أخبار رئيسية إضافيةمقالات

همسة عتاب..

ليلى غليون

أبي سندي وقرة عيني، اسمح لي فقط ببعض من وقتك مع علمي بأن وقتك ثمين جدًا ومشاغلك الكثيرة تستغرق هذا الوقت حتى الدقيقة التسعين، ولكني أريد أن أبث لك كلماتي الممزوجة بالحب والعتاب ويقينًا ستجد طريقًا إلى قلبك وتفكيرك، وتضيء أمامك ولو بصيصًا من الأضواء الحمراء قبل أن تعض أصابع الندم.

عفوًا أبي على هذا الأسلوب الذي أخاطبك فيه، فما أنا سوى بعض منك، وامتداد لك والذي تأملت فيّ ومنذ أن صرخت صرختي الأولى وأنا قادم إلى هذه الدنيا، أن أكون زهرة متفتحة في رياضك وشمعة أمل مضيئة في حياتك، وما أنا سوى زينة من زينة الدنيا التي استحفظك واستأمنك الله عليها.

فكم كانت فرحتك عظيمة حين بُشرت بقدومي، والدنيا بأسرها لم تكن لتسع فرحتك حينها، وأردت أن تُسمع الكون أهازيج فرحتك لتقول: هذا ولدي إشراقة أملي وريحانة فؤادي ونور عيني تنظر إلي بعيني قلبك وتنشد كما نشد المنشد أحمد أبو خاطر:

يا بُنيّ يا بُنيّ       يا سنى في مقلتيّ

أنت أغلى في الحشى    من مهجتي من ناظريّ

        تسعد القلب الشجيّ

أنا أفديك بروحي      وبأغلى ما لديّ

ما أحيلاه زمانًا       يوم أن كنت صبيا

      ضاحكًا ترنو إليّ

 

كنت تحافظ عليّ حتى من النسيم في اعتلاله يداعب جفني، ولا تنام لك عين ولا تستكين لك جارحة حتى تراني أغوص في نوم هادئ جميل، تذهب إلى الأسواق والمحلات الخاصة بالأطفال لتشتري لي من الألعاب والملابس التي تكدست بها غرفتي الخاصة التي حرصت أنت وأمي أن تكون على أحدث طراز ولا ينقصها أي شيء، حتى إذا دخلها أحد رأيت نظرات الإعجاب والانبهار بادية على وجهه قائلًا : يا له من ذوق جميل … يا لها من غرفة رائعة عصرية، وها أنا يا أبي أكبر أمام ناظريك لتمضي مرحلة الطفولة، لأحط في محطة أخرى، وأخوض في غمار عالم جديد، عالم تعدى حدود البيت الذي ترعرعت فيه، عالم مليء بالمجهول والمتناقضات، مليء بالشر والخير، بالصلاح والفساد، بالنور والظلام، فهل تعي يا أبي هذه الحقيقة ؟ وهل تعلم أن ابنك فلذة كبدك تحاصره مؤثرات كثيرة ويتعرض لعوامل كثيرة سلبية وإيجابية، ضارة ونافعة، وهل تعلم أني لا أستطيع التمييز بينها لاختلاط الأمور عليّ ولتزاحمها أمامي، فمن غيرك يا أبي ينير لي السبل؟ من غيرك مرشدي وموجهي وناصحي؟ من غيرك يسعني وألوذ إليه؟ فما بالك وكأن الأمر لا يعنيك؟ هل تعلم من هم أصحابي؟ هل تعلم إلى أين أذهب بعد دوامي في المدرسة؟ هل تعلم أي المواقع أدخل إليها في الحاسوب الذي اشتريته لي خصيصًا لغرفتي الخاصة، بل ماذا أشاهد على جهاز الأفيون الذي قدمته لي هدية يوم ميلادي؟ لقد سمعتك تقول لأمي مرة أن هناك الكثير من البرامج العلمية والثقافية والدينية التي ستوسع آفاقي ومداركي وسترفع من مستواي العلمي، ولكن أقسم لك يا أبي أني لا أتابع مثل هذه البرامج ولا أهتم بها، بل هناك برامج أخرى تعلقت بها وأصرف لها الكثير من الوقت لو تدري كنهها لضربت كفًا بكف، ولحطمت هذا الجهاز وما تركته لحظة في غرفتي، وها أنت ترى أثر ذلك على نفسي، ومن المؤكد أنك تلاحظ تأثير ذلك على سلوكي وتصرفاتي وأفكاري، حتى شكلي وهيئتي وطريقة كلامي لم تسلم، فانظر يا أبي إلى قصة شعري ما رأيك بها؟ وانظر إلى ملابسي الممزقة والمرقعة والتي طبعت عليها عبارات وكلمات باللغة الأجنبية لا أعرف معانيها.

أبي، يا خيمتي التي أستظل بها، ويا عمادًا يقوّم أودي، هل سألتني مرة عن صلاتي، هل أأديها؟ هل سألتني مرة عن علاقتي بكتاب الله؟ هل أقرؤه؟ هل أحفظ بعض سوره؟ هل سألتني يومًا عن أحلامي، عن طموحاتي؟ عفوًا على جرأتي، ولكن هل فكرت يومًا بزيارتي في مدرستي لتطمئن على أحوالي الدراسية وتشعرني بأن ورائي سندًا قويًا يشد من أزري ويرفع من معنوياتي. أبي، لو تدري كم أنا بحاجة اليك، كم افتقدك، متى تعلم أن حاجتي للجلوس معك أكبر من حاجتي لكل الأموال التي تسعى للحصول عليها لتوفر لي حياة مليئة بالرفاهية والكماليات ؟!

أبحث عنك وأسأل عنك أمي عندما أنهض من نومي، فتخبرني بأنك قد خرجت باكرًا إلى عملك، فأدعو الله لك بالصحة والعافية، وعندما أعود من مدرستي أنتظر عودتك وأنتظر، ولكنك لا تعود إلا متأخرًا بسبب الساعات الإضافية التي تعملها، فتهمس أمي في أذني أن لا أزعجك لأنك متعب وتود الراحة، فأسترق النظرات إليك من بعيد لأطير بنظراتي إليك على بساط حلم جميل يحط بي إلى دنيا الحنان والدفء الأبوي، ولكني لا ألبث أن أعود لغرفتي وقد تملكني حزن شديد لأني لم أحظ بصحبتك والجلوس معك ولو لدقائق معدودة، حتى بت أنتظر يوم الجمعة من كل أسبوع بفارغ الصبر لا لشيء سوى أنه اليوم الوحيد الذي أجد فيه الفرصة لمحادثتك أو مرافقتك بالسيارة إلى أي مكان، صحيح أنها أوقات قليلة ولكنها بالنسبة لي كل سعادة.

سمعتك مرة تدعو لي وتناغيني وتمسح على رأسي وأنا شبه نائم وتقول لي مداعبًا: اعذرني يا ولدي إن قصرت في وصلك، وسامحني يا منى القلب إن دارت بي رحى الأيام لم أسمع بها صوتك، بل التمس منك العذر أن تراني بعدت عن دربك، إنها مشاغلي وظروفي هي التي تحول بيني وبينك، ولكن تأكد يا ولدي يا فلذة كبدي أنك أحب الخلق إلى قلبي.

أعلم يا أبي يا أروع الآباء كم تحبني وأني لا أبرح غرفات قلبك. وأنا أشهد لك أنك تفني نفسك من أجلي حتى لا ينقصني شيء من ملذات الدنيا، وهذا عمل أنت مأجور ومشكور عليه بإذن الله، ولكن هناك أمرًا آخر أراك غافلًا عنه ولا تولي له اهتمامًا، إنه غذاء القلب والروح، إنه غذاء العقل والفكر، يجب أن توفره لابنك مهجة قلبك والذي يجب أن تحرص عليه أكثر من حرصك على غذاء جسده، وإن لم تتدارك يا أبي هذا الأمر ومنذ الساعة، فيعلم الله إلى أين سيؤول بي الحال، ويقينًا فلن تجني من الشوك العنب. عذرًا أبي على الصراحة، ولكنها الحقيقة ولو كانت موجعة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى