أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (37)..الذيــــن قالــــوا “لا”! (16)

حامد اغبارية

مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.

رجالٌ صدقوا… (6)
عماد الدين… (2-2)

إن نظرة تأمل في حال الأمة اليوم تعيدك إلى الماضي قريبا من ألف سنة. فالصورة تتكرر، والمشهد يعيد نفسه. ممالك وإمارات ودويلات ومحميات يتحكم بها عبيد تابعون، شُغْلهم الشاغل حماية عروشهم، من خلال التبعية المطلقة لأعداء الأمة الذين هم أعداء الله، من فسطاط الشيطان، ومن خلال البطش بالشعوب، وسجن كل صوت حرّ ، وإسكات كل همسةِ تذمّر مما تحياه الأمة من ذل ومهانة وخوَر، والضرب بيد من حديد كلَّ تحرّك يطالب باستعادة عزّ هذه الأمة ومجدها، واستنطاق ماضيها للنهوض بحاضرها وتغيير بوصلتها إلى حيث المستقبل الذي به تنهض وتحيا وتسود.
دويلات متناحرة، متقاتلة، ضعيفة، هزيلة، سلمت قيادها لأمريكا وروسيا وأوروبا وللصهيونية، مثلما سلّم أمراء السوء وحكام العار قيادهم ذات يوم لملوك الحملات الصليبية التي اجتاحت بلاد الإسلام.
في مثل هذه الأجواء، وهذه الظروف نشأ القائد المسلم السلجوقي التركي عماد الدين زنكي رحمه الله.
كان عماد الدين صبيا في العاشرة من عمره حين قُتل والده قسيم الدولة آقسنقر سنة 1094 ميلادية (486 هجرية). وقد نشأ ابنا وحيدا في بيتٍ تعلم فيه أن يقول “لا” لكل حال تُستضعفُ فيه الأمة، وفي خضمّ صراعات وحروب خاضها والده لتثبيت أركان الدولة الواحدة، وحماية الدين، والتصدي لكل فتنة داخلية ولكل حملة صليبية خارجية.
احتضنه السلطان السلجوقي بركيارُوق، وسلّمه إلى كبار القادة ليصنعوا منه فارسا مقاتلا يدين بالولاء لدينه أولا ولأمته ثانيا ولدولته ثالثا. وقد بدأ عماد الدين يشهد الحروب مع مربيه وراعيه صديق والده، القائد الأتابك (الأمير المربي) كربوقا، في ولاية الموصل في العراق. وكان ذلك بعد ثلاث سنوات من مقتل والده، أي في العام 489 هجرية، ولمّا يبلغ الرابعة عشرة من عمره.
تنقل عماد الدين من رعاية أمير إلى آخر في الموصل، لغاية العام 507 هجرية، حيث احتضنه الأمير آقسُنقر البُرسُقي، وكان هذا فارسا شجاعا فطنا ذكيا، أدرك منذ البداية خطورة الصليبيين وحقيقة مشروعهم في بلاد الإسلام، ففرّغ نفسه لمقارعتهم، وأشرك معه عماد الدين، الذي خاض معه مواجهات عديدة ضد الصليبيين. وقد لفت عماد الدين اهتمام قائده، ووصل خبره إلى السلطان السلجوقي، فقرّبه وعينه مسؤولا عن الأمن في بغداد وسائر العراق. وهناك كان عليه أن يتصدى لفتنة داخلية في مدينة الحلّة (تقع على نهر الفرات وسط العراق جنوب بغداد، قريبا من خرائب بابل القديمة)، والتي أشعل نارها أميرها دُبيس بن صدقة الشيعي الذي كان يطمع في السيطرة على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية السُنيّة، التي كانت تعاني من حالة ضعف.
أدرك عماد الدين الشاب أن حال الأمة لن يتغير، ولن تتمكن من مواجهة الصليبيين إلا إذا عمل على توحيد ما أمكنه توحيده من الإمارات المشتتة، وقد واتته الفرصة لتحقيق هذا الهدف، وذلك حين سمّاه السلطان محمود بن محمد السلجوقي أتابكا على الموصل وأرض جزيرة الفرات، وأعطاه كل مدينة يفتحها في الشام لتكون تحت ولايته.
كان الذي أشغل بال عماد الدين هو رفضه الحال الذي تعيشه الأمة، ومن أجل ذلك سعى إلى تأسيس جبهة إسلامية موحدة في مواجهة الصليبيين. وقد بدأ يعمل على تحقيق هذا الهدف تحت راية السلطان محمود الذي يدين بالولاء للخلافة في بغداد، رغم علمه بضعفها الشديد، لكنها كانت العنوان الوحيد الذي يمكن أن يشكل نقطة التقاء شرفاء الأمة في دفاعهم عن حاضرها ومستقبلها، حيال الفتن الداخلية المتمثلة بأمراء السوء، والأخطار الخارجية المتمثلة بالحملات الصليبية.
بدأ عماد الدين يضم المدن الواحدة تلو الأخرى إلى إمارته، وبدا أن الأمور قد أصبحت في قبضته، إلا أن الخلافات التي نشأت بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان السلجوقي استزفت طاقاته. فقد أدخل أهل الفتن في رُوع الخليفة أن السلاجقة يريدون السيطرة على الخلافة، فبدأ يعمل على إخراجهم من العراق، ليجد عماد الدين زنكي نفسه ممزقا بين ولائه للسلطان السلجوقي وبين ولائه للخليفة، غير أن ولاءه للسلطان كان أقوى، مما أغضب عليه الخليفة الذي قاتله في مدينة سامراء في العراق، فاضطر عماد الدين إلى التراجع حقنا للدماء، ولم تكن قوته تكفي للتصدي لجيش الخليفة، فلجأ إلى حاكم تكريت نجم الدين أيوب الذي آواه وتحالف معه. وكان هذا سببا في سخط الخليفة على نجم الدين، فأمره بترك تكريت والرحيل عنها، فلجأ بدوره إلى الموصل حيث إمارة عماد الدين زنكي. وهناك قويت العلاقة بين الزنكيين والأيوبيين؛ تلك العلاقة التي استمرت سنوات مديدة نتج عنها لاحقا تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي، الذي نشأ في ولاية عماد الدين ثم ولده الشهيد نور الدين محمود.
وفي الوقت الذي بدا فيه أن الأمة قد استسلمت لضعفها ولواقعها المهين، كان عماد الدين يعتقد بأن هذا الحال يمكن تغييره، ولكن التغيير يحتاج إلى تضحيات كبيرة.
وضع عماد الدين عينه على مدينة حلب، لإدراكه لأهميتها الاستراتيجية في مواجهة الصليبيين وفي توحيد قوة المسلمين في مواجهتهم. فقد كان معلوما أن حلب تشكل مددا سكانيا وجغرافيا وعسكريا أساسيا في مواجهة الصليبيين، الذين كانت لهم إمارات قوية في الرها وأنطاكية وطرابلس، وهي مدن تشكل طوقا محكما حول سائر إمارات الشام المتناحرة الضعيفة، وهو ما مكّن الصليبين من التنكيل بأهل البلاد من المدنيين، من سطو ونهب وسلب وقتل واعتداء على الحرمات، دون أن يواجهوا مقاومة إسلامية تُذكر.
وفي سنة 522 هجرية دخل عماد الدين مدينة حلب وسيطر عليها سيطرة تامة، وأعاد تنظيم شؤون إدارتها، لكنه لم تهدأ نفسه. فقد كان يعلم أن الصليبيين لن يسكتوا، بعد أن عزل حلب عن الرها التي كانت تشكل قلب وجودهم في المنطقة. ولأجل ذلك وضع عماد الدين عينه على مدينة الرها. وفعلا تمكن من تحريرها من أيدي الصليبيين بعد أحد عشر عاما من دخوله حلب، أي في سنة 539 هجرية. وطوال السنوات التي سبقت تحرير الرها عمد عماد الدين إلى ضم جميع المدن الواقعة بين حلب وبين الموصل إلى ولايته ليقطع الطريق على الصليبيين، فضم إليه سنجار وخابور وحران والرقة وأربيل وغيرها، وصولا إلى الفرات.
أخافت قوة عماد الدين المتصاعدة الصليبيين وأقضّت مضجعهم، ولما عجزوا عن مواجهته عسكريا عمدوا إلى الاغتيال السياسي، وهو ذات النهج الذي تتبعه اليوم قوى الاستكبار من فسطاط الشيطان للتخلص من القادة الصالحين الشرفاء.
اغتيل عماد الدين وقد تجاوز الستين من عمره وهو نائم في خيمته، في إحدى معاركه ضد الصليبيين. وتقول الروايات التاريخية إن الصلبيين تمكنوا من اختراق المماليك الذين كانوا حول عماد الدين واشتروا ذمة بعضهم، فنفذوا الاغتيال، ظنا منهم أنهم بذلك ستدين لهم الأمور وسيستقر أمر الصليبيين في بلاد المسلمين. وفي رواية أخرى أن قادة الصليبيين أوعزوا إلى أحد جنودهم أن يتظاهر باعتناق الإسلام، ويهرب إلى معسكر عماد الدين ليتمكن من التسلل إلى خيمته وقتله وهو نائم. ولكن القدر كان يخبئ لهم المفاجأة تلو المفاجأة. فقد واصل نور الدين محمود طريق أبيه في مواجهة الصليبيين، ومعه أولئك الشجعان من الأيوبيين، الذين كان همهم كذلك توحيد الأمة كشرط لخلاصها. ومن تحت راية عماد الدين خرجت تلك القوة الصاعدة التي قادها صلاح الدين، يوسف بن نجم الدين أيوب، الذي كانت عيناه متجهتين نحو القدس والمسجد الأقصى الواقع تحت احتلال الصليبيين.
لم يكن الهدف من سرد جوانب من ملحمة عماد الدين زنكي تقديم قصة من التاريخ للتغني بأمجاد الماضي، وإنما لتأكيد مسألة هي غاية في الأهمية: إن هذه الأمة وَلودٌ، لا ينضب معينها، وهي قادرة على إنجاب أمثال عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، وإن خلاص هذه الأمة مما هي فيه اليوم من هوان إنما يكون بتوحيد قوتها تحت راية واحدة، وإن تخليص الأقصى المبارك والقدس من الاحتلال يجب أن يسبقه تطهير أرض الإسلام من الأمراء الخونة الذين رهنوا أنفسهم وسلموا قيادهم للصهيونية والصليبية.
بهذا نكون قد قدمنا حلقات يسيرة من سلسلة طويلة من الذين قالوا “لا”، في زمن نجد من حولهم أنظمة باعت كل شيء، وسلّمت كل شيء، وربطت مصيرها بأعداء الأمة.
وستبقى تتواصل حلقات تلك السلسلة دون توقف، رغم الألم، ورغم القهر، ورغم المؤامرات، ورغم ظلم ذوي القربى، ورغم البطش والقمع، ورغم استعلاء الباطل وانتفاشه، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، حين يهيئ الله تعالى اللحظة التي فيها يخرج مَن يحقق المعنى الحقيقي لقول “لا”، ويجعله واقعا تنهض به الأمة وترتقي وتسود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى