أخبار رئيسية إضافيةمقالات

كيف تعمل دعاية مجانية للباطل؟

ليلى غليون

يروى عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عن موقف حصل معه وهو يخاطب شابًا متحمسًا من الدعاة قائلًا له: “كنت إمامًا في جامع كبير بدمشق، وكنت شابًا لا أملك أبعاد الأمور، وكان قد أعلن أن فلانة المطربة سوف تزور الشام وتحيي حفلة غنائية، وكانت المطربة سيدة الغناء في ذلك الوقت، قبل أن تشتهر أم كلثوم، وكانت كلمات أغانيها فيها خلاعة وحركاتها وهي تغني كلها دلع وميوعة، فاعتليت المنبر في خطبة الجمعة وصحت بالناس محذرًا: انتبهوا واسمعوا وعوا، غدًا أو بعد غد ستأتي المطربة الخالعة المائعة المسماة “أم كلثوم”.. وتملأ فضاء الشام بكلمات أغانيها التي تخدش الحياء وسوف تتمايل بقدها الممشوق وتهز جسمها وتبرز مفاتنها، فالحذر الحذر من حضور حفلتها أو السماح لشبابنا شراء تذاكرها، فإنها مفسدة للدين والأخلاق، وواصلت الهجوم عليها والمطالبة بمنعها، وليتني لم أفعل! إذ لم يكد الشباب يخرجون من الجامع حتى تسابقوا لشراء تذاكر حفلتها، حتى نفدت كل التذاكر في يوم واحد، وبيعت في السوق السوداء بعشرة أضعاف ثمنها”. ويضيف الشيخ علي الطنطاوي: “كنت أعمل دعاية هائلة مجانية لتلك المطربة من دون أن أدري، كنت أظن أنني أصرف الناس عنها فصرفتهم إليها، فكل ممنوع مرغوب، وكل من تتم مهاجمته تتضاعف شهرته”. انتهى كلام الشيخ الطنطاوي.

وهذا ما يحصل في الغالب وخصوصًا على منصات مواقع التواصل الاجتماعي والتي تعد بيئة خصبة بل من أخصب البيئات لنمو الإشاعة واشتهار الباطل وتضخم الأخبار الكاذبة لتتناقل بين الناس بسرعة البرق ويتجاذبونها ويتداولونها وكأنها حقائق لا غبار عليها، وهي في الحقيقة تؤدي لمفسدة وأي مفسدة.

فقد يصدر المنكر من شخص مغمور عادي غير معروف بين الناس، فيسمع به أحدهم، لتأخذه الغيرة والحمية والحماس، ومن باب التحذير منه يذيع أمره بين الناس الذين هم بالأصل لم يسمعوا به وليس لهم أي سابقة معرفة عن صاحبه الذي صدر منه، وبالتالي فإنه من حيث يدري أولا يدري فإنّه يروج له ويغذيه ويلفت الأنظار إليه ويشهره، لا بل قد تكون النتيجة عكسية حين يقلد البعض هذا المنكر ويتبعونه، فتتسع رقعته ومساحته، ولو سكت عنه ما علم به أحد، ليقدم له خدمة مجانية باشتهاره (واللي ما بعرف يعرف) وهذا ما يعرف بالدعاية السلبية.

وكان الأولى به لو قدم لذاك الشخص نصيحة بينه وبينه، مبينًا له منكره لعل وعسى أن يقلع عنه، وليس أن يحذر منه على الملأ فيكون هو الجسر الذي من خلاله يصل إلى الشهرة التي يبتغيها والتي قد تبلغ مدى لم يكن يحلم به، أو يكون السبب في فتح عيون الناس على هذا المنكر الذي لم يكونوا يعرفونه وليس له أي أثر فيهم، فيندفعون إليه سواء من باب الفضول أو من باب كل ممنوع مرغوب أو كل ممنوع متبوع، فتكون مفسدة الحديث عنه أكبر وأشد من مفسدة هذا المنكر نفسه كما أشار الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

وقد فهم أسرار هذه اللعبة مرتزقة عشاق الشهرة، وأدركوا أنه ليس المطلوب منهم للوصول إلى هدفهم بتسلق سلم الشهرة، سوى نشر حماقة أو أي عمل تافه على صفحاتهم يستفزون به البعض ممن يثورون غضبًا واستنكارًا لهذا الفعل، لتكون ردة فعلهم الغاضبة ومن باب حسن النية ومن غير قصد، بأن يتداولوا هذه الحماقة فيما بينهم وبين غيرهم وينشروها على أوسع نطاق محذرين منها ومنبهين، لتكون النتيجة عكسية وذلك بإمدادهم بالاهتمام ولفت الأنظار الذي أوصلهم لتحقيق حلمهم بالشهرة وهدفهم الذي رسموه وخططوا له.

وقد ذكرت كتب التاريخ قصة ذاك الرجل الذي قدم مكة المكرمة وقت الحج، وقد قدحت فكرة الشهرة في رأسه والتي كان يدرك أنه لن يحققها إلا بالقيام بعمل قبيح مشين تتحدث به العرب قاطبة، ولما لم يكن في ذاك الوقت كاميرات تصوير ولا شبكات تواصل اجتماعي توثق الحدث على الفور وتنشره انتشار النار في الهشيم، فقد اختار موسم الحج حيث يكون الحضور فيه من كل فج عميق يتحدثون بما سيقوم به ويحدثون به الغير عندما يرجعون إلى ديارهم، وهذا ما حصل بفعلته القبيحة عندما بال في بئر زمزم، وها قد مضى على هذه القصة القرون العديدة، وما زالت مضرب الأمثال حتى يومنا هذا لمن يرومون الشهرة بأعمال شاذة ومشينة.

والكثير منا وللأسف بجهالة وحسن نية يحييون الباطل ويتسببون في شهرته من خلال لفت النظر إليه بالتحذير منه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، كالتحذير على سبيل المثال لا الحصر، من فيلم معين مخل بالأخلاق والآداب غير مشهور، لتكون النتيجة البحث في محرك جوجل عن هذا الفيلم من باب الفضول أو من باب فعلًا حب المشاهدة، فيكونوا بذلك قد قدموا لهذا الفيلم دعاية مجانية أدت لانتشاره.

والسؤال الذي قد يقفز في الذهن مباشرة: هل المقصود مما ذكر سالفًا التغاضي عن الباطل أو المنكر والسكوت عنه كما تقول تلك العبارة المنسوبة زورًا وبهتانًا إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه والتي تقول: “أميتوا الباطل بالسكوت عنه”؟!     فهذه العبارة لم تصح عنه رضي الله عنه، كما أنها لا تصح سندًا ولا متنًا ولا تصح شرعًا، لأنها تخالف منهج القرآن والسنة المطهرة، فقد ذكرت العديد من الآيات الباطل والمنكر والشبهات وردت عليها، كما أنها لا تصح عقلًا ولا منطقًا، لأن السكوت عن الباطل يجعله يستشرس ويستفحل ويتغول في المجتمع، ويا لها من خدمة تُقدم للباطل عندما ينسحب أهل الحق ويخلون الميدان لحمدان يسيد ويميد براحة وحرية دون تصد ولا مقارعة، كما قال أحدهم:” عندما سكت أهل الحق عن الحق ظن أهل الباطل أنهم على حق”. ثم كيف للمنكر أو الباطل أن يموت بالسكوت عنه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الواجبة بنصوص الكتاب والسنة والإجماع؟

ولكن مقصد الكلام في هذه المقالة، معالجة الأمر بحكمة وتعقل، فلكل مقام مقال، وكل حالة تقدر بقدرها، والأصل والأساس التصدي للمنكر والأمر بالمعروف، والمطلوب هنا الموازنة بين المصالح والمفاسد، فإذا كان المنكر مقصورًا على فرد ومحصورًا في دائرته ولا يعلم به أحد ولا يشكل خطرًا أولا يؤدي إلى فتنة في المجتمع، فالسكوت عنه أولى وأوجب مع ضرورة تقديم النصيحة لصاحبه حتى لا يشتهر ويكون ضرره أعم، أو إذا كان المنكر من مرتزقة حب الشهرة أصحاب المحتويات الرديئة على منصات التواصل ممن يريدون الشهرة بكل وسيلة قذرة، فالأولى بل الواجب تجاهلهم وتهميشهم وسد كل السبل والمنافذ لاشتهارهم ليعودوا أدراجهم ولا يكون لهم أي تأثير، أما في حالة اشتهار المنكر والترويج له عندها الأمر يختلف، حيث تجب مقارعته والتحذير منه بكل وسيلة وعدم السكوت عنه.

يقول تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر…”.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى