أخبار رئيسيةمقالات

امرأة أبكــــــت الرجـــــــال

ليلى غليون

لم تشهد عهد النبوة ولم تكن من الصحابيات ولا من التابعيات، إلا أنها كانت تسير بأنوار النبوة وتهتدي بهداها وتدعو بنات جنسها للسير في ظلالها الوارفة. إنها امرأة عاشت في زماننا هذا الغارق في طوفان الفتن والضلال، الذي ساد فيه الرويبضة واستفحل فيه الطواغيت، وأبعد فيه الشرفاء وقُتلوا وشُردوا ونُكل بهم ومن ضمنهم زوجها الأستاذ عصام العطار المراقب العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا الذي ضيق عليه النظام السوري فتعرض للاضطهاد والاعتقال والتشريد، لتقف إلى جانبه بكل جرأة وشموخ لإيمانها ويقينها بالدور العظيم الذي يتبوأه زوجها وهو الدعوة إلى الله تعالى.

إنها السيدة الشهيدة بنان الطنطاوي والتي اغتيلت في ألمانيا علي يد المخابرات السورية 17/3/1981، والذي يوافق اليوم الجمعة ذكرى استشهادها، إنها ابنة الداعية الإسلامي المرحوم علي الطنطاوي والتي كانت مع زوجها ركيزة قوية من ركائز الدعوة وعاشت معه رحلة الاغتراب وختمت حياتها بخاتمة حسنة وهي الشهادة.

لقد بعثت لزوجها رسالة وهو في غياهب السجون تشد من أزره وتقوي روح الثبات والصمود فيه قائلة: “يا عصام، أنا والأولاد بخير وسلامة فلا تقلق علينا، كن قويًا كما عرفتك دائمًا ولا تُرِ هؤلاء الأنذال من نفسك إلا قوة وصلابة واستعلاء الحق على الباطل”.

وفي رسالة أخرى كتبت له قائلة: “نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حينما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك يا عصام وما يكتبه الله لنا هو الخير”. وعندما أصيب زوجها بالمرض وقفت معه في شدّته تشد من أزره تواسيه وتقول: “لا تحزن يا عصام إنك إن عجزت عن السير، سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام نأكل معك إن اضطررنا، الخبز اليابس وننام معك تحت خيمة من الخيام”.

إنها امرأة بألف رجل، سارت على خطى السيدة خديجة رضي الله عنها، ذاك الوسام الذي لا يزال يتلألأ على صدر الزمان، حيث وقفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمده بوقود الثبات والمؤازرة وسلامة الموقف لأنها أدركت أن الرجل موقف. إنها الزوجة والحبيبة والمعينة لهذا الزوج الذي اصطفاه الله تعالى ليكون جنديًا لدعوته، واختاره وأكرمه وشرفه بتكليفه بالسير في طريق سار عليها الأنبياء والمرسلون من قبل، ينبض في جوفه قلب يحمل هم الدعوة وأوجاعها، ويحوي في رأسه عقلًا لا يستكين لحظة ولا يهدأ ثانية، يفكر ويدبر ويخطط ويقيس ويجمع ويطرح ويقلب الأمور والناس نيام وعينه ساهرة، غيره أتقن فن التثاؤب وقلبه متوقد كالشعلة الوهاجة، فلا تكاد تأخذه سِنة من النوم حتى يثب كالأسد الهصور لأنه يدرك أنه ما خلق للنوم ولا للراحة، فهناك نيام كثيرون أناخوا للنوم أجسادهم، فأدركت زوجته، تلك الزوجة التقية الصالحة مدى الهم والحمل الثقيل الذي يحمله زوجها، فأبت إلا أن تكون له العون والسند، كيف لا وهي ابنة ذاك الجبل من جبال الدعوة الشامخة المرحوم الشيخ علي الطنطاوي الذي قال وهو يستعيد ذكرى مقتل ابنته في مذكراته والدموع تهطل مدرارة من مآقيه وقلبه المكلوم يعصف به الحزن على ابنته فيقول: “إن كل أب يحب أولاده ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي لبناتي.. ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانًا فأظن إن رن جرس الهاتف أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها…”.

كيف لا وهي زوجة ذاك الداعية العملاق الذي نزف قلبه عليها فرثاها بقصائد دامعة رقيقة يقول فيها:

بنان، يا جبهة الإسلام دامية   ما زال جرحك في قلبي نزيف دم

 بنان، يا صورة الإخلاص رائعة   ويا مثال الفدى والنبل والكرم

 بنان، يا أنس أيامي التي انصرمت وليس يومك في قلبي بمنصرم

ويا رفيقة دربي والدنا ظلم   نشق درب الهدى في حالك الظلم

ويا وقائي إذا ما كنت في خطر   ويا يميني ويا سيفي ويا قلمي

وفي إحدى مقالاته كتب الأستاذ عصام العطار بعد استشهاد زوجته: “ما أحبت زوجة زوجها أكثر مما أحبت بنان زوجها، وما فهمت زوجة زوجها أكثر مما فهمت بنان زوجها، وما أعانت زوجة زوجها أكثر مما أعانت بنان زوجها، وما تعبت زوجة بزوجها ولا ضحت زوجة من أجل زوجها أكثر مما تعبت وضحت بنان. لقد امتزجت حياتها بحياتي قلبًا وفكرًا ورؤية وأملًا وإرادة وعملًا، كان قلبي ينبض في صدرها فتحس ما أحس وتطلب ما أطلب، وكان قلبها ينبض في صدري فأحس ما تحس، فكأننا في معظم أمورنا شخص واحد.. فالروح روحي والنبرة نبرتي.. فإذا كتبت فاللغة لغتي والأسلوب أسلوبي فما يفرق بين ما أكتبه وتكتبه إلا ذواق خبير”.

إلى هنا فلتسكت الكلمات ولتخرس العبارات أمام هذا المشهد الرائع من التوافق والتلاحم الزوجي الرائع بين من اصطفاه الله عز وجل ليكون داعية إلى الله وبين من اصطفاها الله عز وجل من بين النساء لتكون زوجة لخير الرجال الذي قال الله تعالى فيهم: (ومن أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وقال إنني من المسلمين). فالله الله يا أختنا يا زوجة الداعية، على خطى هاجر وعلى خطى بنان سيري، وإياك ثم وإياك أن تكوني مجرد قشة في طريق زوجك المليء أصلًا بالأشواك والصخور، واعلمي أن أي همهمة أو شعور بالامتعاض يصدر منك مهما كان بسيطًا أو عابرًا فسيكون له وقعه السلبي في عرقلة سيره وخطاه. فيا من حباك الله لتكوني زوجة داعية، ضعي يدك في يده لتنطلقي معه في رحاب الدعوة إلى الله من خلال وقوفك بجانبه، لا من خلال وقوفك أمامه، ومن خلال دفعه لأداء واجبه، لا من خلال عرقلته بالشكوى والامتعاض، ومن خلال الشدّ على يديه، لا من خلال الشد على أعصابه. لقد قالها ملك عربي لمسؤول كبير في دولة عربية أخرى عندما اغتالوا السيدة بنان: “نحن نفهم أن تقتلوا عصام العطار أما أن تقتلوا زوجته…!! فقال ذاك المسؤول: نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا، ولكن أصبناه في مقتل… لقد قطعنا بقتل زوجته بنان يده ورجله ولن يستطيع بعدها أن يتحرك كما يتحرك وأن يعمل كما يعمل”.

فيا زوجة الداعية، كوني كما كانت بنان وهذا هو واجب الوقت كما قال أحد الدعاة المخلصين: “لئن كنّا نعطي الدعوة جزءًا من وقتنا فيجب علينا الآن أن نعطيها أضعاف تلك الأوقات وذلك لقلة العاملين وكثرة المتكاسلين والمرجفين بل القاعدين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى