أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

قالوا… يقولون!!

ليلى غليون

تبثّ وكالة الأنباء (قالوا ويقولون) وغيرها من وكالات الشائعات الاجتماعية كل يوم، بل كل ساعة، إشاعة جديدة تتناقلها الألسن لتشرق وتغرب وتطير بها في كل مكان لتنتشر بسرعة فائقة ربما تفوق سرعة الضوء، لتنطلق صواريخ الاتهامات من قاعدة الأراجيف بصورة عشوائية تصيب وتدمر وما تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم.

وقد أصبحت صناعة الشائعات في زمننا هذا صناعة متقدمة! خاصة مع تقدم التقنيات وسهولة بثّها عبر منصات التواصل الاجتماعية التي أتاحت وعبّدت كل الطرق لترويج كل شيء حتى اختلط الحابل بالنابل فلم تعد تدري أين الحقيقة وأين الكذب، فالعالم كله موجود على شاشتك الصغيرة بين يديك لا يحتاج سوى ضغطة بسيطة من أناملك، لينقلك إلى حيث تشاء إلى هذا العالم المتلاطم الأمواج.

إنّ الشائعة قنابل وألغام ورصاصات صائبة تصيب في مقتل، إنها من أعظم الأسلحة الفتاكة التي لا تبقي ولا تذر والتي تؤدي إلى خلخلة كيان المجتمعات وانهيارها وتقويض أركان أية علاقة لتصبح أثرا بعد عين، حيث نرى وللأسف الشديد أن الشائعة تنتشر بسهولة في المجتمعات على اختلافها، من خلال مسوّقين ومسوّقات بارعين في فن تسويق الإشاعة، خاصة في الجلسات والدواوين أو عبر الشبكات الاجتماعية (والتي هي تربة وبيئة خصبة جدا لنمو الإشاعات) خصوصا الإشاعات من العيار الثقيل والتي تتعلق بالعرض والأخلاق والخلافات الزوجية وقضايا الطلاق التي تزداد حصيلتها يوما بعد يوم، وهؤلاء المسوقون والمسوقات للإشاعات لا يعلمون أو ربما يعلمون أنه بترويجها وتسويقها إنما يسوقون للرذيلة والفساد والفحشاء.. فلانة طلقها زوجها.. فلانة على علاقة مع آخر.. فلان يخون زوجته.. فلانة تخون زوجها وغيرها الكثير ليتلقف هذه الإشاعات ضعاف النفوس يخوضون فيها ويروّجون لها لا مبالين بمدى عظم وخطورة هذا الأمر متغافلين عن قول الله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) النور.

وهكذا تدور طواحين الكلام دون توقف ودون كلل أو ملل، تلوك وتطحن وتطعن بالأعراض وربما تزيد من الرواية أو ربما تنقص حسبما تتطلبه القضية من إثارة وصخب لتنتشر الإشاعة بسرعة البرق، وفي حالات كثيرة الضحية بريئة أو على الأقل ليست بالصورة التي عرضها هواة إثارة الشائعات لتجد الإشاعة آذانا صاغية وتصديقا لها دون تثبت أو تأكد.

فكم من شائعات تطلقها نفوس لا تخاف الله تعالى، فلا تكاد تشرق شمس يوم جديد إلا وتنطلق إشاعة هنا وإشاعة هناك كالصاروخ تتفجر على مسمع الجميع لتسري كالنهر الجارف تغرق الضحية بوابل من الاتهامات والنظرات المعيبة، فكم من علاقات دُمّرت وكم من بيوت خُرّبت وكم من نفوس ظلمت بسبب كلمة طائشة أطلقها لسان مستهتر، أو حقود، أو مغرض، أو فاسد؟! وكم من القصص التي وصلت إلى مسامعنا ثم نكتشف أن لا أصل لها من الصحة أو أن حقيقتها مغايرة تماما عما وصلنا! وكم من الأعراض لاكتها أفواه أصحاب شهوة الكلام ممن يتلذذون بطعم الشائعات وهذه الأعراض بريئة براءة البتول عليها السلام مما نسب إليها! وكم من نفوس تأذّت وقلوب تحسّرت نتاج قيل وقال ويعلم الله أنها ليست كما يذاع ويشاع.

يقول الله تعالى في سورة النور: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون). النور (19).

فحتى لو لم تتكلم بكلمة واحدة ولم تخض مع الخائضين، ولكنك شعرت براحة عند رواج الشائعة، إذن أصبحت ضمن الذين شملتهم هذه الآية. يقول عز من قائل في سورة الإسراء: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا). فلن يسلم سمعك ولا بصرك ولا فؤادك وستحاسب عن كل كلمة تفوهت بها ظلما بحق الآخرين.

وأمّا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيتوعد بهذا الوعيد الخطير فيقول: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته). ويقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم وسوء الظن فإن الظنّ أكذب الحديث).

لقد ربانا القرآن الكريم على الأخلاق الفاضلة وعلى حسن الظنّ والتثبت عند سماع الخبر لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وفي رواية أخرى (فتثبتوا). ومعنى التثبت: أي التثبت من صحة الخبر. ومعنى التبين: أي التبيّن من حقيقته، والفرق بين التبين والتثبت أنه قد يثبت الخبر ولكن لا يُدرى ما وجهه. بمعنى أنك قد ترى مسلما يأكل في نهار رمضان وقد تثبت من ذلك، ولكن من الظلم أن تسارع بحكمك عليه بعدم الصوم دون أن تتبين من حقيقته فربما هو مريض، ربما مسافر، ربما أكل ناسيا وغيرها من الصور الكثيرة التي نراها في حياتنا اليومية ونصدر أحكاما على أصحابها هكذا مباشرة بدون تثبت أو تبين بل تجد الأحكام المسبقة جاهزة. فمن منا لا يتأذى من الكلام السيء بحقه ويحب أن يُرجم بالغيب؟! من منا لا يبتغي الستر في الدنيا والآخرة؟

وكذلك غيرنا يتأذى من السوء ويفجع من الظلم ويتألّم من نظرات الريب، فلنتق الله في أنفسنا وفي غيرنا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة).

فلا ننقل رواية قبل التثبت منها، وحتى لو تم التثبت منها فلننظر ببصيرتنا هل سيؤول نقلها إلى فساد أو إخلال بالمصالح العامة، فان كان الأمر كذلك فلنمتنع درءًا للفساد وحفاظا على المصالح العامة، فواجب المسلم إذا سمع بخبر ما أو إشاعة أن يحتفظ به لنفسه ولا ينقله لغيره مع أن الأصل عدم التصديق لأن إحسان الظن هو الأصل إلا إذا كان في عدم الإفشاء ستترتب مفاسد وستضيع حقوق ومصالح، عندها يجب إخبار أولي الأمر وأصحاب المسؤولية بذلك وليس عامة الناس.

وكما قيل: (الخطأ في إحسان الظنّ خير من الخطأ في إساءة الظن بالآخرين، وذلك فيما لا يضر) ونحن مطالبون بالتصدي والقضاء على هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة التي ممكن أن تطال أي فرد فينا خصوصا في ظل غياب الوازع الديني وضعف الشعور بالخوف من الله تعالى وهو السياج الواقي والدرع الحصين من الوقوع في كل شر، فهو الذي يدفع بالمسلم لعدم الخوض فيما يقال ويروّج له، وهو الذي يمنع الأذن من الاستماع لكل ناعق ويمنع اللسان من حديث السوء ويمنع القلب من الإصغاء والتصديق لكل فاسد نعم إنه الخوف من الله تعالى.

وما أجمل أن نربي نفوسنا على التعليمات الإلهية التي زخرت بها سورة النور العظيمة حتى إذا سمعنا خبرا عن أحد خصوصا ممن يحسن الظن بهم فلا ننساق وراءه، بل نحسن الظن به كما نحسن الظنّ بأنفسنا ونرجع الأمر إلى ذواتنا ونفوسنا التي لا يمكن أن نقبل لها مثل هذا الأمر لنقول بأعلى صوتنا: (سبحانك هذا بهتان عظيم). (لَّوْلَآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ). وليس هذا فحسب، بل علينا أن نكشف زيف الباطل ونظهر الحقيقة إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، فنحن لن نخسر شيئا بالسكوت عن خبر أو إشاعة (محققة أو غير محققة) كما أننا لن نربح شيئا بإشاعتها، بل إن ذلك هو الخسران المبين، وكما قال الشاعر: وما ندمت على السكوت مرة… ولقد ندمت على الكلام مرارا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى