أخبار رئيسيةمقالاتومضات

القــلق الأمـــني..

الداخــل الفلسطـــيني الراهــن، التــحديات والمستــقبل (5)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

 

منذ أن قامت إسرائيل على أنــقــاض الشعب الفلسطيني وتهجيره من مدنه وحواضره الريفية والمدنية والبدوية، وهي تعيش هاجس الأمن بشقيه الوجودي والمعيشي- الحياتي، واعتبرت كما تكشف وثائق عديدة للحكومات الإسرائيلية في بواكير حياتها، أنّ من تبقى من الفلسطينيين وخضعوا لها، خطرًا أمنيًا لا يقل عن الخطر الخارجي المتمثل بالدول العربية، بل واعتبرت جهات نافذة في “المباي” الحاكم ومن بعده من الحكومات الإسرائيلية الفلسطينيين في إسرائيل خطرًا استراتيجيًا، وقد كان تأسيس ما سُمّي بمستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب في إسرائيل، بيانًا لهذا القلق الذي تمّ تكليف الشاباك بمتابعته إلى هذه اللحظات.

عمليًا، لا تزال إسرائيل تعاني من هذا القلق، بل وكلما تقدّمت بها الأيام، ازداد هذا القلق رغم نجاحها في اختراق الأقلية الفلسطينية اختراقًا كبيرًا، أحدث خللًا كبيرًا في الحالتين السياسية والبنيوية للمجتمع الفلسطيني.

قاربت إسرائيل مبكرًا- في سنواتها الأولى واستمرت هذه المقاربات حتى اتفاقية كامب ديفيد مع مصر- بين الأقلية الفلسطينية المتبقية وبين محيطها العربي، وتعاطت مع الوضعيتين بنفس السياسات مع اختلاف في مقادير تلكم السياسات. ففي حين رأت الحكومات الإسرائيلية على مدار تاريخها بالأمن ضرورة وجودية استوجبت أن تكون السياسات الخارجية والعلاقات الخارجية، خاضعة للمنظار الأمني بحيث تمّ سحب صلاحيات من وزارة الخارجية في اتخاذ قرارات مصيرية مع محيطها الخارجي لصالح الأجهزة الأمنية، وتولى الشاباك الإسرائيلي كِبرَ متابعة الداخل الفلسطيني ولا يزال. فالموساد مثلًا، هو العرّاب الحقيقي لكافة الاتفاقيات التي تمّت مع الدول العربية، وما اتفاقيات أبراهام إلا مثالًا على ما ذكرت.

كذلك خضعت علاقات المؤسسة الإسرائيلية مع الداخل الفلسطيني بكل مكوناته الدينية والجغرافية للمنظار الأمني، وقد تطرقت في مقالات سابقة كيف تنظر المؤسسة الإسرائيلية إلى الأغلبية السكانية التي جلها من المسلمين السنة، على أنهم يشكّلون خطرًا استراتيجيًا، ولذلك فمسألة الثقة بين الدولة ومواطنيها العرب مسألة فيها نظر كبير. ومن هنا، ومرة أخرى على سبيل المثال لا الحصر، شاهدنا كيف احتفى الإسرائيليون على اختلاف توجهاتهم بما في ذلك عديد أقطاب التيار الديني- الصهيوني، بمقولات النائب منصور عباس في اعترافه وإقراره بأن إسرائيل دولة يهودية وديموقراطية (تقديم اليهودية كدين وكقومية والشعب اليهودي كصاحب مُلك على الديموقراطية) بل اعتبر بعض الأكاديميين الإسرائيليين هذا الإقرار من مسؤول كبير في الحركة الإسلامية “الجنوبية “، انتصارًا تاريخيًا للصهيونية وأنها، أي الصهيونية، قاربت من أن تنهي مهامها المتعلقة بصيرورة الدولة وتثبيت وجودها في الشرق الأوسط، على اعتبار أنّ مثل هذا الاعتراف يكسر جليد الممانعة والرفض الوجودي لإسرائيل على أرض فلسطين التاريخية أولًا، وفي منطقة الأوسط ثانيًا، وتحديدًا أنّه يصدر من شخصية إسلامية “حركية “، وهذه القضية- قضية التطبيع النفسي والعملياتي والاجتماعي مع إسرائيل وجعلها حالة طبيعية في الشرق الأوسط – تتماثل مع مقولة إلياهو إيلات- أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين ورئيس الجامعة العبرية بين سنوات 1964-1968 وخريج الجامعة الأمريكية-: “إنّ إسرائيل ترى بنفسها جزءًا لا يتجزأ من الشرق الأوسط ليس لوجودها الجغرافي فيه فحسب، بل لأن مصدر وجود شعبها وصيرورته التاريخية والحضارية متأصلة بهذا الوطن” .

كافة مكوّنات المجتمع الإسرائيلي وكذلك المؤسسات السياسية والأمنية خصوصًا، احتفت بالقائمة الموحدة وتصريحات قياداتها وخاصة منصور عباس حول يهودية الدولة والديموقراطية، ولعلَّ مُطالعات سريعة لموقف القيادات الأمنية التي تستضيفها القنوات الإسرائيلية أو أولئك الباحثين في مؤسسات بحثية أو أكاديمية، حول تصريحات الموحدة في موضوع الهوية، يبيّن لنا حجم “الفرحة” التي أعربت عنها تلكم الشخصيات، وذلك أنّ مثل هذا التصريح فضلًا عن أنه يقدم وجبات سريعة في تخفيف حدة القلق المُعاش إسرائيليًا والذي أحدث مرضًا مزمنًا، فإنه يقدّم جسورًا تخدم المؤسسة الإسرائيلية في بناء علاقاتها الخارجية ويخرجها من طور العلاقات السرية التي طالما قادها ووجّهها الموساد، إلى العلن، لتتقدم الأجهزة المدنية في دفع تلكم العلاقة أي إخراج إسرائيل- كما قال بن غوريون يومًا- من طور العشيقة والحظية إلى طور الشريكة.

 

دوامة القلق وتدويرها المستمر..

القلق الإسرائيلي أحد أهم وأخطر التحديات التي تواجه المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، كما الشعب الفلسطيني، وهذا القلق في جوهره يعود إلى النفسية الإسرائيلية في البلاد، ورافقت الحيوات الإسرائيلية بنسختها الصهيونية كما الحاريدية والصهيونية الدينية، وهي ظاهرة عابرة في المجتمع الإسرائيلي وفي المؤسسة الإسرائيلية، وبالتالي فإنّ هذا القلق بشقيه الأمني والسياسي وما يتفرع عنهما، يدفع ثمنه الإنسان الفلسطيني ابتداء بكونه فلسطينيًا صاحب هذه البلاد على الرغم من مساعي المؤسسة لتجذير وجودها على الأرض عبر اللافتات الدينية والتاريخية، وذلك  بكون الفلسطيني منتميًا للإسلام دينًا ،أو للحضارة الإسلامية وللعروبة المتعلقة بالإسلام دينًا وحضارةً. وكنت قد تناولت هذه المسألة في مقالات خلت عبر صحيفة المدينة.

في هذا السياق وتضاعيفه، فإنَّ القلقيْن الأمني والوجودي يتصدران المشهد ويدفع ثمنه الداخل الفلسطيني وخصوصًا المسلمون منهم، وهذا الثمن تداعياته لمَّا تتوقف للحظة، بل لما تداعت القائمة الموحدة لتكون من مكونات الائتلاف الحكومي القائم حاليًا، لم تتوقف هذه السياسات ولا تمَّ حتى مراجعاتها، وما يزال العقل الصهيوني المُؤسس يرى بالفلسطينيين أعداءً وخطرًا أساسيًا لا بدَّ من متابعته وحتى لو أسست إسرائيل علاقات مع كل العالم العربي وضيقت السُبُل على القضية الفلسطينية، فسيبقى الفلسطيني فردًا ومجتمعًا هاجسًا يقلقها، ومن ثم فقد قامت إسرائيل منذ لحظاتها الأولى وإلى هذه اللحظات، بتحديد أدواتها السياسية والاجتماعية المُساعدة للتمكين الأمني في مجتمعاتنا الفلسطينية مع إضافات مساحيق سياسية وحقوقية ومدنية تتساوق مع تطورات المرحلة عالميًا ومناطقيًا سياسيًا. فالمراقبة والتجسس والمتابعة والتفكيك والدمج والضبط والاختراق والحصار والتقليص، كلها عناوين اجتماعية وسياسية واقتصادية لمعنى القلق الأمني الذي تعيشه المؤسسة الإسرائيلية مع جزء من مواطنيها منحتهم الهوية الزرقاء ومنعت عنهم سُبل تكوين هوية جامعة واستغلت مجموعة من الأحداث والأوضاع لتحقيق العناوين التي أشرت إليها كسياسات تمكين.

تتم عمليات تدوير القلق الأمني باستمرار، تمامًا كما يتم تدوير النفايات الطبيعية وغيرها لدفعها للبقاء صالحة الاستعمال، وكذلك القلق الأمني اعتبر مبكرًا ولا يزال، أحد أهم أدوات السيطرة على المجتمع الإسرائيلي، ولذلك من مصلحة الحركة الصهيونية ومشروعها، الدولة، جعل الإنسان اليهودي رهين هذا القلق: القلق الوجودي، القلق الأمني، القلق المعيشي، القلق الهوياتي، وهذه المنظومة من أدوات القلق كما أنها تنعكس على الإسرائيليين لتحقيق مزيدٍ من الولاء للدولة وللعلم والتماهي مع سياساتها، كذلك ترمي بظلالها على الفلسطينيين عمومًا وفي الداخل خصوصًا، وعادةً ما يترجم إلى أعمال تتراوح بين الكراهية والعنصرية وما ينجم عنها من مصادرة لحيوات الناس وتهديد لوجودهم ودفعهم رغبًا للقبول بسيادة الرجل الأبيض الصهيو-يهودي، وهذه الأعمال تراها تتأثر يوميًا بالحالة السياسية كما الأمنية، بل يمكننا رسم بيانات وإحصائيات حول جدل العلاقة بين القلق الأمني وحسه اليقظ والعمل السياسي والمدني.

يتم تدوير القلق الأمني راهنًا عبر العديد من الوسائل العملياتية التي بدورها تحقق الغاية الإسرائيلية الدافعة لتحقيق سياسات الضبط والخوف ونقل القلق من الإسرائيلي فردًا ومجتمعًا، إلى العربي الفلسطيني، ولعلنا هنا إذ نتناول على سبيل المثال لا الحصر قضايا العنف على اختلاف أنواعه وتداعياته المجتمعية، نؤكد هنا المذهب الإسرائيلي الذي يعتمد تهديم النفسية العربية الفلسطينية الجامعة وما ينجم عن ذلك من تهديم وتفكيك للمنظومات العائلية والحمائلية وتدمير المنظومات السياسية والاجتماعية والمجتمعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى