أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (49): الكنيست مقبرة السياسة…

حامد اغبارية
ما لكُم وللمقابر تدخلونها فرحين وأنتم تُحدِّثون الناس عن الحياة ونبضها وعن المجتمع ونهضته؟! ليس في المقابر أحياء ولا حياة، وإنما هي لِذِي اللُّب تذكرة تذكّره بوحشتها، والجاهل من ظنّ أنه سيجد فيها ما ينشده.
وإنما البرلمانات هي في حقيقة أمرها مقبرة للسياسة، خاصة حين يكون الساعون إليها قلّة ضعفاء مطحونون مستهدفون يلاحقهم الإقصاء، ولا يملكون من أمرهم شيئا، وإنما يتوهمون أنهم يستطيعون تغيير واقع من يمثلونهم، أو من يزعمون أنهم يمثلونهم، لم يتعلموا من التجربة الطويلة التي أدخلت إلى رصيدهم صفرا كبيرا.

وما هي السياسة؟؟؟؟
خدعوك بقولهم إن السياسة فن الممكن. وتجاوزَ بعضهم الأدب فاعتبرها فن الكذب. وأغرق بعضهم التعريف في الحضيض حين اعتبر السياسة تتلخص في مقولة “بوس الكلب من ثِمُّه تا توخذ حاجتك مِنُّه”، ذلك لكي يبرروا خيبتهم وفشلهم في تحقيق مصلحة الناس، ويزينوا للناس الطريق الذي يسيرون فيه. فكيف يكون حال هذا النوع من “السياسيين” حين يجد نفسه يخلع عن نفسه كل شيء، حتى الهوية والانتماء، من أجل أن يوهم نفسه والآخرين أنه حقق شيئا، وما حقق شيئا؟؟
إن كانت السياسة هي تلك التي نسخها الناس عن المفكرين الغربيين أو الفلاسفة المعروفين فاسمع ماذا يقولون فيها.
يرى مكيافيلي أن السياسة هي فن الإبقاء على السلطة وتوحيدها في قبضة الحكام، بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك. ويعتبر دزرائيلي أنها فنّ حكم البشر عن طريق خداعهم. وهكذا جعلوا السياسة فنّا من فنون الصراع على السلطة. فهل هذا هو المعنى الحقيقي للسياسة التي تصلُح أن تُنشَد ويُسعى إليها؟
إنما حقيقة السياسة قيادة الناس إلى ما يُصلح حالهم بالقدر الذي يحقق لهم مجتمعا سليما معافًى قويا متماسكا ناميا متطورا مبنيا على الأخلاق والقيم الرفيعة، متعاضدا متعاونا، له أهداف كبرى واستراتيجيات يسعى إليها.
وبوضوح أكبر فإن السياسة هي كل عمل يتعلق برعاية المجتمع أو الشعب أو الأمة وتدبير شؤونها بما يصلح به حالها في مختلف مجالات الحياة.
والآن نسأل: إن كانت هذه هي السياسة، وليس كما يزعم السائرون في طريق المفاهيم الغربية لهذا المصطلح، فهل لو نظرنا إلى أنفسنا نحن أهل الداخل الفلسطيني ووضعناها على المحك، سنجد أننا نمارس العمل السياسي على حقيقته، أم أننا فقط نسخة باهتة عن المفهوم الخادع للسياسة؟
في الحقيقة نحن لم نصل حتى إلى مرتبة “النسخة الباهتة”. نحن مجرد نسخة ممسوخة أشبه ما تكون بالعملة المزورة المتداولة في أيدي الفاسدين.
وعندما أقول “نحن” فإنما أقصد تحديدا تلك الشريحة من أبناء مجتمعنا في الداخل التي اختارت طريق “العمل السياسي” من خلال الكنيست الإسرائيلي.
لذلك نقول إن العمل السياسي في الكنيست الصهيوني هو في الحقيقة انتحار سياسي، لأن البرلمانات بشكل عام، والكنيست على وجه الخصوص هي مقبرة للسياسة.
فأنت عندما تقبل على نفسك أن تكون جزءا من هذه اللعبة فقد أدخلت نفسك في أضيق دائرة من دوائر العمل السياسي، وهي بالضرورة دائرة لها تقييدات وأنظمة لا يمكنك تجاوزها أو خرقها، ومن ثم حين تستغرق كل وقتك وجهدك وطاقتك فإنه لن يكون في مقدورك أن تمارس ذات العمل خارجها. لذلك فإن الأوهام التي يسوّقها أولئك الذين يشاركون في الكنيست لم تحقق شيئا على أرض الواقع. وهذا ما نراه اليوم من حال القائمة المشتركة، كما رأيناه قبل أن تكون المشتركة، وكما رأيناه على صفحات وجوه الذين ساروا ويسيرون إلى الآن في ركب الأحزاب الصهيونية. فقد مارسوا الكذب والخداع والدجل السياسي على الناس، زاعمين أنهم إنما يبغون مصلحتهم ويسعون إلى تحقيق رفاهيتهم. أما المصلحة فإننا نتذوق طعم مرارة فقدانها حتى هذه اللحظة، وأما الرفاهية فقد أوصلونا بالأوهام إلى المريخ وأرجعونا عطشى.
حقيقة الأمر أن هؤلاء لا يمارسون السياسة، وإنما تحولوا – بإرادتهم- إلى أداة في أيدي المشروع الصهيوني، يوم قبلوا على أنفسهم أن يكونوا جزءا من منظومة قامت أساسا على أنقاض شعبهم. وفي تجربة سبعة عقود مئات بل آلاف الأمثلة الحيّة كيف استغلت الحركة الصهيونية والحكومات الإسرائيلية الحالة الفلسطينية في الداخل لتسويق نفسها كدولة ديمقراطية يحظى فيها الفلسطيني بحقوقه، ويمارس حياته بشكل طبيعي. وهذا أبعد ما يكون على الحقيقة. فكيف يجد نفسه ذلك الذي أصبح جزءا من تلك المنظومة وهو يساهم – أحيانا بطريقة مباشرة وأحيانا بطريقة غير مباشرة- في تسويق هذه الأكذوبة؟
إن الكنيست في الحقيقة ليس هو الملعب ولا الموقع ولا المكان الذي يمكن من خلاله تحقيق طموحات مجتمعنا على مستوى الحقوق اليومية، ولا تحقيق طموحاته على مستوى قضية الشعب الفلسطيني. وهذا ما أثبتته التجربة، ولا نرى حاجة للتكرار وضرب الأمثلة. فالحالُ يغني عن السؤال.
إن السبيل الحقيقي الوحيد الذي نملكه، ولا يملكه غيرنا، هو أن نمارس العمل السياسي على حقيقته، لا على الصورة التي فرضتها أنظمة الاستعمار لتحويل العمل السياسي إلى أداة للسيطرة على الشعوب والمجتمعات. ولا يكون ذلك إلا من خلال ممارسة العمل خارج تلك الدائرة القاتلة أو تلك المقبرة السياسية المسماة “الكنيست”. فمجال العمل خارجها أوسع وأكبر وأضخم وأنجع وأسلم وأصحّ وأوجب وأقرب إلى تحقيق النتائج وجني الثمار. وهو إلى جانب ذلك يهدم الكثير من الحواجز وأسباب التنافر والانقسام القائم الآن بين أبناء المجتمع الواحد، ويدفع بنا إلى وجهة واحدة وأهداف موحَّدة، ويمدنا بطاقات هائلة وقدرات خارقة يمكنها أن تحقق الكثير الكثير مما حال العمل السياسي من خلال الكنيست دون تحقيقه.
إن أمام أحزاب المشتركة اليوم فرصة، ربما لن تتكرر، لاتخاذ قرار جرئ وخطوة شجاعة بالعزوف النهائي عن لعبة الكنيست وخلق واقع جديد يمكنه أن يحقق صدمة عنيفة، إن لم يكن زلزالا، داخل المنظومة السياسية الإسرائيلية.
ولأنني أعلم علم اليقين أن هذا لن يحدث، وأن تلك الأحزاب ماضية في ذات الطريق، فإن الأمل كله معقود على الشارع. فالشارع هو الذي بيده أن يغير اتجاه البوصلة وأن يعيده إلى وجهته الصحيحة من خلال مقاطعة الانتخابات القادمة، بل واتخاذ قرار مبدئي بترك هذه الدائرة نهائيا والالتفات إلى أنفسنا والاهتمام بمستقبلنا ومستقبل مجتمعنا، بعيدا عن تلك الخديعة الكبرى.
لا نريدها مقاطعة على شكل عقاب، كما فعلنا يوم قاطع مجتمعنا الانتخابات عقابا لإيهود براك على جريمته أثناء هبة القدس والأقصى، بل نريدها مسألة مبدئية لا تراجع عنها مهما كانت المغريات، ومهما مورس علينا من تضليل إعلامي نعلم جيدا أن كثيرين قد يسقطون في شباكه بسهولة.
إن الداخل إلى الكنيست أشبه بالداخل إلى المقبرة بحثا عن الحياة، فأنّى يجد حياة بين الأموات؟!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى