أخبار رئيسية إضافيةمقالات

عجيب.. غريب

ليلى غليون

انقلاب المعايير وتراجع القيم وخربطة الأوراق، اختلاط الحابل بالنابل والطالع بالنازل، كل هذا وأكثر من ذلك، من السمات البارزة لهذه المرحلة التي نحن فيها والمليئة بالطفاح بالعجائب والغرائب والمفاجآت.

فما كان بالأمس مرفوضًا ومستهجنًا بات اليوم مقبولًا وعاديًا، وهذه النقلة السريعة بل هذه اللوثة شوهت الكثير من ملامح الوجه الجميل للأصالة والطيبة التي كانت سائدة في زمن قريب لا تفصلنا عنه سوى بضع سنين، اشتعلت فيها ثورات وانقلابات قيمية متسارعة تكاد سرعتها تفوق سرعة الصوت والضوء، تشقلبت فيها موازين، وعمت فيها فوضى قيمية وأخلاقية، فترة ممهورة بالتمرد والتنكر وإدارة الظهر من قبل البعض لكل ما هو أصيل، ممن يزوقون تمردهم وتنكرهم بمسميات ناعمة ومصطلحات منمقة كاختلاف الرؤى والأساليب ومجاراة العصر وغيرها من خلال تبني مبدأ (لن أعيش في جلباب أبي) فقد عفا عليه الزمن.

في زمن العجائب والغرائب هذا اشتعلت حرب على المصطلحات أيضًا والتي لم تسلم من التشويه والتزوير، ليصبح مفهوم التعري والعلاقات المحرمة حرية، والشذوذ مرحًا وبهجة وحرية شخصية، بل واستبدلت كلمة الشذوذ بكلمة رقيقة ناعمة بالمثلية والمثليين والجنس الثالث الذي أصبح تشرع له قوانين وحقوق، وكذا التملق والنفاق أصبح يسمى سياسة، والاختلاس شطارة وفهلوة، والخمر مشروبات روحية، وتسللت إلى مجتمعاتنا المسلمة مصطلحات مفخخة من قبل من نصبوا أنفسهم ونصبن أنفسهن محامي دفاع عن المرأة، مصطلحات نسفت كل المعايير الأخلاقية والاجتماعية كالأم العزباء، والصحة الانجابية، والجندر، وجسدك ملكك والدعوة للتمرد على الدين والعادات والتقاليد الرائعة.

في زمن العجائب والغرائب هذا ترى أحدهم (أو إحداهن) يتمعر وجهه استهجنًا وضيقًا عندما يسأله أحدهم عن أمر من أموره الشخصية: أين كنت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ كم راتبك في الشهر.. إلخ (وهذه طبعًا من الأمور الشخصية التي لا ينبغي التدخل فيها)، وقد يصفه بالتطفل والتدخل بما لا يعنيه وهذه خصوصيات وليس من شأنه (وهو طبعًا محق في ذلك)، ولكن يا للعجب العجاب يغضب عندما يسأله أحد عن خصوصياته، ولكنه ينشر كل أخباره على منشر صفحته على الفيسبوك: أين هو الآن.. في أي مطعم أو مجمع تجاري أو أي مكان يتواجد فيه.. هو الآن في طريقه إلى المطار، والسفر إلى اسطنبول وغيرها، الآن أقلعت الطائرة مع صورة سلفي وهو على مقاعد الطائرة، أو صورة سلفي في فندق خمس نجوم الذي تم الحجز فيه.

في زمن العجائب والغرائب هذا، الكثير من بيوتنا تغطى شبابيكها وربما حيطانها بالستائر الفاخرة والتي كلفت المبالغ الطائلة، فهي من جهة تضفي على البيوت لمسة جمالية، ومن جهة أخرى تكون ساترة لنوافذ شفافة ربما لا تمنع الأنظار من الاختراق والاطلاع وكشف عورات البيوت وما بداخلها.

والعجب العجاب أننا تكلفنا بمبالغ طائلة لاقتناء هذه الستائر لتجنب تسلل الأنظار لبيوتنا، ولكننا في نفس الوقت ننشر أدق تفاصيل بيوتنا على منشر الفيسبوك من باب التفاخر والتباهي (واللي ما بدري يدري) من أثاث إيطالي أو تركي، وطقم السفرة الجديد الذي اقتنيناه للتو وبالسعر الفلاني.. حتى أن إحداهن لم تتوان من نشر ديكور غرفة نومها والهدية التي قدَّمها لها زوجها يوم ميلادها، حتى نوع العطر الذي تفضله بات معروفًا للقاصي والداني، وماذا طبخت اليوم، والعزومة التي من البارحة وهي تحضر لها مع صورة لتشكيلة الطعام التي أعدتها وتفضلوا بالهناء والشفاء.      في هذا الزمن العجيب ترى أحدهم (أو إحداهن) على صفحته وكأنه واعظ زمانه، ينشر الرقائق والمواعظ الإيمانية والأدعية التي ترقق القلوب القاسية وتزودها بطاقة روحانية وتبعث في النفس الطمأنينة والسكينة، وتحلق الأرواح وتزداد قربًا من المولى عز وجل، لتصفعك الصدمة بعدها لما تعلم أن صاحب (أو صاحبة) هذه المنشورات الإيمانية ممن قال الله تعالى فيهم: (… لمَ تقولون ما لا تفعلون) فهو في واد وما تحويه منشوراته في واد آخر.

فتجده على خصام وقطيعة مع أقرب المقربين إليه لأسباب تافهة، لم يزر والديه وأرحامه منذ زمن، تبكي أخته حرقة واشتياقًا إليه بسبب قطيعته لها منذ سنين، تجده عنتر زمانه في بيته مع زوجته وأولاده يسيء معاملتهم وينكد عليهم عيشهم، وتراه مع الغرباء لطيفًا هادئًا يتعامل معهم بكل أصول الإتيكيت والمعاملة الراقية حتى يكسب شهادة من الناس بأنه إنسان على الأصول.

زمان، وفي ذاك الزمن الجميل يوم لم يكن للفيسبوك ولا أخواته ولا بنات عمومته وأخواله وجود، وعندما كان الشخص يريد أن يبعث برسالة إلى صديقه أو قريبه، كان يكتبها بأنامله ودفق قلبه ومداد شوقه، يكتبها كلمات تخرج من القلب إلى القلب، كلمات بسيطة بلا تكلف، لكنها مغمورة بالأحاسيس الجياشة بالشوق والحنين، يُنتظر وصولها عبر البريد على أحر من الجمر، تبعث في نفس متلقيها السعادة والفرح وهو يتنقل بين سطورها ويستشف منها المحبة الصادقة والمشاعر الحقيقية.

وفي هذا الزمن العجيب، وعبر شبكات التواصل المتعددة، تصلك كل يوم عشرات الرسائل أن لم تكن مئات، رسائل بألوان زاهية مع ورود وقلوب حمراء، كلماتها منمقة، منتقاة من القاموس، ربما تحتاج أحيانا للقاموس لتعرف معناها، يعجز فطاحل الأدباء عن نظمها وزخرفتها التعبيرية الابداعية، رسائل ذات تعابير رائعة، ولكن بمشاعر الكترونية باردة باهتة، ليس لها أي تأثير على النفس ولا يهتز لها أي وتر من أوتار القلب، مثلها كباقة زهور مصطنعة جميلة لكن بلا رائحة بلا حركة بلا إحساس، لتكتشف بعد برهة قصيرة أن هذه الرسائل (ملطوشة) من أحد المواقع وأنها لم تُكتب لك أنت خصيصًا، بل رسائل مكررة للجميع وصلت للمئات من رواد هذه المواقع أنت منهم بالصدفة (ويا فرحة ما تمت).

عجائب وغرائب هذا الزمان كثيرة تجعل الحليم حيران لا يمكن حصرها في هذه العجالة، ولكن لم العجب، ألسنا في زمن العجائب والغرائب؟!! نسأل الله العفو والعافية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى