أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

نصرة للمـــسرى.. العـائلات الفلسطينية في مـدينة القدس

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

شدّ الرحال الذي بادرت إليه العائلات المقدسية إلى المسجد الأقصى لإعماره في الصلوات، عملٌ مُبارك يشكرون عليه ويجدد عمق العلاقة بين المقدسيين أفرادا وحمائل مع المسجد الأقصى المبارك، ويؤسس لواقع جديد في جدل العلاقة القائم بين المقدسيين والمسجد ليس في السياقات العقدية والتعبدية وإن كانت هي الأساس في هذه العلاقة وعليها يُبنى كل ما سواها من علاقات ورؤى، بل وفي المعطى الإنساني والأخلاقي والوطني، فالمسجد الأقصى المُبارك ليس مجرد مسجد من المساجد في فلسطين ولا نظير له فيها فهو سردية قائمة بذاتها جمعت بين التاريخ والحاضر والمستقبل، وبين الشهود الحضاري والغيب المستور وموضوعة الاسراء والمعراج تحمل في ثناياها الكثير من الدلالات العقدية والتعبدية والقيمية والسياسية ما تجعل المختارية راهنة بوجود العلاقة الشرعية والأخلاقية والسياسية مع المسجد الحرام وتاليا المسجد النبوي في المدينة المنورة، والمسافات زمانا والأراضي مكانا التي بين هذه الأماكن المقدسة الثلاثة تدفع للنظر مجددًا في تضاعيف العلاقات العقدية السياسية بين هذه الأراضي التي استحالت بعد انهيار الدولة العثمانية إلى حدائق خلفية للاستعمار الحديث، ونجح أن يزرع إسرائيل فيها كاحتفاء وانتصار في التدافعات الحضارية القائمة، بل وما يجري في العقود الأخيرة من عمليات تطبيع هي في جوهرها تمكين للحيثية الأولى: علو المشروع الغربي الليبرالي الصليبي الذي لا يتم انتصاره المطلق، الا بعلو مطلق للقيم والغربية الليبرالية التي بدأت تأخذ علنا بُعدا دينيا لاهوتيا منذ احتلال بغداد مطلع هذه الالفية، وتناغمت كلية مع الطروحات الصهيونية الدينية خاصة تلكم المتأثرة من البيئة الامريكية الانجيلية ممثلة بالحاخام يهودا غليك الطامع والساعي لتثبيت الوجود الديني اليهودي في المسجد الأقصى المُبارك.

ولذلك تأتي هذه النفرة من حمائل القدس لتضع النقاط على الحروف وتؤكد المؤكد وتثبت المُثَبَتْ، في أن المسجد الأقصى بما تحته وما فوقه حق خالص للمسلمين بنص قرآني مُقدس لا لبس فيه ولا غموض، وأن الضعف والخَوَرَ الذي يصيب المسلمين في أصقاع الأرض لا يعني مطلقا التنازل عن ذرة من تراب هذا المسجد.

هذه الرسالة التي ترسلها حمائل القدس، تحمل معنى مختلفا في زمن الردة العربية والانكفاء الإسلامي، إذ يبقى الفلسطيني مع ما تيسر من إمكانيات وفي للعهدة، للحق الإلهي وللإرث النبوي وللعهدة العُمَرِية. وبهذا تتقدم حمائل القدس الأمّة قاطبة ليس في الذبِّ عن المسجد الأقصى فحسب، بل ولتأكيد إسلاميته بعد أن اتضح أنَّ أنظمة عربية مستعدةُّ للتنازل عنه.

 

حمائل القدس وقدسية المُقدس

اليوم تتقدم حمائل القدس نحو مسجدها لحمايته وتأكيد هويته الإسلامية في وقت تُعزز فيه سلطات الاحتلال من سطوتها وجبروتها عليه، من خلال سياسات الاعتقالات اليومية ومنع المرابطين من دخول المسجد لأزمان متطاولة حتى فاق عدد الممنوعين من الصلاة في المسجد الأقصى من ساكنة القدس الـ 230 مرابطا منهم من يبعد بيته عن المسجد مرمى حجر.

راهن الاحتلال الإسرائيلي ولا يزال على أن الزمن جزء من أدواته الاحتلالية الرامية لتأكيد وتقعيد احتلاله للقدس والبلدة العتيقة، عبر أدوات مادية مباشرة وأخرى مجتمعية واجتماعية ونفسية، وإنه جزء من المشهد في المسجد الأقصى، فكان هذا التعاضد المقدسي المتسم بالمنافسة الحيّة المُباركة، اللطمة الأولى التي يقدمها المقادسة وعائلاتهم المباركة لمخرز الاحتلال، وهذه البدايات المباركة يجب أن تستنسخ إلى أهلنا في الداخل الفلسطيني خاصة عشائر النقب التي ما زالت قيم التمدد الحمائلي حاضرة فيها، وكذا كل العائلات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني التي عادت تتعاضد من جديد فيما بينها لأسباب كثيرة ليس هذا مكان الإشارة اليها، بل ثمة عاضد قوي يدفع إلى توجيه رسالة إلى كل الحمائل والعائلات الفلسطينية اليوم في أن تشد الرحال الى المسجد الأقصى وترابط فيه وتعمل على أن تكون كل أيامه عامرة بهم صلاة وعبادة وذكرا وتلاوة للقرآن، ففي زمن الشدائد تظهر المعادن النفيسة وأخال المجتمع الفلسطيني في كل أماكن تواجده عملة نفيسة وإن عدت عليه بعض العاديات لأسباب فاقته قدرة، وكشفت العقود الأخيرة أنَّ الشعب الفلسطيني فيه قوى حية تملك من فقه الواقع والتبصر والصبر والبصيرة، وملكت ولا تزال من أدوات التحمل والجلد ما يدغدغ آمال المخلصين بغد أكثر إشراقا وأكثر عدلا.

عادت حمائل القدس لتؤكد قداسة المُقدس وهذه الحقيقة الراسخة في الأذهان، عندما سعى الاحتلال في رمضان المبارك الفائت لفحصها واستفزازها، رأينا الدور الهام والكبير لأهالي القدس مما يعني أن القداسة ثاوية في نفوس أهلنا في القدس، ولعل ما تقوم به الحمائل من شد للرحال تجديد لتلكم الحقائق كما انها تذكير ذلكم أنّ الذكرى تنفع أهل الايمان كما تنفع أهل التفكر والتبصر.

 

الثبات عنوان المرحلة

لسنا نحن البشر من يقدّر الأقدار، لكن يمكننا قراءتها وفقهها والتعامل معها كسبا ودفعا، إذ لا وجود للفراغ في معادلات الحياة، وإذا كانت القدس والمسجد الأقصى من ثوابتنا العقدية-السياسية المتعلقة بواقع راهن وقادم، فإننا نشهد هذه الأيام جانبا من تحمل الأمانة والمسؤولية المقدسية اتجاه المسجد المُعظَّم، وهذه الأمانة ليست رهنا بهم بل هي في عنق كل مسلم فردا وجماعة وحركة وعائلة وأمما وشعوبا، وهنا لا مناص من التذكير أن الائتمانية المقدسية لا تغني عن الائتمانية الفلسطينية والعربية والإسلامية وهذه الائتمانية تحمل معنيين متلاصقين لا يفترقان، هما المؤسسان مستقبلا للتحرير، المعنى العقدي-التعبدي-الأخلاقي والمعنى السياسي-المجتمعي-الاجتماعي، ومن هذه الائتمانية التي تقدّم بخطواتها الأولى حمائل القدس تحتاج في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ مدافعة القدس والمسجد الأقصى إلى تقديم السياسي على الديني بالمفهوم الإجرائي الذي يجعل الفلسطيني بكل مكوناته الثقافية والسياسية والطائفية يعتبر القدس والاقصى القاسم المشترك والجامع للكل الفلسطيني مخترقا ومتجاوزا الفصائل والفقه الفصائلي وبهذا المعنى تكون أداة الثبات على هذا الفهم أساسا أخلاقيا يؤسس لمسألتي المدافعة مع الاحتلال كمقدمة للتحرير والمدافعة الداخلية لتغليب المشترك والجامع والمصلحة الكلية على المصالح الضيقة، ومن نافلة القول أن أشير أن أساس تحرير القدس والاقصى وفلسطين بولاياتها المختلفة في العهد الصلاحي سبقها تعاضد وتوحد ومدافعة الاحتلال الصليبي والفئات الضالة العميلة والمتواطئة مع الاحتلال الصليبي، وشكّلت أهمية الثبات على قيم وأخلاقيات الوحدة وتغليب مصلحة الأمة أساسا ناهضا للتحرير.

لأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تدخل الحمائل الفلسطينية في هذه الحالة في الذبِّ عن المسرى، في صراع مدني أدواته العزيمة والإرادة والحشد والعهد والثبات على المضي في الرباط، مؤكدة على قداسة المُقدّس وأن ما يقومون به لله وفي الله ومع الله، وهي بالمناسبة لفتة تعيدنا إلى تلكم اللحظات الفارقة فيما قبل تحرير المسجد الأقصى يوم انتكست الأمة وخضع للاحتلال الصليبي وعملائه، وما أقرب اللحظة الراهنة من الأمس وما تتعرض له المدينة المقدسة والمسجد الأقصى من تدنيس وقهر، كانت بالأمس تمدّه بالوجود دويلات العمالة والفسوق والفجور وطوائف الضلالة التي علا صوتها حتى غاب الوعي عن العامة وظنوا بالله الظنون، وما نحن فيه اليوم يكاد يكون نسخة مطابقة للامس مع تفاوت في الأدوات واختلاف الأزمنة بما فيها من إبداعات البشر.

 

الأقصى الجامع المشترك

يحمل رباط أهلنا في القدس أكثر من معنى معنوي وسياسي، إنه يحمل معان أخلاقية وهو ما نحتاجه في عملنا السياسي والاجتماعي والمجتمعي، فتنافس حمائل القدس فضلا عن بعديه التعبدي والعقدي والسياسي، فإنه يحمل بُعدا ثالثا في الالتزام الأخلاقي اتجاه بعضهم البعض، إذ المنافسة على الخير تنمي الإخلاص وهو ما يعزز اللحمة الإيمانية ويُبعِد كل ضغينة وفساد ذات بين، فالأقصى جامع مشارك للجميع وفيه فليتنافس المتنافسون، ليسجل التاريخ الفلسطيني وثيقة من ماء الأخلاق مفادها أن حمائل القدس قد تعاهدت على نصرة المسرى فهي لله وفي الله ومع الله. فهنيئا لحمائل القدس، الذين يخطون أول قطرات الخير، خير التحرر والتحرير.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى