أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

البحث عن السماء في الأرض: رسالة البرغوثي للنبيّ

محمد خليل شباط

أفصحَ المُصحفُ الشّريف عن رفعة مقام النبيّ الخاتم، مُحَمَّد ابنِ عبد الله ابنِ عبد المطّلب الهاشميّ القرشيّ العربيّ، صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، فأقرّ له بعظمة الخُلُق وأثبت له الكمال في الشّمائل البشريّة. وإنّ الإبحار في سيرة هذا الرّجل الذي علا كعبه على سائر الآدميّين من معاصريه وممّن لم يعاصروه؛ لكفيلٌ بإبانةِ أسباب اصطفائه وعلل اجتبائه من قبل الخالق عزّ وجلّ، لإنشاء أمّة آخر الزّمان، واختار أن يكون العرب المبتدأ ويأخذون على عاتقهم مهمّة رفع الخبر ونشره للأمم قاطبة.

إنّ مصطلح “الأُمّةِ العربيّة” مُصطلحٌ أُحدِثَ بفعل سعي النبيّ الكريم وصبره واجتهاده، وقد كان حاضر العرب قبلهُ حاضر نزاع وتشرذم وقبليّة، فصاروا بعد وفاته خير أمّةٍ أُخرجت للنّاس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر، وتقدّم أنفس ما تملُك في سبيل إتمام ذلك. وهو في مقام غنيٍّ عن الحاجة للشّهادة، فغيابها ليس بمُحطٍّ من قدره وحضورها ليس برافعٍ من شأنه، فهو كالبدرِ في تمامهِ لا يضيره من يُنكِرُ وجوده، فأثره بائنٌ في نوره، ومحضُ القدرة على ذِكرِ اسمه الشّريف تستوجبُ الشُّكرَ والعِرفان لهُ، ولكن بدايةً لباعثه.

ومع كلّ ما أسلفتُ في ذِكره، فإنّ بعض الشّهاداتِ إن صدرت من أكارم النّاس، كابن أبي طالبٍ، عليّ، الملقّب بفارسِ الإسلام، وما ورد عنه من البسالة وعُمق الحكمة، وبُعد الرؤية، وحسن البيان، فحين يُحدّث مثلُ هذا، فجديرٌ بأن تُنصت الآذان، وهو القائل في الرواية المأثورة المحفوظة المذكورة في مُسند الإمام أحمد: ” كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ، اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون منّا أحدٌ أدنى من القوم منه”. فإن كان هذا وصف رجل في مقام الإمام عليّ بن أبي طالب وهو من هو في شجاعته وفروسيّته، فإنّ محاولة وصف بطولة النبيّ، عليه الصّلاة والسّلام، تُعيى بها المعاجم والكلمات.

وإنّ في تبدّل حوادث الزّمان في عصرنا الذي تمرّدت علينا فيه المعاني، حيث أمسى جهاد العدوّ يُسمّى إرهابًا، واختفى فيه الحليف الشّديد، واحتار في أمره البطلُ الصّنديد، وجمعت الأعداء فيه الحُشود، فالحاجة تصل أمسّها لمن يملأ مكان هذا النبيّ البطل الّذي يرصّ بنفسه الصّفوف، ويكون أقرب من يكون إلى خطوط العدوّ، يدفع الأذى عن أمّته ويخوض في سبيل ذلك غمار المعارك، يعدّ الأسباب ويُلهِمُ الألباب ويحمّس قومه ليعاندوا الصّعاب، والضّرورةُ تُصبحُ ألحّها للاستنجاد به ليقود فيالق المُتعبين ممّا آلت إليه أحوال الأُمّة، التي تحاربُ دهرًا قد أجمع أمره على استباحة حاضرها وغابرها وحذف مستقبلها من قاموس الأمم، ويطمئنهم قائلًا: “لن تُراعوا”.

وفي ظلّ هذا الاضطرار لإيجاد من يحمل أمانة المُختار، فيجرّ خطام الأمّة من حضيضٍ وصلته، إلى السّماويةِ التي أُنشِئت لتسكُنها، ويقشع ظلماتٍ أحاطت بها بأنوار الفرج، يظهر لنا تميم بن مريد (البرغوثي) الظّاهرُ العمريّ، العربيّ الشاميّ الأصل المصريّ الدّار ، ينصّب نفسه رسولًا بالنّيابةِ عن الأمّة ليُخاطِبَ النبيّ، عليه الصّلاة والسّلام، مُعلِمًا إيّاه بأحوال أمّته، شاكيًا له وهنًا قد أقعدها، وعدوًّا قد طوّقها، وحكّامًا قد ضيّعوا أمانته، وفرّطوا بوحدة أمّته، وهو، أي النبيّ، من شيّدها بنفسه، وجمع شتاتها بسعيه، وعلّمها الفضيلةَ من علمه، ونافح عنها حوادث الزّمان، وصدّ عنها كرّات العُدوان، مُستنجدًا إيّاهُ أن يُدركها. وتميم هو أهل لهذه المهمّة، لما وُفّق إليه من بديع الوصف، وفصاحة القول، وبلاغةِ اللّغة، وجزالة اللّفظ، وطهارة الغاية، وحُسنِ الدّراية.

وهو، أي الشّاعر، يسهب بذكر المآسي الّتي انصبّت على أمّته صبًّا، كأنّ أبواب السّماء قد فُتحت عليها بالمصائب بدل المطر، فهو يشبّه الأمّة بأنها ابنة النّبيّ، مثيرًا عطفه عليها، لما هو معلومٌ عنه من صفاء عاطفته، فيقول: “أباها رسول الله كُنتَ وأمّها، فكيف تُرَجّي الرّومُ والرّوس هدمها” . وهو تارة يُداعب حميّة النبيّ العربيّ الأشرف، عليه الصّلاة والسّلام، والّتي عُرِفَ بها إذ ذاد بأمّته عن المهالك غير مرّةٍ ولم يخفَ يومًا بذلُهُ في سبيل سحبها من بين براثن الأخطار، مُقتحمًا إيّاها بإقدامٍ غير معهود، ووفاءٍ ليس بمُصطَنَع، فيخاطبه مُشعِرًا: “أدرِك بنيكَ فإنّا لا مُجير لنا، إلّا بجاهك ندعو القادِرَ الصّمدا” .

وقد خالفَ الشّاعر في توجّههِ التوجّه الرّائج في عصره، ففي حين إقبال البعضِ على المحاكم الدّولية، واستنجادِ آخرينَ بالأمم المتّحدة، في ديارٍ خاليةٍ من الأنصار، قرّر الشّاعر أنّ هذا أوان العودةِ إلى أصلِ هذه الأمّة ورأسها، فطرقَ رتاجَ النبيّ بشِعرِهِ، يشكو له ويُخبره، ثمّ يبثّ له شجونه وقلّة حيلته، ويهوّل في وصف إمكانات العدو، ووهن الصّديق، ولا يُهمل ذِكرَ خيانة الحُكّام والمُلوك لإرثه الشّريف وأمّته الخالدة، فقد استُبيحت حِماها بعد أن عفّت حدودها قرونًا وسنين. وهو في خطوته الإبداعيّة هذه يوقظُ في الأُمّة مفهوم القداسة، ويرفع بكلماته تراثها المنسيّ المبعثر من الأنقاض، كما ذكر في بعض أبياته:

“وفي الصّدرِ خِضرٌ لا يشُكّ بحدسِهِ

يقولُ، إذا قالَ الزّمانُ، بعكسِهِ

على غَدِهِ فرضُ استشارةِ أمسِهِ”

مُذكّرًا أمّته ودالًّا أهل ملّته بضرورة العودة إلى الأصل حيث بدأ كلّ شيء، فقد كنّا قلّة متفرّقين، مستضعفينَ أحاطنا الأعداء والأهوال من كلّ جانب، وعلى عكس كلّ التّوقعات فقد انتصرنا، ثمّ انتشرنا، ثمّ ملأنا الأرض حضارةً وعدلًا ورحمةً وتوحيدًا، جازمًا أنّ المُستقبل لهذه الأمّة يقبعُ بانتزاعِ أسباب النّصر التي رجحت في ماضيها، فهي تبقى حيّةً ما بقي تُراثُها حيًّا، وهي تبقى حيّةً ما بقي نبيُّها حيًّا فيها، في ماضيها وحاضرها ومُستقبلِها، وهذه ميزتها، وصلّى اللهُ على مُحَمَّدٍ.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى