أخبار رئيسية إضافيةمقالاتومضات

وقفة مع حالة العصيان المدني في القدس

ساهر غزاوي

 

إنَّ حالة العصيان المدني الحالية التي تشهدها أحياء مدينة القدس المحتلة ليست هي الأولى، خصوصًا في مخيم شعفاط، فقد شهد هذا المخيم في تشرين الأول/أكتوبر الماضي حالة من العصيان المدني بعد أن أغلق الاحتلال الإسرائيلي المخيم في أعقاب استشهاد عدي التميمي، وقد نجح العصيان المدني في فك الحصار الذي استمر لثلاثة أسابيع وأجبر أهالي المخيم الاحتلال الإسرائيلي على فتح الحاجز العسكري العنصري المقيت.

مخيم شعفاط بأحيائه الخمسة التي يسكنها نحو 130 ألف فلسطيني، والتي لم تتوقف الانتهاكات المهينة الجماعية بحق أهله، انطلقت منه أيضًا هذه المرة شرارة العصيان المدني، حيث أن هذا المخيم ما عاد يحتمل رؤية الإهانة الجماعية والاعتداءات المذلة التي طالت النساء والفتيات والأطفال والمسنين، خاصة على حاجز شعفاط العسكري العنصري المقيت الذي يتعمد جنود الاحتلال إذلال الشبان فيه بشكل كبير عبر إجبارهم على خلع ملابسهم وتفريغ جيوبهم ومحتويات حقائبهم أمام العشرات، وفي حال اعترض أحدهم ينتظره مصير أكثر قتامة، فيُضرب بشكل مبرح قبل أن يُعتقل ويُقتاد إلى أحد مراكز التحقيق.

هذه الإهانة الجماعية والاعتداءات المُذلة ما عاد يحتملها أهالي مخيم شعفاط، وما عاد يحتملون الممارسات والأساليب المنافية للأخلاقيات والأعراف والقوانين الدولية، فضلًا أن هذه الممارسات التنكيلية والمُذلة لا يقبلها أي إنسان سوي يسعى لنيل حريته وكرامته، ويسعى لأن تُحترم أبسط حقوقه الإنسانية التي تكفلها له شرائع السماء وقوانين الأرض. لذا فلا عجب أن تنطلق من مخيم شعفاط هذه المرة أيضًا شرارة العصيان المدني والإضراب الشامل ودعوة بلدات القدس الأخرى للانضمام إلى خطوة العصيان المدني المبني على جملة من القيم أساسها رفض الظلم والخضوع للطغيان.

في لمحة تاريخية سريعة عن العصيان المدني كشكل من أشكال الاحتجاج ورفض الظلم والخضوع للطغيان، فإننا نرى أنه ليس جديدًا على أهالي وسكان فلسطين، ففي منتصف عام 1834م ونتيجة للقرارات الإدارية الظالمة التي اتخذها إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا حاكم مصر في ذلك الوقت، اتخذ أهالي فلسطين العصيان المدني كخطوة احتجاجية ورافضة للظلم والخضوع للطغيان في المدن الرئيسة وبخاصة في القدس، ونابلس، وصفد، والخليل، وبئر السبع، وبعض المناطق الأخرى. فأجهد هذا العصيان قوات إبراهيم باشا وكلفه نحو ألف قتيل، وأعاق العصيان على نحو مؤقت تحركات قوات محمد علي في شمال بلاد الشام، واستبقى علاقات محمد علي بأهل فلسطين تحت طائلة الشك المتبادل حتى نهاية الحملة.

وفي عام 1936 أعلن الإضراب العام في فلسطين احتجاجًا على السياسات البريطانية الموالية للصهيونية. وبقيت المحاصيل الزراعية في القرى الفلسطينية وامتنع العمال الفلسطينيون عن التوجه إلى حيفا وتوقف العمل في الميناء، وامتنع الطلاب من التوجه إلى المدارس وقاموا بالمظاهرات والمسيرات وهتفوا ضد الإنجليز وضد وعد بلفور. وقد استمر الإضراب العام لمدة ستة أشهر ليصبح بذلك أطول إضراب ضد الاستعمار الغربي عرفته حركات التحرر الوطنية مما أدى إلى إيقاف النشاط التجاري والاقتصادي في القطاع الفلسطيني وقفًا تامًا.

ويعتبر هذا العصيان المدني الفلسطيني حجر الزاوية لثورة فلسطينية عارمة امتدت حتى صيف 1939 استشهد خلالها 1200 شهيد فلسطيني.

في العودة إلى حالة العصيان المدني المستمرة التي تشهدها أحياء مدينة القدس المحتلة منذ أيام، فهي تحمل دلالات كثيرة، أولها، أن الساحة المقدسية في أعلى مستوى من الجاهزية للاستجابة لهذه الحالة وتعميمها بشكل أوسع على مناطق أخرى من أحياء وضواحي مدينة القدس المحتلة، وثانيها، أن المجتمع المقدسي متحرر من الخوف ومن كل محاولات التدجين والتطويع وقادر على إثبات هويته ومواجهة ممارسات الاحتلال التنكيلية ومواجهة فرض سياسة الحصار والعقاب الجماعي، وثالث هذه الدلالات، أن حالة العصيان المدني تُنذر بالمزيد من التصعيد خلال الأيام المقبلة ويتوقع المزيد من الخطوات التصعيدية مع اقتراب شهر رمضان المبارك، إذ أن حالة الاحتكاك والتوتر تكون فيه أكبر دائمًا. ورابعها، أن حالة العصيان المدني التي بدأها المقدسيون في مخيم شعفاط وعناتا وجبل المكبر والرام، احتجاجًا على الإهانة الجماعية والاعتداءات المذلة التي تمارس بحقهم، لاقت الكثير من الإسناد والدعم المقدسي والتي تعكس تعبير المجتمع المقدسي عن حالة الغضب والرفض لممارسات الاحتلال في أحياء وضواحي مدينة القدس المحتلة.

إن أحد أهم أسباب نجاح العصيان المدني الذي هو شكل من أشكال النضال لرفض الظلم والخضوع للطغيان، هو وجود اتصال عضوي مباشر بين فلسطينيي القدس مع المجتمع الإسرائيلي، خلافًا لحالة الفلسطينيين في الضفة وغزة الذين لا يوجد لهم اتصال عضوي مباشر مع المجتمع الإسرائيلي، مما يجعل العصيان المدني في الضفة وغزة غير مجدٍ، غير أن حالة فلسطينيي الداخل مشابهة كثيرًا لحالة فلسطينيي القدس، بل إن اتصالهم العضوي مع المجتمع الإسرائيلي أكثر بكثير من فلسطينيي القدس وغيرهم، وهذا ما يقودنا إلى سؤال: متى وتحت أي ظرف يمكن أن تصل قيادة المجتمع الفلسطيني في الداخل وتتجرأ  باتخاذ خطوة العصيان المدني كشكل من أشكال النضال ضد ما يعانيه أهالي الداخل، أفرادًا وجماعات، من تمييز ممنهج من ناحية قانونية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وفي غالبية مجالاتهم الحياتية، والأهم من ذلك ضد الاستمرار في إشاعة العنف وسلاح الجريمة الذي يفتك بأهلنا ومجتمعنا بسبب فوضى السلاح المهرب من مستودعات الجيش الإسرائيلي، أو مشترى من جنود إسرائيليين متورّطين بتجارة السلاح، أو بمقايضة السلاح بالمخدرات، باعتراف المسؤولين في المؤسسات الرسمية، فإذا لم يكن العصيان المدني تحت مثل هذه الظروف مناسبًا وحاجة ومطلبًا ضروريًا، فمتى يكون وتحت أي ظروف؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى