أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

منارات في الفكر الإسلامي (3) (ما بعد الحداثة) فكر ظلامي

د. محمود مصالحة

عظمة الفكر الإسلامي منبثقة من عظمة أصول الفقه- الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس- وتعدد المذاهب، كلها أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية، فارتقت وازدهرت وأثمرت. ولقد كان لعلماء الأمة ومفكريها الحظ الوافر في بناء ورقي الحضارة البشرية، ولا يغيب ذلك عن أحد.

إن عظمة الفكر الإسلامي بخصائصه الربانية والفطرية الإنسانية والشمولية والعلمية والعالمية وسعته وعمق حواره للآخر، يُظهر حقيقة محدودية الفكر العلماني الحداثي المادي بجلبه على البشرية الحروب الكارثية، وبرفضه الآخر.

لقد ظهر العالِم المُفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري بموسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية” فكان من أبرز أعلام الفكر الإسلامي والعربي المعاصر، حيث بيَّن بكل موضوعية مدى انحطاط الفكر الغربي في كتابه (ما بعد الحداثة)، هذه الفلسفة التي ظهرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي بمفكريها العلمانيين الغربيين الذين تخطوا فكر الحداثة (modernism)، إلى فكر أشدّ انحطاطًا بالبشرية، وأشد سوءًا ألا وهو فكر (ما بعد الحداثة) (modernism Post-)، منهم المفكر مشيل فوكواما الذي تبنى فلسفة نيتشه الذي يرفض القيم الإنسانية، وجاك ديريدا الذي يتبنى نظرية التفكيك ما هو مُنظم ومركزي متفق عليه، وتقويض المقولات كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود، والهوية … وذلك عن طريق التشريح، والتفكيك، والتقويض، والتشتيت، وجاء الفيلسوف ليوتار وبودريار اللذان قالا: إنهما فوق الحقيقة، فأنكرا وجود حقيقة يقينية ثابتة، واعتبراها وهمًا وخداعًا كما ذهب إلى ذلك نيتشه.

ومفهوم مصطلح ما بعد الحداثة أي (ما بعد البنيوية)، هو رفض المرجعيات، ورفض الكليات المطلقة… ومصطلح ما بعد الحداثة، هو بمعنى (التفكيكية البنيوية) وإن كانت مادية، فهو يقوم بتفكيك الإنسان، ومصطلح ما بعد الحداثة يكتسب أبعادًا مختلفة بانتقاله من مجال إلى مجال إلى آخر، بلا مركزية لا ثبات أي في (سيولة وتغيُّر دائم)… بمفهوم ورؤية مختلفة، يحجب عالم المُثل والقيم.

أما المنطلقات الفلسفة الفكرية (لما بعد الحداثة) فهي على النحو الآتي:
1. يقول أصحاب ما بعد الحداثة: لا يوجد كليات من أي نوع، مادية أو روحية، وقالوا: (الحقيقة والكلية خرافة) ويجب القضاء على فكرة الحقيقة والكلية بمختلفاتها. والسؤال عن الحقيقة أو الحق أو السببية عندهم لا يختلف تمامًا عن السؤال (ما الإله؟)، لا يوجد شيء يُسمى الحقيقة على حد قول ديريدا، ويزعم أن الحقيقة دائمًا تعددية، هي حقائق منفصلة وليس حقيقة كلية، كل حقيقة مختلفة عن غيرها، لأن الحقيقة الكلية تستدعي عالمًا متماسكًا متجاوزًا لعلمنا المادي أي “عالم الآخرة” بحسب العقيدة الإسلامية، التي تتعارض كليًا مع فكر (ما بعد الحداثة)، الذي يعتبره أصحابه هو مشروع عالمي لعالم دنيوي كله متغيِّر، فالكل بحسبه كامن في أجزاء لا رابط بينها، وكل جزء حقيقة منغلق مستقل بذاته، والعالم في حركة دائمة التغيير، والكل في ما بعد الحداثة يتسم بهذه السمات الجوهرية، وهي غياب أي مركز أو مرجعية أو معيارية.

وأصحاب ما بعد الحداثة يعتبرون كلمات مثل (يقين) أو(دوافع) أو (حق) أو (ذات) أو (السببية) أو (الهوية) وهي مصطلحات فكرية إسلامية، تتضمن إشارة إلى حقائق كلية وثنائيات، ولكنها متعارضة مع مشروعهم الفكري (ما بعد الحداثة)، لأن ما بعد الحداثة ليس هناك أي نظام ولا معيارية، إنما تظهر القوة (النيتشوية) الاستبدادية، وتظهر فيه التسوية الكاملة بين الكائنات، أي تتساوى كل الكائنات من جميع الوجوه (النساء والرجال-اليهود-الغجر- القرود والشواذ جنسيا)، وعالم ما بعد الحداثة ليس نظامًا ذو مركز وغاية، وليس بنيوي بل هو هلامي مكوَّن من نُظم صغيرة، مغلقة منفصلة، يدور كل واحد حول مركزه، لا يوجد رابط ولا صلة بينهم، ولا مرجعية تضبطهم، فهو عالم لا توجد فيه طبيعة مادية ولا طبيعة بشرية مركزية يرجع إليها، فهو عالم ذري مفكك، وتعني ما بعد الحداثة طابع انطولوجي يبحث في طبيعة الوجود الأوليَّة، عوِلْم الوجود، عوِلْم الكائن، وعودة للتساؤل هل يوجد حقيقة أساسًا؟ هل يوجد عالم موضوعي؟ ما الذات وما الموضوع؟ هو عالم الشك والريبة يرفض اليقين.

2. أما المعرفة: فالعالم في تصور (ما بعد الحداثة) تنقسم إلى وحدات طبيعية وإنسانية، متساوية ومستقلة ومختلفة ومنفصلة ومنغلقة بسبب عدم وجود مركز ومرجعية موضوعية وكلية مشتركة تضبطه، وتصبح كل وحدة ذات سيادة مطلقة ومرجعية ذاتية. فيتسم العالم بالتعددية التفتيتية التفكيكية، والانقطاع والفوضوية، والمساواة والتساوي، والتغيُّر الكامل، فتصبح المعرفة الكلية الإنسانية الشاملة مستحيلة، فليس لها أساس إنساني طبيعي أو إلهي. وفي الفكر الفلسفي (ما بعد الحداثة)، لا يمكن التمييز بين الحقيقي والزائف.

وهذا فوكواما الذي تأثر بنتشة (الذي يؤمن بميتافيزقا الصراع) يُنكر وجود الحقيقة، فالحق في تصوره هو نتيجة القوة يفرضه أصحاب المصلحة، لذا يمكن فصل الحقيقة عن المصلحة، وإن ادّعاء الحقيقة هو شكل من أشكال الإرهاب الشمولي، والوصول إلى الحقيقة يكون من خلال التفاوض، وفي داخل هذا الإطار تصبح العلوم الإنسانية لا جدوى منها.

وفكر ما بعد الحداثة يسأل وما هو أصل جوهر الإنسانية؟ وما قيمة العقل؟ ولا يستطيع العقل محاكاة الواقع، فهو ليس مرآة له، ومن ثم يستحيل إصدار الأحكام للتفسير والتخطيط والتحكم ومراكمة المعلومات والاستفادة منها؛ بل يعني استحالة الإبداع الحقيقي، ص(87-89).

ويقول الفيلسوف الإسلامي عبد الوهاب المسيري في ستينيات القرن الماضي “إنه في إحدى الحفلات قابل الكاتبة سوزان سونتاج اليهودية الأمريكية الشهيرة المدافعة عن السُّحاق وكانت مساحقة ومتزوجة، وقد اكتسح كتابها “ضد التفسير” الجميع عند صدوره، لكونه مثير جديد وغير مألوف في الحضارة الغربية…ويقول المسيري عندما عدت إلى القاهرة كتب مقال لهذا الكتاب في مذهب نقدي جديد، وأشرت إلى (اللاعقلانية الفلسفية) التي بدأت تمسك بتلابيب الغرب وتهيمن عليه”. ص13.

هذه المفاهيم التفكيكية للإنسان والمجتمعات والأسر لأصحاب مصطلح فكر (ما بعد الحداثة) إنهم مشاريعهم يسوقون البشرية المفككة المحطمة سوقَا نحو الهاوية، بعد سلبهم منها مرجعيتهم وقيمهم وإنسانيتهم.

خلاصة القول: ما بعد الحداثة هو فكر فلسفي إلحادي يتسم باللاعقلانية، ينطلق من محدودية نظرياته الاستعلائية الظلامية الفوضوية، والعدمية، التقويضية للعقل والمنطق، والتشكيكية، التفكيكية للحالة الاجتماعية إلى أجزاء صغيرة لِكلٍ هويته، بلا مركزية أو مرجعية، ستجعل الإنسان عبثيًا بلا قيمة. أما مفكّري ما بعد الحداثة يرسمون الطريق لإيجاد نوع جديد من البشرية مختلف ومخالف للفطرة الإنسانية فطرة الله، الخصيصة الإسلامية، والمرجعية العقدية التي تحفظ الإنسان من السقوط في مستنقعات مشاريع فكر (ما بعد الحداثة) الذي يتناقض كليًا مع الإسلام والفكر الإسلامي عقيدة وشريعة وتربية، الذي يجعل الإنسان خليفة مكرمًا لعمارة الأرض.

وبناء عليه فإن الإسلام يرفض نظريات ومشاريع ما بعد الحداثة، المتناقضة مع كليات الإسلام العقدية والتشريعية ومرجعياته، ومحاولات تفكك المجتمعات للهيمنة الاستعمارية المفضوحة، فالحذر من خديعة مشاريع ما بعد الحداثة.

في المقال القادم سيتعرض الباحث لخطورة مشاريع ما بعد الحداثة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى