أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (129) عندما يتحدثون عن التيّار الثالث.. حول ما جاء في حديث عضو الكنيست سامي أبو شحادة

حامد اغبارية

 

رغم أنك تستخدم المصطلح السياسي الإسرائيلي “عضو كنيست” للتدليل على الجهة التي ستتحدّث عنها، فإنك عندما تطلق هذه الصّفة (المهنة، الوظيفة، الحالة…الخ) على فلسطينيٍّ من الداخل فإنك تصاب في كل مرة بالقشعريرة والسّخونة، لأن هذا الرّبط الفجّ والمصطنع بين كونك فلسطينيًا وبين أن تكون عضوًا في المؤسسة التشريعية التي وُجدت أصلًا لتأكيد إلغائك ونفي وجودك، فإن هضم هذه العبثية تصبح من المهمّات المستحيلة.

لماذا؟

لأنه لا يمكن أن تجتمع أكثر التناقضات وضوحًا في التاريخ المعاصر تحت سقف واحد. ولأنه لا يمكن أن تستوعب أن الّذي يتحدّث عن “مشروع وطنيّ فلسطينيّ” يمكن أن يحقق أهداف هذا المشروع من خلال التعاطي مع أخطر وأكبر وأهم مؤسسات المشروع الصهيوني؛ الكنيست.

نعم، يمكن أن أفهم (ولا أتفهّم) أن يأتي أحدهم ويقول: رفعنا الراية البيضاء، واستسلمنا للواقع الذي فُرض علينا بقوة السّلاح، ونعترف بعجزنا عن تغيير هذا الواقع، أو على الأقل عجزنا عن توعية النّاس بضرورة رفض هذا الواقع وعدم التعاطي معه كأنه تحصيل حاصل،  ولذلك قررنا أن نعيش كيفما اتّفق وبأيّ ثمن وتحت أي سقف، واخترنا عضويّة الكنيست..

حسنا، ربّما أفهم هذا، وأشفق على ضعفك وأرثي لحالك، ولكن رجاءً لا تحدثني عن المشروع الوطني الفلسطيني! ولا توهمني بأنك ذاهب إلى الكنيست “عشان تجيب الذيب من ذيله”!!

لقد حاول عضو الكنيسيت الإسرائيلي الدكتور سامي أبو شحادة (تجمّع) من خلال الفيديو الأخير الذي خاطب به الجمهور حول الانتخابات القادمة أن يوهم هذا الجمهور بأنه حان الوقت لقول الحقيقة. لكن الرجل لم يقل الحقيقة التي يجب أن يسمعها الجمهور، بل قال ما اعتقدَ أنه بواسطته يمكنه أن يقنعه بالتصويت له في الانتخابات القريبة. وهذا نوع من الاستهبال لجمهورٍ يقول أبو شحادة إنه جمهور مسيّس ويفهم اللعبة السياسيّة. هذه حقيقة!!

هل يكفي استدرار العواطف من أجل دفع الجمهور للتصويت؟ للأسف.. نعم..

وهل يكفي استدرار العواطف لإفهام الجمهور أن التصويت للكنيست هو الطريق لتحقيق أهداف المشروع الوطني الفلسطيني؟ مليون “لا”!

ولقد كان توجه أبو شحادة في الفيديو الأخير من أوله إلى آخره محاولة مستميتة لاستدرار العواطف.. وما سوى ذلك لم يحمل أيّة رسالة حقيقيّة يمكن أن تقنع أحدًا بأن المشاركة في الكنيست يمكن أن تحقق شيئًا. وهو بطبيعة الحال لم يقل الحقيقة كرجل سياسي، بل راح يؤدّي دور المحلّل السياسي لحالةٍ مضت وحالةٍ حاضرة، تحدث فيها عن تراجع الخطاب السياسي للمشتركة وللموحدة، لكنه لم يقل للجمهور ما هو الخطاب السياسي الّذي يريده، وكيف يمكن استعادة ثقة هذا الجمهور بخطابه السياسي المُستعاد!!

وكان أسوأ ما استخدمه لاستدرار العواطف هو افتتاح الفيديو بالحديث عن العدوان الذي يتعرض له “شعبنا في الضفة والقدس وغزة”…

تحدث أبو شحادة عن تجربة المشتركة الّتي اكتشف (فجأة) أنها فشلت ولم تحقق ما كان متوقعًا منها، وفي مقدّمته “تنظيم أنفسنا كأقلية قومية في البلاد، يكون عندها ذراع سياسي له برنامج متفق عليه ومن خلاله نخدم أهلنا في الكنيست وفي الميدان”!!!

أولا: ما معنى أن نواصل الإصرار على أننا أقلية قومية “في هذه البلاد” (أية بلاد؟؟ في وطننا؟!! في دولة المشروع الصهيوني؟؟؟ أين؟؟؟). وماذا لو قيل لك إنّنا لسنا أقليّة، وإن حمل هذا الشعور بأننا مجرد أقلية تحكُمها وتتحكم بمصيرها أغلبية تمارس عليها القهر والعسف والظلم، يجعل سقف الطموحات والأهداف متواضعا جدًا، وحجم الإنجاز (إن وُجد أصلًا) لا يرتفع عن وجه الأرض شبرا؟ ولماذا يجب أن نعتبر أنفسنا أننا أقلية؟ ألسنا جزءًا من شعب فلسطيني يشكل بمجموعه أغلبية عددية (إن شئت)؟ أليس لنا امتداد عربي نحن جزء منه، تُشكِّلُ تلك الّتي جعلتمونا فيها أقليّة، نقطةً لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة؟ ألسنا جزءا من محيط عالم إسلامي هو ملء السمع والبصر؟

ثانيًا: إن اعتبار أنفسنا مجرد أقلية (قومية، عرقية، دينية.. أو أيًّا كانت التسمية) يعني شيئًا واحدًا: هناك واقعٌ فرضته أحداثُ النّكبة عام 1948، وفي التّالي لا بدّ من التعامل مع هذا الواقع بواقعيّة (هي واقعيّة المهزوم!!). ومعنى هذا أن علينا أن نتصرّف وكأنَّ تاريخنا كمجموعة تعيش في الإطار الذي صنعته ظروف قاهرة،  بدأ فقط بعد النّكبة، وهذا من أخطر ما يمكن أن تقع فيه أية مجموعة سكانية هي جزءٌ من أطُر أكبر وأوسع. قضيتنا لا تشبه قضية السود في أمريكا مثلًا وحالتنا لا تشبه حالتهم، وهي حتى لا تشبه وضع الأقليات الكردية مثلا، في العراق أو سوريا أو إيران أو تركيّا. ولأننا نتصرف على هذا الأساس، فقد وصلنا بالضبط إلى الحالة التي تحدث عنها أبو شحادة، وهي حالة لا علاقة لها بالخطاب السياسي، وإنما بالسلوك السياسي وبالوعي الجمعي للأبعاد الحقيقية لقضيّتنا، والتي تقتضي منّا تحديد دوائر الانتماء الحقيقية، وهي الدوائر التي أغفلتها كل أحزاب الكنيست العربية، كما أغفلها أبوة شحادة في كلمته.

ثالثا: تحدث أبو شحادة عن تجربة المشتركة وقال إن هذا المشروع كان له عدد كبير من الإنجازات. والسؤال: ما هي هذه الإنجازات؟ أين هي؟ لماذا لم يذكر منها مثالا واحدًا على الأقل؟ الحقيقة إنه يعرف أنه ليست هناك إنجازات، لكنّه أراد أن يجامل، لعلّ وعسى… فالأيام حبلى بالتقلّبات التي تفرضها ضرورات انتخابية على رأسها “الهم الأكبر”، وهو تجاوز نسبة الحسم!! أما الإخفاقات فنحن شهود عليها، وهي لا تُحصى، بل إنها جعلت منّا أضحوكة في عالم السياسة، ومرّغت وجه مجتمع الداخل بالتراب إلى درجة إهدار الكرامة.

رابعا: تحدث أبو شحادة عن أن “دورنا في هذه المرحلة أن نفهم لماذا الغضب والإحباط ونسبة المشاركة القليلة في التصويت”؟ وهذا كلام يفترض أنه لا يليق برجال السياسة الحقيقيين، وإنما هو كلام بمستوى ناشط انتخابات يسعى لتجنيد الأصوات، تماما كما تفعل الأحزاب الصهيونية- كمثال وليس للتشبيه- سواء في الانتخابات الداخليّة أو العامة. وكان يفترض أن الكلام يكون بمستوى جمهور يقول عنه أبو شحادة إنه مسيّس. وحقيقة الأمر أن الغضب والإحباط وتراجع المشاركة في التّصويت أسبابها كثيرة، ليس بينها أي شيء يتعلق بسوء أداء الأحزاب أو تراجع الخطاب السياسي، وإنما لتوصل الجمهور إلى قناعة بأن طريق الكنيست أثبت فشله، خاصّة وهو يرى أن الأحزاب العربية تهوي في كلّ جولة انتخابات نحو هاوية التنازلات أكثر وأكثر، وأن المباديء والشعارات الكبيرة مجرد حبر على ورق. هذا وحده يفسّر حالة الغضب.

خامسا: نعلم أن التجمع الذي يقوده أبو شحادة اليوم يطرح مشروع “دولة جميع مواطنيها”، وأظنّه قصد هذا في حديثه عن الخطاب السياسي أو البرنامج السّياسي. وهذا بالضبط ما يجب أن يناقَش بكل وضوح وقسوة، لأن مجرد طرح هذه الفكرة يعني الاستسلام للواقع الذي فرضته أحداث 1948، وأن الغاية الآن هي تحقيق ذلك الشّعار الغريب العجيب داخل دولة المشروع الصهيوني الذي يريد أبو شحادة أن يواجهه، كما تحدّث في الفيديو، لكنّه لم يقل كيف؟

سادسا: تحدث أبو شحادة عن الذين اختزلوا القضية في ميزانيات وأموال والتأثير من داخل لحكومة (كتجربة الموحدة). حسنًا. وأنا أرى كذلك وغيري كثيرون. ولكن السؤال: ما الذي يملك أبو شحادة أو يريد أن يفعله ليكون السقف أعلى وأوسع وأكبر من مجرد ميزانيات؟ وكيف سيحقق ذلك؟ من خلال الكنيست؟!!! هذه أسئلة تحتاج إلى إجابات حقيقية للجمهور الذي يخاطبه الرجل، خاصّة وأنه يعترف (ويعرف) بأن المشكلة ليست مع يمين أو يسار إسرائيلي وإنما مع المشروع الصهيوني الذي “يصارعونه ويواجهونه” من خلال الكنيست الصهيوني – يا للعجب!!- منذ سبعين سنة وأكثر! بل ويعترف بأنه لا يوجد شريك (إسرائيلي طبعا) لمشروع إنساني وديمقراطي يوفر الحقوق الجماعية والفردية لفلسطينيي الداخل. فإذا كانت هذه هي الحقيقة فماذا تفعلون هناك؟ هل فعلا تتوقعون أن يظهر هذا الشريك ذات يوم إسرائيلي مكفهرّ؟؟ ومتى سيظهر؟ يعني هذا الجمهور الذي تخاطبونه من أجل الحصول على صوته، كم سينتظر، بعدُ، حتى يظهر مخلّصكم؟!

سابعا: يؤكد هذا الفهم أن أبو شحادة يقول إنه يرفض التوصية على مرشح لرئاسة الحكومة ويرفض الدعم من الداخل أو الخارج، ولكن هذا الرّفض ليس مبدئيًا وإنما لأنه لا يوجد مرشح لرئاسة الحكومة يستجيب للمطالب. أي أن الرجل لا يفكّر خارج حدود الملعب الإسرائيلي، وينتظر خروج مرشح مُخلّص من النّوع الذي يبحثون عنه ليحقق “دولة جميع مواطنيها”، فأين يقع “المشروع الوطني الفلسطيني” هنا؟

ثامنا: وبمناسبة المشروع الوطني الفلسطيني، فإن من حقنا جميعا أن نسأل: ما هو المشروع الوطني الفلسطيني؟ ومن الذي يقرر ماهيّة هذا المشروع؟ ذات يوم كان هذا المشروع يريد كل الأرض من البحر إلى النهر؟ وها هو قد استقر اليوم على دويلة كانتونات تعيش على الصدقات والفتات إلى جانب دولة احتلال. فما هو شكل هذه الدولة؟ وما هي حدودها؟ وكيف ستقوم؟ ومتى؟ هل هذا هو المشروع الوطني الفلسطيني؟ كم أن تواضع طموحاتكم يثير الدّهشة!

تاسعا: طرح أبو شحادة فكرة “تيّار ثالث”؟ فأي تيار ثالث يريد؟ إنه تيار انتخابي ليس أكثر، لا تيار سياسي يعمل على تغيير المشهد السياسي برمّته. تيار يضمن من خلاله التجمع الوصول إلى الكنيست لا الوصول إلى تحقيق نهضة مجتمع الداخل. تيار ثالث منافس للمشتركة التي فشلت ومنافس للموحدة التي ارتمت في أحضان الائتلاف. بكلمات أخرى إنه يتحدث عن تيار ينافس المشتركة والموحدة على مخزن الأصوات.

إن التيّار الثالث الحقيقي موجود فعلا، وليست هناك حاجة لبذل مجهودات إضافية تستنزف الطاقات من أجل تشكيله. هذا التيّار هو الذي اعترف أبو شحادة في الفيديو إنه يشكل الأغلبية. إنه تيار المقاطعة الذي قال كلمته واتخذ قراره. وهي ليست مجرد مقاطعة كيديّة وإنما هي مقاطعة مبدئية من جهة، ومقاطعة فهمت أن ملعب السياسة الإسرائيلي ليس ملعبنا، وأن التجربة أثبتت عبثية المشاركة في الكنيست ونسج الأحلام والأوهام واستمرار خداع الجمهور. وبدلا من أن يدعو أبو شحادة الآخرين للانضمام إلى تياره الثالث الذي هو كما قال “أوسع ائتلاف” انتخابي، فإن الحريّ به أن يلحق هو بركب التيار الثالث الحقيقي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى