أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

ولكن سيد القوم المتغابي..

ليلى غليون

 

ما أجمله من خلق وما أعلاها من نفس، تلك التي تترفع عن سفاسف الأمور وتغض الطرف عن الصغائر وعن هفوات الغير وعن زلاتهم، فلا تترصد لهم أخطاءهم ولا تحصيها عليهم ولا تقابلهم بثورة أعصاب تكدر عليهم صفوهم وهدوء بالهم، بل تقابل تلك الزلة بتغافل حكيم حتى تبقي على مياه العلاقات الجميلة تسير في مجاريها النقية، لتتعامل مع تلك الهفوة بروح التغاضي أو حتى التغابي حفاظًا على وشائج المحبة وسلامة المشاعر من أن تخدش أو تجرح.

عن أبي بكر بن أبي الدنيا أن محمدًا بن عبد الله الخزاعي قال: سمعت عثمان بن زائدة يقول؛ العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل قال: فحدثت به أحمد بن حنبل فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل.

فلننظر إلى حكمة وقمة أدب من لقب بلقمان هذه الأمة “حاتم الأصم” رحمه الله تعالى في تعامله مع تلك المرأة التي جاءته يوما تستفتيه في مسألة، وبينما هي تسأله خرج منها صوت مما سبب لها الحرج والخجل، فما كان منه رحمه الله إلا أن قال لها: ارفعي صوتك، موهمًا إياها أنه أصم ولم يسمعها، فسُرَّت المرأة بذلك وشعرت بارتياح شديد بأن حاتمًا لم يسمعها وقالت: إنه لا يسمع الصوت. فلقب بالأصم بسبب تلك الحادثة التي جسَّدت الأدب السامي والذوق الرفيع في حاتم الأصم، وهو الأدب الذي ممكن أن نطلق عليه أدب التغافل والذي هو من أدب السادة كما قال ذلك الشاعر:

 ليس الغبي بسيد قومه    لكن سيد قومه المتغابي

 

ولا أبالغ لو قلت إن هذه الحادثة لو حصلت في مجالسنا اليوم لأصبحت هذه المرأة مادة للحديث والتسلية والهمز والغمز عند من شيمتهم إحصاء الزلات والهفوات، ومن يتلذذون بالصيد في المياه العكرة، والذي يؤلم في الأمر أن هؤلاء لا يفوتون صغيرة ولا كبيرة لغيرهم إلا وأحصوها عليهم، بينما تراهم كما جاء في قوله تعالى: (صم بكم عمي…) عن الكبائر في أنفسهم وكأنهم ملائكة منزهون. ومن المواقف الجليلة في أدب التغافل ما ذكر عن ابن عطاء بن أبي رباح أنه قال: (إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد). بينما لو تحدث أحدنا بخبر أو بقصة وكان السامع على علم مسبق بها، ففي الغالب لا يدعه يكملها، بل يقطع عليه حديثه بعبارة محرجة تؤذي شعوره بقوله: (أخبارك بايتة) أو يسارع هو بسرد القصة بالنيابة عنه ليبين له أنه على علم بها.

وما أحوجنا إلى هذا الخلق الجميل، خلق التغافل أو كما نسميه بالعامية (التطنيش) خصوصًا في هذا الزمان الذي فيه يشتعل فتيل الخصومات لأقل الأسباب وأتفهها، وتثور فيه رياح المشاكل على كل صغيرة وكبيرة. إنَّه خلق التغاضي الكريم الذي لا يجرح المشاعر ولا يكسر الخواطر، وهذا بالطبع في غير معصية وفي ما لا يغضب الله عز وجل، ونحن لا نعني بالتغافل الغفلة، أبدًا، فالغفلة غير التغافل كما التغابي غير الغباء، ومعنى التغافل هو أن تتكلف الغفلة مع علمك وإدراكك عما تتغافل عنه وذلك تكرمًا منك وتفضلًا وترفعًا عن سفاسف الأمور. وقد قيل لأحد العارفين: ما المروءة؟ قال: التغافل عن زلة الإخوان.

ولكن هناك من يتبجح ويفلسف الأمور ويصف نفسه بأنه إنسان “صريح” وأنه “ما بتحمل يشوف حاجة عوجة”، ليسيء التصرف بنصائح جارحة ومحرجة ومؤذية للغير، ولا يدري أن هذا التصرف في كثير من الأحيان فيه من الغباء ما فيه، وفيه من جرح المشاعر ما فيه، بل لربما كان هذا التصرف سكينًا يقطع العلائق الطيبة بينه وبين الناس، إذ كيف تدوم علاقة بينه وبين الناس وهو يحصي عليهم الزلات والهفوات ولا يسمح لزلة هنا أو هناك أن تمر هكذا بدون مساءلة أو تلويم؟! وكما قال الشاعر:

 ومن لم يرد إلا خليلًا مهذبا   فليس له في العالمين خليل

 

وما أجمل التغافل في هذه الحياة خصوصًا وضغوطات الحياة لا يكاد ينجو منها أحد فلو وقف أحدنا على كل صغيرة وكبيرة لغاص في بحار التوتر والأعصاب الهائجة والمائجة ولقضى جلَّ عمره باحثا عن السعادة التي لن يدركها أبدًا.

وترخي السعادة سدولها على بيت الزوجية عندما يتقن الزوجان فن التغافل بتعاملهما مع بعضهما البعض ليغضا الطرف عن المشاكل العابرة ولا يسمحا لها أن تنيخ رحالها في بيتهما فيتكدر مناخه وتحوم الغيوم السوداء في سمائه وتزمجر الرياح في دياره، بل يقابلا هذه الهفوات بأن يديرا لها ظهر التغافل لتستمر سفينة الحياة الزوجية تسير على مياه هادئة وذلك لاستدامة السعادة وبقاء العشرة الجميلة، فلا يقف الزوج لزوجته موقف المحاسب على زيادة في ملوحة الطعام مثلًا، أو لبطئها في تلبية أمر ما، أو لنسيانها فعل شيء طلبه منها، أو يقف لها موقف القاضي يحكم عليها الأحكام القاسية على زلة هنا وهفوة هناك، كذلك الأمر بالنسبة للزوجة فلا تكدر صفو حياتها الزوجية بوقوفها موقف المهاجم لزوجها أو تضعه في قفص الاتهام إذا بدر منه أي فعل لا يتناغم مع مزاجها، أو لماذا يتأخر خارج البيت، أو ما هذه التكشيرة التي تغطي وجهه، أكيد هناك امرأة أخرى في حياته، فتستولي عليها الهواجس والظنون والتي ربما من نسيج خيالها، فتحرق أعصابها وتحرق أعصابه، لتحرق بعدها هدوء البيت واستقراره، وكل ما في الأمر أن الزوج ربما متضايق من أمر ما في العمل أو في المهنة أو من صديق أو من أي كان، ولو تركته قليلًا بدون تذمر أو شكوى أو بدون توجيه أصابع الاتهام إليه لهدأ ولعاد إلى طبيعته وانتهى الأمر.

فلنجعل من التغافل والتغاضي مبدأ وأساسًا لكل علاقاتنا الإنسانية إذا أردنا لها الدوام والاستمرار والسير في مياه هادئة بعيدًا عن المشاكل والمنغصات وما أجمل ما قاله أحد الحكماء: “كذلك هي حالتُنا في علاقاتنا البشرية، لا يخلو الواحد منا من أشواك تُحيط به وبغيره، ولكن لن يحصل على الدفء، ما لم يحتمل وخزات الشوك والألم، لذا من ابتغى صديقاً بلا عيب، عاش وحيداً، ومن ابتغى زوجةً بلا نقص، عاش أعزب، ومن ابتغى قريباً كاملاً، عاش قاطعاً لرحمه، فلنتحمل وخزات الآخرين، إذا أردنا أن نعيد التوازن إلى حياتنا”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى