أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (151) الصعود إلى الهاوية

حامد اغبارية

 

كما ذكرت في مقال سابق؛ فإن نتنياهو ليس الوحيد الذي يقود حكومة المؤسسة الإسرائيلية الحالية، لكنّه بالتأكيد راضٍ تمام الرضا عما يجري حاليا في الشارع الإسرائيلي. وكما يُجمع كثيرون من المراقبين والمحللين الإسرائيليين، فإن همَّ نتنياهو الأكبر من وراء إجراء التعديلات في القضاء، أو ما يسميه معارضوه، “الانقلاب القضائي”، منصبٌّ على إنقاذ جلده من الملفات التي تُنظر منذ سنوات أمام القضاء.

إن ما يجري مؤخرًا داخل المؤسسة الإسرائيلية يصحّ أن نسميه “الصعود إلى الهاوية”. فهو في ظاهره صعود صاروخي لليمين الديني الصهيوني الأكثر تطرفا، لكنه في ذات الوقت صعود سيوصل هذه المؤسسة إلى الهاوية. فهي تسير بخطى حثيثة نحو نقطة اللاعودة.

يبدو أن نتنياهو ومن معه سوف ينجحون في تمرير القوانين التي تشكل حاليا أزمة غير مسبوقة في الشارع الإسرائيلي، وتشكل في ذات الوقت مقدمة لأزمة أكبر.  وهو ومن معه تبدو على وجوههم مسحة الانتصار والنشوة التي تمنحهم القوة في تحريك خيوط اللعبة دون إزعاج، ودون خشية من ظهور عقبات في الطريق. لكنّ هذه المظاهر الخادعة قد تنقلب فجأة وتتحول إلى حبل خانق يلتف حول عنق نتنياهو في لحظة غير متوقعة.

يدور الصراع بين المعسكرين في الشارع الإسرائيلي حول التعديلات القانونية على طبيعة الحكم ما بين الديمقراطي والدكتاتوري، حيث يرى معارضو خطة التعديلات أن إقرارها سيحول الدولة الإسرائيلية إلى حكم دكتاتوري، وكأن نظام الحكم الحالي ليس دكتاتوريا! بينما لو وضعت نظام الحكم الإسرائيلي على طاولة التشريح لاكتشفت أنه من أسوأ أنواع الدكتاتوريات في العالم وإن تلفعت بمسوح الديمقراطيّة. فنحن نتحدث عن كيان قام على أسس توراتية عقائدية، ويمارس التوسع والتمدد والعلاقات الخارجية والسياسات الدولية من هذا المنطلق، وما “النظام الديمقراطي” إلا لعبة من ألاعيب السياسة. فالمؤسسة الإسرائيلية منذ قامت على أنقاض فلسطين التاريخية اعتبرت نفسها بداية ونهاية دولة يهودية ثم ديمقراطية! وهذان مصطلحان أشبه ما يكونان بخطي سكة القطار، لا يمكن أن يلتقيا. وهي كذلك- وهذا الأهم- تمارس الحكم على أنها دولة يهودية، وتستحضر “الديمقراطية” فقط في الحالات التي تخدم يهوديتها، ومن أجل أن تحظى بالقبول في المجتمع الغربي الذي عانى الأمرين من الدولة الدينية، وسفك الكثير من الدماء كي يتخلص منها.

وفي التالي فإن تخوفات المعسكر المعارض في حقيقتها ليست على ذبح الديمقراطية. فهو معسكر كان في الحكم قبل ذلك، ومارس أشكالا قبيحة من الموبقات السياسية التي لا علاقة لها بالديمقراطية التي يذرفون عليها الآن دموع التماسيح. إنهم يخشون من الوصول إلى خط النهاية. من السقوط في الهاوية. من انتهاء الحلم الصهيوني بشكل فعلي وليس بشكل مجازي.

يجب ألا نستهين بالحالة التي وصلت إليها المؤسسة الإسرائيلية منذ عودة معسكر اليمين المتطرف إلى السلطة. وهم أيضا لا يستهينون بها. لذلك تجد قيادات ذات شأن تدلي بدلوها وتحذر. فهذا رئيس جهاز الشاباك الحالي يطلق تحذيراته. وها هم نحو 450 من قيادات سابقة في ذلك الجهاز، بينهم ثلاثة رؤساء سابقون، يوجهون رسالة إلى آفي ديختر، وهو رئيس سابق للجهاز، يطلبون منه منع السقوط، ويحذرونه من العواقب. وها هي قيادات كبيرة في الجيش من الاحتياط وقيادات حالية تحذر هي الأخرى من كارثة قادمة.. وها هم رجال اقتصاد وأصحاب شركات كبرى يحذرون من الانهيار، ومنهم من أوقف نشاطه الاقتصادي والاستثماري هنا، ونقله خارج البلاد. وها نحن نشاهد الشارع الإسرائيلي (المدلل بطبيعته) يخرج في مظاهرات ضخمة منذ أسابيع احتجاجا على الإجراءات الجديدة. وها نحن نشاهد محتجين يحاصرون أعضاء كنيست في بيوتهم لمنعهم من الوصول إلى الكنيست للتصويت، مستخدمين العنف الكلامي الذي سيقود في نهاية المطاف إلى عنف جسدي، كانت له بدايات في أوج الحملة الانتخابية الأخيرة. وهذه كلها مشاهد غير مسبوقة وتحمل مؤشرات تؤكد بأن هؤلاء يرون أفق النهاية الذي عملوا طوال عقود على عدم الوصول إليه؛ نهاية تقود أحلامهم وخططهم إلى واد سحيق بسرعة كبيرة.

هذا لن يحدث غدا صباحا، كما قد يظن بعض المتعجّلين، لكنه سيحدث في وقت ما. وسوف يصل هذا المجتمع؛ المسكون بالاستعلاء العرقي والديني والأنانية وكراهيّة الآخر، إلى نقطة صدام داخلي دامٍ يحاول نتنياهو ومن معه استبعاده في خطابهم، إلا أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنه سيحدث لاحقا، وربما في وقت قريب جدا. ورغم علمهم هذا إلا أنهم ماضون في خطتهم، وكأن ما يفعلونه هو قدر محتوم سيوصل في النهاية إلى قدر محتوم آخر أكبر منه وأشد وطأة.

ولأن نتنياهو ومن معه يدركون هذا جيدا فإنهم سيحاولون الالتفاف على القدر بغبائهم المعهود، من خلال محاولة منع السقوط الداخلي باختلاق أزمة خارجية على شكل مواجهة عسكرية في الشمال أو الجنوب أو مع إيران، قد مواجهة محدودة أو غير محدودة. فنتنياهو يجيد هذا النوع من الأزمات. لكن السؤال: هل سينجح هذه المرة؟ هل سيكون في إمكانه الإفلات من الأزمة الداخلية؟

كل المؤشرات تقول إنه سيفشل، لأن المسألة الآن تتعلق بمصير الكيان ومستقبله، وبمصير مجتمع هشّ بدأ يتمزق من أعماق داخله، لا بمصير الحكومة ومستقبلها. والمعطيات الحالية على المستوى الداخلي يجب أن تسبب لنتنياهو قلقا شديدا وتقض مضجعه. وأظنه يدرك هذا، لكن لأنه ليس الوحيد الذي يمسك بخيوط اللعبة القاتلة. فهو الآن في أضعف حالاته، خاصة بعد أن سلّم رقبته لحفنة زعران شوارع أمثال بن جفير وسموطرتش وأمثالهما. وهؤلاء سوف يؤدون في نهاية المطاف إلى صعودهم جميعا إلى الهاوية.

ولتقريب المشهد، فإن تاريخ اليهود مليء بالمحطات المشابهة، بدءا من الخروج من مصر، والصراعات الدامية بين الأسباط في سنوات الضياع، ومرورا بمملكتي يهودا والشمال، واللتين خاضتا مواجهات دامية أنهت وجودهما، ثم السبي البابلي، وصولا إلى الشتات، فالصراع الاشكنازي – الشرقي… والصراع الخفيّ تارة والجليّ تارة أخرى بين اليهودية وبين الصهيونية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى