لها الشروط والقيود والضوابط؟ هل تملك أسدي كل هذه الخبرات و “المعجزات”؟!
تاسعا: تقول ميسون أسدي في إحدى المقابلات: الأهل هم أصحاب القرار الأخير تجاه تثقيف أبنائهم… فعلى الصعيد الشخصي رأيت أن ابني كان جاهزا للتثقيف في جيل ثلاث سنوات!! حسنا!! طالما أن الأمر والقرار بيد الآباء، فهلا تفضلت وأجرت استفتاء بين الآباء إن كانوا يروْن (مثلها) أن أبناءهم جاهزون “لثقافتها الجنسية” مثل ابنها؛ ابن الثلاث سنوات؟!
عاشرا: القصة وما فيها أن ميسون أسدي تحمل أفكارا مدمرة، تريد فرضها على الجيل الغضّ، من خلال “قصص الأطفال”. وأنت يمكنك أن تجد في كتاباتها، ميولا إباحية تقف خلفها إيديولوجيةٌ ما، أظنّها نسوية من ذلك النوع السيء الذي نعرفه جميعا، والعياذ بالله. ويكفيك مثلا أن تقرأ قصتها (للكبار) بعنوان “كلام غير مباح” كي تعرف كيف تفكر، وماذا تريد، وإلى أين تريد أن تذهب بنا، وفي أي حقل ألغام خطير تلقي بالصغار والكبار على حدّ سواء. كما أن الذي يراجع قصصها (للصغار والكبار) سيجد هناك أزمة ما تعاني منها الكاتبة، وهي أزمة تغذت بأفكار علمانية نسوية غربيّة حتى النخاع، فحولتها إلى جزء من شخصيتها لدى ممارستها الكتابة. وحتى تفهم ما أقصده عليك أن تقرأ كتاباتها، فهناك ستجد كما هائلا من الإسقاطات الفكرية والسلوكية والاجتماعية التي تعكس حالة الذوبان في الآخر. وهذا وحده يعني الشعور بالدونية، ما يدفعُ إلى نسخ تجارب الآخر، في محاولة فاشلة لإسقاطها على مجتمعنا.
حادي عشر: في إحدى مقابلاتها على خلفية القصة، انتقدت ميسون أسدي صمت العلمانيين، ودعتهم إلى رفع أصواتهم (دفاعا عنها طبعا). وهذا في الحقيقة هو الأصل في القضية. وبهذه المقولة هي كشفت عن حقيقة المعركة. فالمعركة فكرية ثقافية إيديولوجية بين العلمانيين وبين غير العلمانيين، أو بتعبير أكثر وضوحا، بين العلمانيين وبين حاملي الفكر الإسلامي، بل أكثر من ذلك؛ هي بين قلة علمانية ابتلي بها مجتمعنا، وبين مجتمع مسلم في غالبيته، ومحافظ / متديّن في سلوكه. ولهذا تسمعها مثلا تقول (في مقابلة تلفزيونية مع رفيق حلبي من عام 2012) إن ما تكتبه هو تعبير عن رواية شعب. فهل هذه هي رواية شعبنا؟! إنها إذن معركة حول رواية شعبنا… فمن الذي يقرر ما هي رواية شعبنا؟!
إن أبناءنا في خطر، من أمثال هذه القصص وأمثال هؤلاء الكتاب، الذين ينقلون إلى أبنائنا أفكارا وأخلاقيات وسلوكيات دون ضوابط. وإن الواجب على الآباء أولا، ثم على إدارات المدارس ولجان أولياء الأمور، أن يحموا الأبناء ويحصّنوهم ليس فقط من مثل هذه القصة، بل من أمثال كاتبتها التي تستضاف في المدارس، وعلينا جميعا أن نراقب ونحاسب، وألا نكتفي باحتفالية (زيارة كاتب أو كاتبة أو شاعر أو شاعرة أو فنان أو فنانة للمدرسة) وكأنه إنجاز كبير. علينا أن ندقق فيما يتلقاه أبناؤنا من معلومات من أمثال هؤلاء، ويكفينا المصائب التي تحملها مضامين منهاج التعليم، وتُصبُّ في رؤوس الأبناء كصبّ الحميم.
في الختام لا بد من أسئلة تطرح نفسها:
-هل قصة ميسون أسدي هي نوع من التثقيف الذي تدّعيه؟ أم هو نزوة شخصية تلفعت بعباءة التثقيف؟
-هل أبناؤنا بحاجة إلى هذا النوع من القصص “التثقيفية”؟
-هل هم بحاجة إلى التثقيف الجنسي والتربية الجنسية؟
-ما هو التثقيف الجنسي والتربية الجنسية؟
-من هي الجهة أو الجهات التي تحدد مضمون وحدود ومستوى ونوع هذا التثقيف والتربية؟
-هل التربية الجنسية يجب أن تكون متاحة في المجال الواسع، أم تكون في أضيق الحدود لمن يحتاجها، وعند الضرورة؟
-ما هي السن المناسبة لمثل هذه المواضيع؟
-هل المدارس هي المجال المناسب لمثل هذا النوع من التربية؟
-هذه الأسئلة وغيرها يجب أن يجيب عليها أهل الاختصاص. ولكن ليس كل أهل اختصاص، بل أهل اختصاص ثقات، من الذين يحرصون على مستقبل هذه الأجيال، ويتمتعون بفهم عميق وأخلاق وضوابط غير مستوردة من خارج الإطار المجتمعي.