أخبار رئيسية إضافيةمقالاتومضات

تقبـــل اللــــــه طاعاتـــــــكم

ليلى غليون

غدًا أو بعد غد، سيرحل رمضان وقد فاز بجائزته من فاز، وقد خسر من خسر، ولا ندري إذا جاء في العام القادم ونحن ندب فوق الأرض أم نكون في جوفها، فما حصادنا يا ترى؟ هل قبلت أعمالنا فنهنئ أنفسنا أم ردت علينا فنعزيها؟ هل تحققت فينا التقوى؟ هل انتصرنا على أنفسنا؟ هل بدأنا عهدًا جديدًا مع الله ومع ذواتنا نغير فيه من سلوكنا وأعمالنا ما خالف شرع ربنا؟ أم أننا سنكون والعياذ بالله: (.. كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا…)؟

لقد ذُقنا لذة الطاعة وتسربلنا بنعيمها في رمضان، فهل سنكون رمضانيين أم سنكون ربانيين؟ هل سنثبت على ذلك أم نعود لنحترق في أتون المعصية؟! كالذي يعبد الله في شهر دون شهر، ومكان دون مكان؟! كلا، إن رب رمضان هو رب كل الشهور والأيام، والأعمال الصالحة في كل وقت وحين وليست خاصة برمضان فقط، وإن كان هو سيد الشهور وأعظمها وفيه ليلة هي سيدة الليالي كلها.

انقضى شهر الصيام سريعًا، والذي قال ابن رجب في لطائفه عند فراقه: يا شهر رمضان ترقق، دموع المحبين تتدفق، قلوبهم من ألم الفراق تشقق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة واقلاع ترقع من الصيام ما تخرق، عسى منقطع من ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق.

ولقد بكى ذاك التقي عند فراق رمضان فأنشد قائلًا:

دع البكاء على الأطلال والدار              واذكر لمن بان من خل ومن جار

واذرف الدموع نحيبا وابك من أسف        عل فراق ليال ذات أنوار

على ليال لشهر الصوم ما جعلت          إلا لتمحيص آثام وأوزار

يا لائمي في البكا زدني به كلفا            واسمع غريب أحاديثي وأخباري

ما كان أحسننا والشمل مجتمع             منا المصلي ومنا القانت القاري

وفي التراويح للراحات جامعة                فيها المصابيح تزهو مثل أزهاري

في ليلة القدر الذي شرفت                  حقا على كل شهر ذات أسرار

تنزل الروح والأملاك قاطبة                   بإذن رب غفور خالق باري

شهر به يعتق الله العصاة وقد               اشفوا على جرف من خطة النار

نرجو الإله محب العفو يعتقنا               ويحفظ الكل من شر وأكدار

ويشمل العفو والرضوان أجمعنا           بفضلك الجم لا تهتك استار

نعم، رحل الضيف الكريم، وقد كان سلفنا الصالح يحملون هم قبول العمل أكثر من العمل نفسه، علموا أن لا مستراح لهم إلا في الفردوس الأعلى فأرهقوا أنفسهم وجاهدوها بالطاعات.

علموا أن الطاعات ليست حكرًا على رمضان فكانت أيامهم كلها رمضان، ما تركوا من أبواب البر بابًا إلا ولجوه ومع ذلك كانت قلوبهم وجلة ألا تقبل أعمالهم، وكما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا من العمل، ألم تسمعوا قول الله تعالى: (… قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

فكم منّا والحمد لله من اجتهد في رمضان، في صلاته وقيامه، وتلاوته، ودعائه، وصدقته، وصلته لأرحامه، كم منّا من كان يحرص أشد الحرص أن لا تفوته صلاة الجماعة ويسارع الخطى نحو المساجد ليكون من عُمارها، كم منّا من سعى في حاجة المحتاج وإغاثة الملهوف ليزرع البسمة على شفاه المحرومين ويبذر الفرحة في قلوب حامت فوقها غمائم الحزن والحرمان، كم منّا من أحيا ليله ونهاره بطاعة الله وتذوق لذة هذه الطاعة وحلاوتها، كم منا من تجافت جنوبهم عن المضاجع وأرقهم السهاد وهم يدعون ربهم خوفًا من عذابه وطمعًا في جنته.

وها نحن نودّع شهر الصيام وأيامه المباركة ولياليه العطرة، نودّع شهر القرآن والتقوى والصبر والجهاد، نودّع شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، فهل استفدنا من دروسه وعبره ومواعظه؟ كيف سيكون حالنا يا ترى بعد رحيل شهر رمضان؟ فهل سنثبت على ما نحن عليه، أم أننا سنعود للذي كنّا عليه، حيث التهاون في المعاصي، والكسل عن أداء الواجبات والطاعات والعياذ بالله؟

إننا والحمد لله، قد وفقنا الله تعالى لصيام شهر رمضان، وكنا ندعوه عز وجل أن يتقبل منّا صيامنا وقيامنا، فهل سنستمر في سيرنا الى الله بعد رمضان إلى أن نلقى وجه الله عز وجل؟ فالصلاة لم تفرض فقط في رمضان، وقراءة القرآن ليست محصورة في هذا الشهر الكريم وكذلك سائر الطاعات والعبادات، فهي أعمال دائمة مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وها نحن على أعتاب طاعة أخرى بعد رحيل رمضان، وهي صيام ستة أيام من شوال والتي يقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر”، فمعاودة الصيام بعد رمضان علامة على قبول رمضان بإذن الله كما قال بعضهم: “ثواب الحسنة الحسنة بعدها فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة أخرى كان علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة على رد الحسنة وعدم قبولها”.

ومن علامات قبول العمل:

– الحسنة بعد الحسنة، فإذا رضي الله تعالى عن العبد وفقه لعمل الطاعة وترك المعصية.

– انشراح الصدر للعبادة والشعور بلذة الطاعة فالمؤمن تسره حسنته وتسوؤه معصيته.

– التوبة من الذنوب الماضية أعظم دليل على رضا الله تعالى.

– الخوف من عدم قبول العمل.

– الغيرة على الدين والغضب لله إذا انتهكت حرمات الله.

فإن كنا كذلك، فلنحمد الله، وإن كنا غير ذلك، فلنبك على أنفسنا.  فلا نهدم ما بنيناه في رمضان، ولا نسود صفحات بيضناها في رمضان، ولا نعود لأسر الشيطان بعد أن فك الله منه أسرنا، ولنهتف: اللهم نسألك بأسمائك الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم أن تتقبل منا صيامنا وقيامنا وتلاوتنا وصدقاتنا، وأن تثبتنا على الحق والايمان، وأن توفقنا لخالص الأعمال وأحبها إليك وأن تجعل رمضاننا هذا جسرًا لعبور جناتك.

تقبل الله طاعاتكم وكل عام وأنتم بألف خير.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى