أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (54).. لماذا مقاطعة انتخابات الكنيست؟ (1)

حامد اغبارية
ربما كان عدد المقالات والملاحظات والمداخلات والمواقف التي تحدثنا فيها عن الأسباب الوجيهة التي تدفع كل عاقل ملتزم بقضايا شعبه وأمته التزاما حقيقيا نقيا نظيفا من كل شائبة أو نقيصة أو مثلبة إلى مقاطعة انتخابات الكنيست، أكثر من أن تُحصى، ويمكنها أن تملأ مجلدات ضخمة، تشكّل مرجعية وتأريخا لهذه المرحلة الصعبة من تاريخ شعبنا. غير أن الضرورة – كما يبدو- تقضي بأن نعود ونؤكد ونذكّر وننبّه أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني بما يعرفه أو يعرف أغلبه، لكنّ شرائح لا بأس بها من هذا الشعب تنحّيه جانبا أمام ضغط الظروف أو دغدغة العواطف أو سوء التقدير أو عدم قراءة المشهد قراءة صحيحة أو مصلحة شخصية أو فئوية أو حزبية، إضافة إلى قلة قليلة نقشت على رايتها أنها جزء من الكينونة الإسرائيلية، وأنها اختارت هذا الخيار عن قناعة وعقيدة إيديولوجية شديدة الوضوح منذ نكبة شعبنا عام 1948؛ نقرأها في أدبياتها ونراها واقعا على الأرض من خلال سلوكها السياسي والاجتماعي والفكري والتربوي والأخلاقي على مستوى الفرد والجماعة.

من المفيد بداية أن يعرف الفرد الفلسطيني في هذه البلاد ما هو الكنيست وماذا يعني؟
لم تأتِ هذه التسمية من فراغ، بل عن عقيدة متأصلة في أذهان مؤسسي المشروع الصهيوني؛ ذلك المشروع الذي جعل كل سلوكه ومنهجيته وسياساته ذات خلفية دينية توراتية خالصة. فقد جاء اختيار اسم “الكنيست” على غرار “الكنيست الكبير” أو “المَجْمع الكبير” الذي كان يعتَبر “المؤسسة العليا لحكماء إسرائيل” أيام سيطرة الفرس على البلاد (في عهد الملك كورش) في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي الفترة التي يطلق عليها الإسرائيليون فترة “عودة صهيون”!! في زمن ما يسمونه خراب الهيكل الأول.
ولاحظ معي مسألتين على جانب كبير من الأهمية: الأولى أن أصحاب المشروع الصهيوني علمانيون ملحدون حتى النخاع (باعترافهم)، ورغم ذلك استندوا إلى الخلفيات الدينية لتمرير أجنداتهم، أو بالأحرى استخدموها لهذا الغرض. والثاني أن مصطلح “صهيون” هو مصطلح قديم في أدبياتهم، ولذلك فإن ربط ما يسمونه “العودة إلى أرض الميعاد” هو ربط ديني توراتي بحت، لا يمكن لذي فطنة أن يجادل فيه أو يمارئ.
أنا يكفيني هذا وحده كي أقرر مقاطعة انتخابات الكنيست، بغض النظر عن أية أسباب أخرى، وهي أسباب كثيرة جدا.
وأعتقد أن هذا وحده يجب أن يكفي كل فلسطيني حُرّ كي يتخذ موقف المقاطعة، لأن عدم المقاطعة يعني بالمحصلة إقرار ضمني بأحقية هذه المؤسسة، ومن ثمّ بحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه التاريخية والحضارية والدينية والوطنية.

وماذا يعني “فلسطيني حر”؟
هو الذي يختار موقفه النقيّ الخالي من كل شائبة، النظيف من أية تأثيرات وعمليات تضليل بإرادة حرة خالصة، مع فهم عميق وحقيقي لمعنى هويته وانتمائه.
فلسطيني حر(بغض النظر عن عقيدته ومنهجه السياسي) هو الذي لم يتلوّث بالأسرلة (بكل مستوياتها وأنواعها)، ولم يقبل على نفسه أن يكون واحدًا من ضحايا حرب غسيل الدمغة التي شنّتها الحركة الصهيونية والمؤسسة الإسرائيلية ضد مجتمعنا منذ 1948، بمدد ودعم ومساعدة من أطر وأحزاب سياسية (عربية اللغة إسرائيلية التفكير والمنهج)، بدءا من منهاج التعليم الخطير، مرورا بمسميات الأماكن والشوارع والمواقع، وفرض رموز الحركة الصهيونية ودولتها الأمنيّة على الحيز العام الفلسطيني، وصولا إلى الرمز الأكبر وهو الكنيست الذي يمثل الواجهة الأكبر للمشروع في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ شعبنا وأمتنا. (بالمناسبة: مبنى الكنيست قائم على أرض فلسطينية بملكية خاصة (لآل الحسيني) غربي القدس المحتلة…).
فلسطيني حرّ، هو الذي لم تؤثر فيه عمليات القصف الفكرية سعيا إلى تدجينه لينضمَّ إلى القطيع الكبير الذي يسعى ذلك المشروع إلى تشكيله على يديه، وهو قطيع “العربي الإسرائيلي” الذي لا علاقة له بشعبه الفلسطيني ولا عالمه العربي ولا أمته الإسلامية ولا تاريخه ولا حضارته ولا تراثه.
فلسطيني حرّ هو الذي يملك إرادته ويعرف ما يريد، ويعرف أن ما يريده لن يتحقق من خلال الكنيست، بل أكثر من ذلك، هو الذي يعي أن الكنيست وتبعاته وآثاره ومن ثمّ المشاركة فيه هو العقبة الأكبر أمام تحقيق طموحاته، ذلك أن صرف كل هذه الطاقات الهائلة التي توجّهها الأحزاب ونشطاؤها وكوادرها وجمهورها إلى انتخابات الكنيست تأتي عمليا على حساب المشروع الفلسطيني برمّته. بمعنى آخر فإن كل جهد يصرف على الكنيست هو خسارة خالصة مائة بالمئة لمجتمعنا.
وتخيّل معي لو أن كل هذه الطاقات (ومعها الجهد المالي النظيف، وليست ملايين الدولارات الملوثة التي تقدمها صناديق صهيونية وأجنبية لدعم المشاركة في الانتخابات!!) وُجِّهت لتصب في خدمة شعبنا ومجتمعنا من خارج الكنيست، ماذا كان يمكنها أن تحقق عندما تضاف إلى الجهود والطاقات الأخرى التي اختارت سلامة المنهج رغم كل ما واجهته وتواجهه من تضييق وملاحقات وعمليات تشويه وشيطنة وغير ذلك مما نعرفه الكثير؟
الآن ربما يأتي متفذلك من أصحاب أجندة التدجين والأسرلة ويقول: ألا تعترف بالكنيست؟
سؤال خبيث بطبيعته، لأن السؤال لا يطرح بهذه الصيغة! ومع ذلك:
أنا أعرف أن الكنيست موجود، وهو أمر واقع فّرض عليّ كما فُرض على المتفذلكين (ساهم جزء من جسد أمتنا وشعبنا في صناعته)، ولكن هذا “الإقرار” بواقع وجود الكنيست لا يعني إطلاقا أنني أعترف بأنه هو “المسيح المنتظر” الذي سيلقي بطوق النجاة لمجتمعنا وشعبنا. هكذا أفهم المسألة، فكيف تفهمها أنت؟ (يتبع).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى