أدب ولغةعرب ودوليومضات

الثقافة تحت طائلة المساءلة

يقول الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز إن أحد أهم وظائف الأنثروبولوجي هي “إزالة الألفة الزائدة لدينا التي تمنعنا من رؤية الغموض الذي يحيط بمقدرتنا على التواصل بشكل حسّاس بعضنا مع بعض”.
يهتم الأنثروبولوجيون بالكشف عن ثقافات العالم وتقديم تفسيرات تقلل من غرابة الثقافات وتجعلنا أكثر قرباً وفهماً لها، وبذلك تتحول الثقافة المغروسة في سلوكيات الأفراد ولا-وعيهم إلى موضوع بإمكاننا دراسته والحديث عنه.
أصبحت الثقافة موضوعاً يتنافس عليه العلماء مع ظهور الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية حتى تحول مصطلح “الثقافة” نفسه إلى غامض لا يملك تعريفاً واضحاً ولا شكلاً محدداً.
ولكن رغم غرابة مصطلح الثقافة إلا أننا لا نزال نمتلك تلك “الألفة الزائدة” بالثقافة وذلك لأننا نجدها في كل مكان حولنا؛ في أفكارنا ومعتقداتنا التي توارثناها عبر الأزمان، في سلوكيات وطقوس اجتماعية تقدم لنا معان فردية وجماعية، وفي منتجات تقدم لنا معرفة وأنماط سلوكية عبر الكتب والمجلات ومختلف وسائل الإعلام.
خضع هذا الشكل الأخير للثقافة إلى جدل كبير وتحولات أثرت في كيفية تحديدنا للثقافة، فبعد أن كان ينظر للثقافة باعتبارها نتاجا عضويا للمجتمعات تبين أنها ليست اعتباطية تماماً وأنها قادرة على التحول إلى منتج صناعي خاضع لمعايير السوق والقوى السياسية.
وبين مدافع عن الثقافة ومكانتها الرفيعة للمجتمعات وبين مهاجم يراها أداة قمعية، يتزايد الاهتمام بالثقافة والإنتاج الثقافي الذي بات معياراً لتطور الدول وتشكّل الهويات.

بين الثقافة والأيديولوجيا
كان كارل ماركس قد بدأ التشكيك في الثقافة ومحاكمتها عبر النظريات الغائيّة التي ترى المجتمع خاضعاً للصراعات الطبقيّة والهيمنة الرأسماليّة في العصر الحديث. قدمت تلك الأفكار نظرة نقدية لعلاقة العوامل الاقتصادية والاجتماعية بتشكيل الثقافة التي كان يراها ماركس أيديولوجيا مسيطرة بعد تحكم النظام الرأسمالي والفئات النخبوية بعمليات الإنتاج.
يرى ماركس أن من يتحكم في القوى المادية هو نفسه الذي يتحكم في القوى الثقافيّة ويقرر من يمتلك أدوات الإنتاج التي تشوه الواقع الاجتماعي في صالح خدمة الطبقة المسيطرة.
لا ينظر ماركس إلى الثقافة بشكل بريء دون الحفر في الطبقات المختبئة وراءها التي يعتبرها البنية التحتية المادية المرتبطة بعلاقات الإنتاج وقواه.
تشير هذه النظرة إلى الثقافة باعتبارها مجرد بنية فوقية أو فكرة تابعة ومتفرعة عن البنية الاقتصادية الاجتماعية وهي فكرة توحي بتقليل من شأن الثقافة.
يرى كثير من علماء الاجتماع أن حصر الثقافة في وظائف أيديولوجية متأثرة بعوامل ماديّة لا يعطي للثقافة حقها وأنها مبالغة في النظرة الماديّة التي وإن كانت تعبر عن المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة الحديثة إلا أنها لا تمثل المجتمعات المرتكزة على الرّوح الثقافية.
بل إن التعامل مع الثقافة كأيديولوجيا قد تكون فكرة خاضعة لنظام ثقافي كما يرى كليفورد غيرتز الذي يبتدئ مقالته “الأيديولوجيا باعتبارها نظاماً ثقافياً” بقوله: “إنها لإحدى السخريات الصغيرة في تاريخ الفكر الحديث أن مصطلح “الأيديولوجيا” قد أصبح هو نفسه “مؤدلجاً” بالكامل”.
وبينما تمسك ماركس بفكرته عن الثقافة كأيديولوجيا تخدم مصالح نخبوية فقط، دافع علماء الاجتماع مثل ماكس فيبر وإميل دوركهايم عن مكانة الثقافة التي تلعب برأيهم دوراً جوهرياً بتنظيم المجتمع والمحافظة على توازنه.
فالثقافة كما يراها دوركهايم تمثل عدسات اجتماعية يدرك من خلالها الأفراد واقعهم والعالم من حولهم وتتشكل هذه الحدود أو الأطر المعرفية منذ الولادة وتمر عبر سلسلة من التنشئة الاجتماعية.
بذلك تكون الثقافة المكونة من نظام رمزي الأساس الذي يشكل واقع الأفراد ويقدم لهم معنى يفسر لهم الظواهر الطبيعية التي تتحول نفسها إلى موضوعات ثقافية.

صناعة الثقافة
لا تقوم أفكار فيبر ودوركهايم بالتقليل من أهمية العوامل الاقتصادية والاجتماعية بل هي تدعو إلى تقدير مكانة الثقافة لفهم الدور الذي تلعبه في التطور الاقتصادي وفي تشكيل المجتمع.
بل تؤكد هذه النظرة التي تبناها عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز في خمسينيات القرن الماضي أن القيم الثقافية المجمع عليها بين أفراد المجتمع هي ما يضمن الحفاظ على النظام الاجتماعي مع مرور الوقت، وأن لهذه القيم مكانة خطيرة إذ قد تتحول إلى أفيون للشعوب من خلال اتباعهم التعاليم الثقافية بشكل تلقائي دون مساءلة.
خلقت الأهميّة والمكانة التي حظيت عليها الثقافة بتجييش اهتمام المفكرين نحو المسائل الثقافية كما ركز المنتمين إلى مدرسة فرانكفورت اهتمامهم نحو دراسة الثقافة الجماهيرية المرتبطة بتضخم الإنتاج الإعلامي بعد ظهور المذياع والسينما ووسائل الثقافة الحديثة.
بلور هذا الاهتمام مفهوم “صناعة الثقافة” والذي صاغه كل من أبناء مدرسة فرانكفورت، الفيلسوف النقدي الألماني تيودور أدورنو والفيلسوف ماكس هوركهايمر عام 1944 في كتاب “جدلية التنوير”.
يشير مصطلح “صناعة الثقافة” إلى الإنتاج الثقافي المتمثل في الإذاعة وبرامج التلفاز وعالم الإعلانات والسينما الذي يستهلكه معظم الشعب ويعمل على إنتاجه مجموعة من الشركات الضخمة.
في هذه العملية، تقوم القوى الاستبدادية باحتكار الحياة الثقافية وتوحيد السلع الثقافية بهدف السيطرة على المتلقي وتحديد مصيره.
تحوّل هذه القوى الثقافة إلى عملية اقتصادية جامدة خاضعة لمعايير الاستهلاك وتتوقف عن كونها أداة إبداعية للفنانين والمفكرين لخلق أفق جديد يسعى لتحدي الواقع وتغييره نحو الأفضل.
لا تقع الثقافة وحدها تحت طائلة المساءلة ولكن توجه الاتهامات أيضاً نحو المتلقي أو المستهلك إذ إن عمليات التلقي ووعي المستهلك لا تتشكل دون انسجام مع منتجات الثقافة والتي تهدف إلى المتعة الدائمة دون أي تفكير نقدي.
تتطابق بذلك عقول الأفراد مع السلعة المستهلكة ويتوحد الوعي الجماعي واستجابات الأفراد العقلية والعاطفية حتى يفقدوا أهم ما تعدهم المنتجات الحداثية به، وهي حريتهم.
بل تصبح الحرية جزءاً من عجلة الإنتاج ويعمل السوق مراقباً مركزياً لأعمال المبدعين والمنتجين، أو كما يعبر أدورنو “والحرية التي هي السوق -في عصره الأكثر ازدهاراً- تقدم للفنانين كما أن للحمقى حرية الموت جوعاً”.
تدعونا هذه النظرة المتشككة في الثقافة بتوجيه أصابع اتهامنا نحو شبكة من العوامل التي تساعد على تحويل الثقافة إلى سلعة بدءًا من شركات الإنتاج ومدرائها ومنتجي الأفلام ومحرري الصحف والمواقع الصحفية، إنتهاءً بجمهور المشاهدين والمستمعين الذين يتحولون إلى قوة ضاغطة على السوق والمنتجات الترفيهية في منظومة الاستهلاك الحديثة.
يوجهنا التفكير في الثقافة كصناعة نحو مساءلة ما ألفناه حولنا من منتجات ثقافية، والتفكير فيما تبثه هوليود من أفلام وتمييز الأنماط الثقافية التي تولدها شركة عملاقة مثل “نيتفلكس”، في نقد كل ما تنتجه الصحف المستقلة أو التابعة لحكومات، فالجميع مسؤول عن إنتاج ثقافة غير بريئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى