شبابنا والذاكرة: من المسؤول عن غياب الرواية الفلسطينية من حياة الجيل الصاعد؟!
عائشة حجّار
قبل ثلاثة أعوام طُلب إلي أن اشارك في بحث عالمي حول احياء ذكرى النكسة في الإعلام حول العالم. لم يشأ الله أن يتم إكمال البحث ونشره، لكن نتيجته فيما يتعلق بالصحافة في الداخل الفلسطيني مقلقة حقًا: فالصحافة المركزية في الداخل الفلسطيني تكاد لا تحيي الأحداث التاريخية، إلا من رحم ربي. في مواجهة موجات التطبيع والجهل المرعبة في العالم أجمع، قد يبقى الفلسطينيون وحدهم في جبهة الدفاع عن روايتهم وذاكرتهم. وهنا لا بد من طرح السؤال: هل يعرف شبابنا الذين ولدوا بعد الانتفاضة الثانية تاريخهم ومن المسؤول عن هذه المعرفة؟
عبد الرازق متاني: نتحدث عن رواية نعيشها بكل حياتنا ويجب ان نتصل بها كل الوقت
الناشط والباحث في علم الآثار، د. عبد الرازق متاني، شدّد في حديثه مع “المدينة” على النقص الذي يعانيه مجتمعنا في كل ما يتعلق بإحياء المناسبات التاريخية وايقاظها في نفوس الشباب.
المدينة: ما أهمية الذاكرة الجماعية وتناقل الرواية التاريخية بين الاجيال؟
متاني: عندما نتحدث عن الذاكرة التاريخية أو الذاكرة الجماعية الفلسطينية فمن المهم أن نتذكر أننا جزء من أمة اسلامية عربية، لها امتداد وجذور تاريخية. بالنسبة لنا كفلسطينيين فالذاكرة هي هويتنا. عندما نتحدث عن الذاكرة فنحن نتحدث عن العادات والتقاليد والموروث التاريخي. نحن نعيش في حالة صراع على الذاكرة الفلسطينية وتغييب هذه الذاكرة، فعندما نتحدث عن الذاكرة يجب أن نرسّخ علاقتنا بأرضنا وديننا وهويتنا، خاصة عندما نتحدث عن جيل الشباب- ففي ظل الحملات الساعية لتهويد الذاكرة والتاريخ الإسلامي- من الضروري جدًا لأنها لبنة مهمة للمحافظة على الذات ووجودنا على هذه الارض.
المدينة: ما هو مدى حضور هذا الصراع على الذاكرة في حياة شباب اليوم؟
متاني: الشباب هم جزء من المجتمع العربي والفلسطيني، وهم لبنة مهمة في بناء المجتمع الفلسطيني، وكما هو معروف فمستقبل الامم مربوط بهؤلاء الشباب. وهنا لا بد من الحديث عن الحملة الساعية لتهويد الوعي الفلسطيني وهي لا تختص بالشباب. فالمؤسسة الاسرائيلية تحاول تهويد الرواية الفلسطينية بشكل عام. عندما نتحدث عن التهويد نتحدث عن تدمير الرواية والعبث فيها وتدمير الآثار والعبث فيها. فيما يتعلق بالشباب فالأمر أصعب لأنه مركب ومركّز لأن المؤسسة الاسرائيلية تعلم قيمة الشباب وتسعى جاهدة لتهويد الرواية لديهم وهويتهم. للأسف حضور الرواية الفلسطينية لدى جيل الشباب ضعيف جدًا ويكاد يكون معدومًا، هناك تغييب شبه تام للهوية ومعالم الهوية الفلسطينية. صحيح أنه يوجد أشخاص وجهات قليلة تحاول بجهود فردية لكن للأسف لا يوجد لدينا أجسام راعية تحاول الحفاظ على الهوية لدى الشباب في مجتمعنا. لدى الشباب الامر مركب من جهتين اساسيتين، الامر الاول يتعلق كما ذكرت بالمؤسسة الإسرائيلية ومحاولاتها لتشويه الهوية الفلسطينية، الأمر الثاني هو المنظومة التعليمية التي يخرج منها الشباب والمنظومة التعليمية تسعى إلى مسخ الهوية الفلسطينية وسلخ الطالب عن هويته الفلسطينية، بل تسعى لبث قيم غربية تبعده عن الأصالة العربية والفلسطينية. كذلك فالمنظومة التعليمية هي منظومة جافة لا تقرب الشباب من التاريخ، فانا كنت مدرسا للتاريخ سابقًا ومنظومة تدريس التاريخ هي منظومة جافة تجعل الطلاب يكرهون مادة التاريخ بخلاف مواضيع أخرى. بالمقابل لدى اليهود هناك نشاطات وفعاليات وجهات عديدة تحاول إحياء القيم اليهودية، خاصة في السنوات الأخيرة عندما ظهر مشروع يهودية الدولة، فالقيادات العربية في الداخل الفلسطيني أشاروا إلى أن هذا المشروع جاء ليسلخ العربي عن هويته، وقد تحدثت حينها عن الهوية اليهودية لدى اليهود، فهم يدركون أهميتها وقيمتها.
المدينة: لنتحدث عنا كمجتمع، كيف يمكننا الحفاظ على الهوية الفلسطينية؟
متاني: سأتحدث أولا عن تغييب الرواية في مجتمعنا ودور مجتمعنا في تغييب الرواية، أقولها بكل أسف، في المجتمع العربي، هناك قلة وعي لقيمة هذه الروايات، في أيام الذكرى هناك إحياء للأحداث، لكن عندما نتحدث عن الهوية الفلسطينية فنحن نتحدث عن رواية نعيشها بكل حياتنا، ويجب أن نتصل بها كل الوقت. أنا هنا ألوم الجهات التي عليها إحياء هذه الهوية طوال الوقت، يجب أن نحييها على مدار العام، فصلتنا بأرضنا غير مربوطة بأحداث وغير مربوطة بالنكبة الفلسطينية فقط، نحن شعب عربي مسلم نعيش في هذه البلاد، ولنا جذور عريقة في هذه البلاد، فمن الطبيعي ومن الواجب أن نرتبط بهذه الجذور. من ناحية أخرى نتحدث عن ثقافة الشباب، فقد كنت مركّزا للرحلات والنشاطات في المدرسة التي عملت بها، وللأسف فالثقافة الاستهلاكية تطغى علينا، سواء الطلاب أو الاهالي الذين لديهم ثقافة ضحلة فيما يتعلق بالرحلات للاستجمام والشراء فقط. عندما أنظر الى المجتمع اليهودي في المقابل، نجد أن الآباء يأخذون الأبناء للتجول في المحميات الأثرية والطبيعية كل أسبوع أو أسبوعين، وهكذا يربطون أبناءهم بحب الارض. فمثلا قبل سنوات تقدمت لوظيفة تربوية في سلطة الآثار من خلالها يحاولون تعليم الاطفال عن الآثار والتراث. ذهبت إلى هناك في زيارة، وفيها اصطحبنا مجموعة من الأطفال للتعرف على الآثار، والحديث عن أطفال في جيل الروضة. طلبوا من الاولاد الحفر في قطعة أرض وزّعت فيها بعض قطع الفخار، وأخبروهم أن هذا الفخار صنعه أجدادنا في الارض المقدسة. كذلك صنعوا بعض العطر وأخبروهم أن هذه هدية من عطور الارض المقدسة. هذا الأمر يبدأ في الرياض والبساتين ويستمر في الابتدائية، عند اليهود، حيث الرحلات تختلف عنّا وسبل التدريس في المدارس.
المدينة: هل ترى أن الحل سيأتي من المدارس؟
متاني: أنا حقيقة لا أعوّل كثيرًا على المدارس التي لها دور مهم وخاصة الأساتذة، إلا ما رحم ربي. مع انني كمعلم وباحث أقول إن هناك فسحة لنقاش الرواية التاريخية ومناقشة أمور واقعية، فهناك حقائق وهذه فسحة للنقاش الاكاديمي. طبعا هناك اساتذة يحافظون على هذه الرواية بالتدريس والفعاليات، خاصة بما يتعلق بالفعاليات الاجتماعية، وليس فقط كتابة التاريخ. لكن الاصل تكثيفها أكثر وتركيزها أكثر. أنا اتحدث هنا عن عمق الرواية التاريخية وليس فقط الرواية المتأخرة عنا كفلسطينيين، بل عن العمق التاريخي وجذورنا الضاربة في الارض، فهذه أرض عربية امتدادها إسلامي، وهنالك أمثلة كثيرة لمحاولة تشويه تاريخنا الاسلامي. فهناك دور الاستاذ ليقرأ واليوم لدينا كتب عالمية تناقض الرواية التي تفرضها علينا المؤسسة، لكن أين دور المدرسة والمعلم والمؤسسات الفاعلة؟ خاصة حين نتحدث اليوم للأسف عن آفة العنف التي تضرب بمجتمعنا، وتنعكس، بالمحصّلة، على طلابنا. نحن بحاجة إلى حراك جاد، وعندما نتحدث عن الهوية فهي لبنة وأداة هامة في الهوية الفلسطينية.
المدينة: كيف ترى مستقبلنا من هذه الناحية؟
متاني: كما ذكرت فهناك تغييب تام، ونتحدث عن العالم العربي والإسلامي، فهناك أجيال تستحوذ على عقولها ثقافة الفيسبوك والميديا الحديثة، نتحدث عن أجيال ليس لديها حب القراءة والاستطلاع، نتحدث عن قيم يجب أن تغرز في الانسان بشكل عام. في المقابل حين ننظر للمجتمع فشبابنا متعطشون، أنا لا أضع اللوم فقط على شبابنا، بل المسؤولية على الجيل الكبير والقيادات وأصحاب الوعي الذين عليهم مسؤولية توعية الجيل الصغير. فتقصير الاهل الذين يستخدمون التكنولوجيا بكثرة في تربية اطفالهم يؤثر، ففي الرحلات التي كنت اصطحب إليها اطفالًا كنت أجد أن الطفل يرمي الهاتف الذكي جانبًا وتجذبه الحفريات. فنحن نتحدث عن تعويد أبنائنا وربطهم بالأرض والطبيعة. نحن الآن في الشتاء وبعدها الربيع، حيث يمكن أن نستغله للتجول في الطبيعة والتواصل بين الاجيال وبناء الهوية والحفاظ عليها.
بشرى دهامشة :المسؤول الأول هم الاهل
تحدثنا إلى طالبة الصف الثاني عشر، بشرى عفيف دهامشة من كفر كنا، حول وضع أبناء جيلها ومعرفتهم بالرواية الفلسطينية.
المدينة: ما مدى معرفة جيل الـ 2000 بالأحداث التاريخية الفلسطينية برأيك؟
دهامشة: أقولها وبكل أسف، جيلنا لا يعلم سوى معلومات سطحية جدًا عن تاريخ فلسطين، وطننا الذي نعيش فيه، فبكل صراحة لو سألَنا أحدهم متى احتُلت فلسطين ربما سيفكر لدقيقتين ثم يجيب في 1948، أو ما هي عاصمة فلسطين، كلي أسف أن أسمع أحد شبابنا يجيب غزة هي عاصمة فلسطين، فما بالك إذا طلبت منه أن يحدّثك عن أحداث الـ 67 أو أحداث النكسة! حتى أنه وفي كل سنة، في كل ذكرى تاريخية مثل أحداث مجزرة كفر قاسم، يُسأل ذات السؤال في كل سنة، ماذا تعرف عن هذه المجزرة، نجد طالبًا واحدًا تقريبًا يعرف القليل من بين 30 طالب آخر! كل ذلك على الرغم من أننا نحن، أقصد طلاب الثانوية، نتعلم بعض الاحداث التاريخية تحضيرا للبجروت، لكن حِفْظنا لهذه المواد كدراستنا لبجروت أدب اللغة العربية أو بجروت آخر، أي فقط لنحصّل علامة عالية دون الاطلاع اكثر على تاريخ فلسطين التي هي الأرض والوطن الأصلي.
المدينة: هل تلبي المدرسة حاجتكم في معرفة التاريخ؟
دهامشة: التاريخ الذي نتعلمه في المنهاج يُكتَب بأيد عربية ولكن من وجهة نظر صهيونية، على الأقل أنا أعتقد ذلك. صحيح انه يعلمنا عن الاحداث الرئيسية التي جرت في بلادنا وبلاد الشرق الأوسط قبل وبعد النكبة، ولكنه يشدد أكثر على الخطوات الصهيونية أو الغربية التي ساهمت في “بناء” اسرائيل، فنجد معظم المواد التي تخص التاريخ الفلسطيني تتحدث عن مؤتمرات وعقود واتفاقيات وانتدابات، وهي بالنسبة لنا نحن الشباب معلومات مملة سطحية هناك الكثير أهم منها. ناهيك عن تخصيص موضوع كامل إجباري دراسته عن تاريخ الشعب اليهودي والكوارث التي مرّ بها حتى وصولهم الى فلسطين وحتى “تعميرهم” لهذه الاراضي، مع إضافة لمسات العناء والمعاناة لإثارة الشفقة على الشعب اليهودي في قلوب الطلاب العرب.
المدينة: من هو المسؤول برأيك عن هذا الوضع؟
دهامشة: المسؤول الأول حسب رأيي هم الأهل ثم الأهل. لن أقول وزارة التعليم لأننا لا ننتظر منها ان تُدخل اهم الاحداث التاريخية الفلسطينية للمنهاج، بل يجب على الأهل ان يُعلّموا أطفالهم منذ نعومة اظفارهم عن فلسطين بلسان وقلب عربي، أقصد عن تاريخ فلسطين قبل مجيء اليهود، وعن طمع كل شعوب العالم بها، وكذلك عن أهم الجرائم التي ارتكبها المعتدي المحتل بفلسطين، حتى يكبر الطالب على حب وطنه وليكون علمُه رادعًا أمام تهويد طلابنا العرب.
المدينة: كيف يمكن برأيك زيادة وعي الشباب للرواية التاريخية الفلسطينية؟
دهامشة: كما ذكرت سابقا، على الأهل تخصيص وقت ليقدموا لأبنائهم أهم الاحداث التاريخية عن فلسطين، حتى لو كانوا شبابًا فلم يفت الأوان. يمكن أيضا أن نستغل مواقع التواصل الاجتماعي لتقديم هذه المعلومات ولتشجيع الشباب أن يغوصوا أكثر في أصلهم وأصل بلدهم، فعلى سبيل المثال، قبل مدة وجدت موقعا يختص بتقديم أهم المعلومات عن الاحداث التاريخية عن فلسطين المحتلة، أنصح بنشره والدخول إليه بين الحين والآخر، للاستفادة من المعلومات التي يقدّمها، وكأننا نقرأ كتابًا.
ختامًا، أودّ القول إن الوطنية هي ليست مجرد لبس الكوفية بالمناسبات التاريخية أو بغير المناسبات التاريخية، ولا بتعريف نفسي على الانستغرام بأنني فلسطينية مع وضع صورة المسجد الأقصى في الصورة الشخصية، ولا حتى برمي الحجارة على الجيش الإسرائيلي، في حين أكون جاهلا بتاريخ بلدي، إنما الوطنية الحقيقية تكمُن في العِلم.
توفيق محمد: “هذا الملف كبير جدًا يحتاج إلى موارد لا تملكها لجنة المتابعة”
وفي حديث مع السيد توفيق محمد، عضو لجنة المتابعة، أورد لنا التعقيب التالي: “لجنة المتابعة هي بالنهاية لجنة تنسيقية تجمع الاطياف الفلسطينية التي تتشكل من الاحزاب والحركات المختلفة في البلاد. اللجنة طبعًا تفتقر إلى المصادر المالية والمادية، وجلّ عملها يقتصر على التنسيق بين الأحزاب، لذلك فهي تجتمع وتقرر، لكن ليس لديها آليات تنفيذية لهذه القرارات وبالتالي من ينفّذ قرارات لجنة المتابعة هم الأحزاب السياسية. من جانب آخر مشروع الذاكرة الجماعية، هو بلا شك مشروع كبير جدًا ويحتاج إلى موارد كثيرة، يحتاج إلى طواقم عمل، يحتاج إلى صحفيين ومصورين وباحثين، والكثير من طواقم العمل، وبالتالي هو بحاجة إلى موارد مالية كبيرة جدًا تفتقر إليها لجنة المتابعة”.
يضيف: “لجنة المتابعة تشكل اللجان في هذا الشأن، على سبيل المثال لا الحصر لجنة الصحة، لجنة الموارد البشرية وغيرها من اللجان المحكومة بالعمل التطوعي، الذي يقوم به الأفراد والباحثون الذين توكّل إليهم هذه المهام. لذلك من غير العادل أن نحمّل لجنة المتابعة هذا الملف الكبير جدًا الذي يحتاج إلى موارد لا تملكها لجنة المتابعة”.
كما نوّه السيد توفيق محمد إلى أنه: “قبل حظر الحركة الاسلامية بعدة شهور، انطلق مشروع توثيق الجغرافيا الشفوية الذي يخدم بشكل كبير موضوع الذاكرة الجماعية. هذا المشروع كان قد طرحه الدكتور كمال عبد الفتاح، ابن مدينة جنين وفحماوي الاصل. تبنته الحركة الاسلامية في حينه، وهو يتحدث عن توثيق كل منطقة في كل بلد باسمها التراثي المتعارف عليه بلسان أهالي البلدة، وبذلك يتم توثيق الجغرافيا الشفوية التاريخية لفلسطين. هذا مشروع كبير جدًا جاء حظر الحركة الاسلامية وأوقفه”.