أخبار عاجلةمقالاتومضات

فلسفة الواقعية في النظام الإسلامي (4)

د. محمود مصالحة

لقد عرّفنا في مقال سابق مفهوم فلسفة الواقعية بأنها (ثبوت حقيقة الأشياء)، وأنها لا تتناقض مع المفهوم الاصطلاحي للواقعية: وهو “تصوير الأحوال الحقيقية للمجتمع” (معجم الوسيط)، أمّا المفهوم الفقهي للواقعية: فهو “الحدث الذي وقع، وهو الحكم الثابت بخبر العدل الثقة الضابط، والذي ثبت بالعلم”، كوجوب الصلاة ونحوها”. (الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان).

لقد أمر الإسلام بالاعتدال والوسطية، وبقيمه الواقعية وهي سهلة التطبيق، ولم يأت بمبادئ من عالم الخيال لا يستطيع الناس تطبيقها، فالإسلام الدين الواقعي الذي أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، في العهد المكي والمدني، إنه الدين الذي أرسى قواعد الذاتية الإسلامية المتميزة في الفرد والمجتمع المسلم والدولة الإسلامية.

فواقعية أحداث الدعوة الإسلامية تحتاج إلى وقفات للدرس والتمحيص وأخذ العِبَر، إنها ليست كأية أحداث تاريخية سردية، إنها واقعية مختلفة عن غيرها، تهدف لبناء الأسرة والمجتمع والأمة، وإقامة الدولة الحارسة على تطبيق شريعة الإسلام، إنها واقعية النظام الجديد الذي يسهر على رفاهية مجتمعاته، ورعاية النهضة العلمية والحضارية، إنها الواقعية التي لها ما بعدها التي شكّلت أساسًا راسخًا لواقع جديد ومتجدد عبر التاريخ، وإنها الواقعية النبوية الكريمة الشمولية التي بها غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم واقع المجتمع القبلي المشرك في الجوانب العقدية والتربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية في العهد المكي والمدني، ولقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم بثبات وتحدٍ وصلابة، ومعه الثلَّة المؤمنة أمام طغيان المشركين في قريش، التي شكّلت رأس القيادة في الواقع الجاهلي القبلي في الجزيرة العربية، على الرغم مما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه، من الأذى والمعاناة لوقف رسالة الرحمة والعدالة الانسانية، التي حملت واقعًا تغييريًا لم تشهده الجزيرة العربية من قبل، حيث قام النبي صلى الله عليه وسلم بإرساء المفاهيم الإيمانية، وقواعد البناء المجتمعي، والمبادئ التأسيسية العظيمة لحاضر الأمة ومستقبلها.

فالواقعية التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم: هي ربانية المصدر، رفيعة المنزلة، عالمية الرسالة، مُيَسَّرة التطبيق، فما كان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ويفعله، والسيرة النبوية تزخر بروائع النماذج العظيمة، والمواقف الواقعية الفاعلة المشرقة التي لا تعرف عصبية القوميّة القبلية الجاهلية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، التي بها يتنادى قوميّون عرب معاصرون. وأول ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم صناعة جيل على عينه، فتحركوا للدفاع عن رسالة التوحيد، والرحمة والعدالة والعلم والخيرية، وهبوا لاستنقاذ الناس من سوء عاقبة معتقداتهم الشركية والأخلاقية الفاسدة.

أما واقعية التربية الإسلامية: فقد بدأت بالفترة المكيَّة بالدعوة السلمية الانتقائية، التي تجلّت بِقيَم الصبر على البلاء، وعدم الدفاع عن النفس حينها، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ النساء: 77. ودار الأرقم ابن أبي الأرقم كانت المدرسة التربوية من أرقى ما تكون عليه التربية من القيم الأخلاقية الرفيعة، فيها تلقى الصحابة دروسًا في العبودية والأخوة والصبر والعفو والتعاون، والتعامل مع الخصوم، ثلاث سنوات سِرِّيَة، ثم عشر سنوات جهرية، فيها تمّ بناء جيل من قيادات المجتمع المسلم.

واقعية الدعوة الجهرية:

التي تميزت بالتحدي والصَدْع بعقيدة التوحيد، لما نزل قوله تعالى: “فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” الحجر: 94، وقوله: “وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ” الشعراء:214، وتجلى ذلك عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم وصعد البطحاء، وعلى جبل الصفا نادى “يا صباحاه” فاجتمعت إليه قريش، فقال: “أرأيتم إن حدثتكم أن عدوًا مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟ ” قالوا: نعم، قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبًا لك. فأنزل الله “تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ” البخاري: (4972).

إنها واقعية التوحيد التي هزّت أركان قريش بزعاماتها، فبذلوا جهودًا ومحاولات حثيثة والعروض مادية، وتارة تهديدية، لردّه صلى الله عليه وسلم، ووفق رسالة الإسلام، فدعاه عمه أبو طالب وقال له: “يا ابن أخي إن بني عمِّك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانتَهِ عن ذلك، فَحَلَّقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَه- إلى السّماء فقال: أَترَون هذهِ الشَّمس؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بَأَقدرَ على أن أَدَعَ لكُم ذلك مِنْ أن تُشْعِلوا لي منها شُعْلة (يعني الشمس)، قال: فقال أبو طالب: ما كَذَبنَا ابنُ أخي قط (أبدا)، فَارْجِعوا” (رواه الطبراني وحسّنه ابن حجر).

واقعية التغيير العقدي والاجتماعي: إنهما أساسين في تغيير الواقع القرشي، الأول: بعقيدة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، البديلة لعقيدة الشرك. والأساس الثاني: العدالة الاجتماعية والمساواة، إذ يتساوى فيها السَيِّد والمسود، وهاتان المسألتان هما جوهر الصراع التغييري، ومعركة التحدي للقيادات القبلية الجاهلية. وما تخشاه زعامة قريش؟ حدوث التغيير السياسي، فيفقد القرشيون سيادتهم على الساحة القبلية في الجزيرة العربية.

الحبشة هجرة وواقعية جديدة للرعيل الأول: كانت بأمر نبوي حكيم، في معركة الثبات المفتوحة مع القيادة القرشية القوميّة القبلية الجاهلية، وهي طلب حماية باللجوء الدعوي للرعيل الأول، عند النجاشي ملك الحبشة العادل، وهذا التحرك في غاية الأهمية، حفاظًا على اللبنة الأولى في البناء الدعوي، الذي سيشكِّل إسنادًا قويًا للمراحل اللاحقة، لذلك فعلى الدعوات اليوم أن لا تهمش دور الرعيل الأول الذي ما زال يشكل السّنَد التكافؤي.

أمّا حادثة الإسراء والمعراج: المعجزة الإلهية التي ثبتت حتى بالدليل المادي، هي ليست هِبَة تكريم رباني عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، ورحلة العبودية والعزة والشرف التي سطّرها القرآن الكريم، لقوله تعالى: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا” فحسب؛ بل شكّلت هذه المعجزة واقعية في التحدَّي الإيماني، ومنعطفًا في الرجولة والثبات على المبدأ على طريق النصر في زمن الفتن، وعدم تصديق قيادات قريش بحدوثها، فطلبوا دليلًا ماديًا لحقيقة هذه المعجزة بوصف بيت المقدس، فجلَّاه الله تعالى للنبي فوصفه لهم وصفا دقيقًا، وكذلك كشفت عن حقيقة الثلَّة المؤمنة بصدقها وثباتها كالشمِّ الرّواسي، المتمثلة بأبي بكر بردِّه على أبي جهل، بقوله: “إن قالها فقد صدق” وهو درسٌ في الثبات في زمن الفتن، وبهذه المعجزة العظيمة تجلّت الولاية الربانية والتمكين لهذا الدين، والمحبة الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم، عندما سُدَّت في وجهه السُبل، واعتدى أهل الطائف عليه، كانت معجزة الإسراء والمعراج بوصلة الصراع الديني، ذات الارتباط المباشر بما سيدور عبر الزمان في المسجد الأقصى، وعلى أرضه المباركة من ممارسات المشروع الصهيوني، من ظلم وتهجير للشعب الفلسطيني المسلم.

والهجرة النبوية، ذلك الحدث الواقعي المفصلي: في تاريخ الأمة الإسلامية، حدث بإذن من الله عز وجل: ولكن ليس الأهم سرد أحداثها من التخطيط الدقيق والتنفيذ المحكم، والأهم هو اليقين بأن الله تعالى القادر على نقل نبيِّه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة كما نقله إلى المسجد الأقصى بمعجزة كالبراق، إلَّا أنَّ الهجرة أمر يتعلَّق بواقعية البشر، ما كانت إلا لتكون دروس وعبر، للتعلم من أحداثها، وللتخطيط الناجح لمثلها. وقد قدَّر الله تعالى أن تكون بمقاييس البشر، معززةٌ بالعناية الإلهية، بل وتدخّلت عنايته فأفشلت تمكن المشركين من وقفها، لذلك فواجب الأخذ بالأسباب متعلق باستحضار معيَّة الله، والتوكل عليه، واستغاثته طلبًا لنصرته، فهو المسبب للأسباب، فعنايته سبحانه قد حفظت النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، قُدُمًا لإقامة الدولة والعزة والجولة.

أمّا هجرة الصحابة الكرام التي تمَّت قبل هجرته صلى الله عليه وسلم بإذن منه، كانت درسًا في التمحيص والثبات عند الملمات، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقاسيه أصحابه من تنكيل بطش قريش، وليس بمقدوره حمايتهم ماديًا، فأذن لهم بالهجرة لإتمام بناء واقعية المجتمع وصناعة الدولة الجديدة في المدينة.

لذلك الهجرة أسست لواقعية الدولة بالقيم الإيمانية كالعبودية والإخلاص، الصبر والأخوة، لما عظُم الدين في قلوبهم فاستصغرت نفوسهم الدِّيار والأموال، وإذا بإخوانهم الأنصار أهل المدينة يتلقونهم بالمحبة والتعاون والإيثار، فتجلّت حقيقة الأخوة الإيمانية الحقة. في أولئك الذين آثروا نصرة لله ورسله، فأنزل عليهم النصر والتمكين والفتح المبين، ففتح الله عليهم مشارق الأرض ومغاربها، وهكذا فالطريق نحو الواقعية الإسلامية المشرقة تستدعي العمل الجاد وفق سُنن التمكين الإلهية، لقوله تعالى: “الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”، لتغيير واقعية القومية العربية المتخلِّفة والمُذلة التي غشيت الأمة.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى