مقالاتومضات

وحدة الأمة الإسلامية (1)

د. محمود مصالحة
هي واجب عقدي وشرعي وتربوي وفكري، ومطلب قِيَمي، والعدالة الإسلامية قيمة أساسية عليا، ودعوة قرآنية ينشدها البناء الحضاري الإنساني، وقد فشلت كل الشرائع والأيديولوجيات الحداثية الوضعية في تحقيقها، فانتشار الظلم والاستبداد الذي يعم الأرض شاهد على ذلك، لذلك فإن رسالة الإسلام الرحمة للعالمين التي تنشر العدل، تفرض على كل مسلم الإيمان بوجوب وحدة الأمة، وتدعو لرفع رايتها والعمل على تحقيقها، والسعي لإزالة المعيقات التي تقف أمام وحدتها بكل أبعادها الاجتماعية والفكرية.
ومن أهم معيقات وحدة الأمة الإسلامية: المُعَوِق الفكري، وقد عرّف د. محمد عمارة “الفكر” فقال: “بأنه جملة النشاط الذهني من تفكير وإرادة، ووجدان وعاطفة، شاملا ما يتم به التفكير من أفعال ذهنية تبلغ أسمى صورها في التحليل والتركيب، والتنسيق، وهو بهذا خاصية إنسانية” إذن فالأفكار هي الوقود العقلي الدافع لحركة الأعمال الحياتية للأفراد والمجتمعات، وكلما كانت أكثر نقاء اتخذت الأعمال بعدًا إيجابيًا أكثر نفعًا؛ لذلك على المجتمعات أن تحرص كل الحرص على معرفة ماهية الأفكار التي تؤثر على سلوكيات أبنائها سلبًا أو إيجابًا، وحديثنا في هذا المقال يتمحور حول الفكر الفلسفي الليبرالي وهو أحد أهم معيقات وحدة الأمة الإسلامية.
والليبرالية مصطلح أجنبي مُعَرَّب مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية، و (Liberalisme) في الفرنسية، وهي تعني “التحررية”، ويعود اشتقاقها إلى (Liberaty) في الإنجليزية أو (Liberate) في الفرنسية، ومعناها الحرية التي تُرَكِّز على الحرية الفردية المطلقة، مثل حرية التفكير، وحرية التعبير وحرية الملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها، وجاء تعريف الليبرالية في موسوعة المورد العربي: “بأنها معارضة للمؤسسة السياسية، والدينية التي تحد من الحرية الفردية”، أي المطلقة.
تقول الموسوعة الأمريكية الأكاديمية: ” إن النظام الليبرالي الجديد الذي ارتسم في فكر عصر التنوير بدأ يضع الإنسان بدلًا من الإله في وسط الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم.
وهذا صليبا يقول: “إن مذهب الحرية هو مذهب سياسي فلسفي يقرر أن وحدة الدين ليست ضرورة للتنظيم الاجتماعي”.
وقد نشأت الليبرالية كردة فعل غير واعية بذاتها ضد مظالم الكنيسة والإقطاع، ثم تشكَّلت في كل بلد بصورة خاصة، وكانت وراء الثورات الكبرى في العالم الغربي (الثورة الإنجليزية، والأمريكية، والفرنسية)، ولكن نقاط الإلتقاء لم تكن واضحة بدرجة كافية، وهذا يتبين من تعدد اتجاهاتها وتياراتها،
وإن أول من روَّج لها وترجمها إلى العربية، وأدخلها مصر، كان أبو الليبرالية “هو رفاعة الطهطاوي”، باعتبارها عِلمانية بكسر العين أي: تنتمي إلى العِلم، والعِلم منها براء، وقد خدعوا الناس بقولهم: إنَّ كل من يقف في طريقها، إنما يقف في وجه التقدم والمدنية! كما يقال لمن يقف في وجه الليبرالية فهو متخلف حليف الدكتاتورية، ونصير العبودية والاستبداد.
وهكذا فالليبرالية هي تيار سياسي منه تشكلت رؤى وأحزاب وأنظمة حكم بديلة عن الدين ومخالفة له من حيث المبادئ والقيم والأهداف، وتسعى لمنع تدخل الدين في الدولة وفي الأمور الشخصية بشكل عام في القضايا العقدية، والتعبدية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، فالليبرالي يعتقد أنه يحق له التعبد بالطريقة التي يراها مناسبة له، ولا يملك أحد مقاضاته، وليس للدين الحق في التدخل في الشؤون الاجتماعية، والاقتصادية، ونظام الحكم.
إذن فالليبرالية تعكس رؤية إلحادية في تفسير الوجود ودور الإنسان فيه، فهي تُقدِّس حرية الفرد، والفرد عندهم هو الإله الذي يفكر، ويُشرِّع، ويُقرر دون حسيب ودون رقيب.
فالليبرالية عملية تحرر من كل القيم الاجتماعية، والتقليدية، والعُرفية المتعلقة بمفهوم الصواب والخطأ، بمعنى أنه التحرر من التعاليم الدينية والأخلاقية.
وها هو الفيلسوف السويسري جان جاك روسو يقول: “الليبرالية هي: “الحرية الحقيقية في أن نطبق القوانين التي اشترعناها لأنفسنا”، ولكن الغريب ما العلاقة بين الواقع الغربي والواقع الإسلامي، حتى يتم استنساخ ما آل الغرب إليه، باستيراد فلسفتهم لديار المسلمين، ألم يعلم دعاة الفكر الليبرالي من العرب أن ما عند الله خير للإنسانية وأجلّ، ألم يُكرَّم الله تعالى الإنسان ويجعله غاية الوجود، وسخر له ما في السماوات والأرض، وما يُقصد بهذا الاستنساخ لتلك الفلسفة الإلحادية وذلك الواقع إلا إشاعة الإلحاد والفوضى في ديار المسلمين. ووصل الأمر برفاعة الطهطاوي الخداع في تفسيره الخاطئ للعَلمانية، بفتح العين، ويهدف بذلك لترويجها، ومنع أي محاولة تمنع انتشارها.
فحري بنا أن نقول لمستقدمي ومروجي الغزو الثقافي الحداثي الغربي: إَنَّ ليبراليتكم الفلسفية جاءت لرد المسلمين عن دينهم، وتفتيت وحدتهم، وتكريس التبعية الاستعمارية، فأصحابها من المفكرين العرب يعملون لأغراضهم الشخصية على حساب وحدة أمتهم الإسلامية، فأين النبل في ذلك، وهل في التبعية الغربية نُبْلٌ وأخلاق أم ذلٌّ وانبطاح؟ وما حصدت الأمة من ورائهم إلا الشرور، فها هي في مؤخرة الأمم منذ رفاعة الطهطاوي وأتباعه، وحتى يومنا هذا؟ لذلك فإن الأحزاب الليبرالية في البلاد الإسلامية والعربية من خلال أفعالها ما هي إلا عائق مفسد خطير مزق وحدة الأمة، وعمل على اضعافها، وحَجَرٌ يُعثِّر تقدمها الحضاري، أما الفكر والرؤية الإسلامية للإنسان والكون والحياة، فواجب إسلامي عقدي وعامل تربوي مُوَحدٌ للأمة. (يتبع).
من كتاب: “وجوب وحدة الأمة الإسلامية دراسة موضوعية” د. محمود مصالحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى