أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

غُربَةُ العربيّ تحتَ الحُكمِ الصهيونيّ ونداءُ الضّمير …

محمد شباط
أذكُرُ قبل زهاء عشر سنين، فور إنهائي المرحلة الثانويّة انتقالي للسكن والعمل في تل أبيب. انتقلتُ من ضيق القرية وسعة الصّدر إلى سعة المدينةِ وقلّة الحيلة.
بعد عدّة أسابيع، انتبهت إلى أنّني بدأتُ أتحدّثُ العبريّة بلكنة أشكنازيّة دون تخطيطٍ مسبق. بِتُّ أُخفي حرف ال”ع” تمامًا مستبدلًا إيّاها بالهمزة لفظًا، وانتبهتُ أنّني أُخفِّفُ الرّاء دون قصدٍ، ولعلّها آليّةُ الإندماج والتّأقلم.
مع هذا، فقد كُنتُ عند استخدام اللغة العبريّة مع العرب، ألفظ ال “ع” وال “ر” بشكلٍ عاديٍّ دون تخفيف. بعد وقت فهمت أنّ أكثر اليهود من الأشكناز يلفظونَ هذه الأحرف بهذه الطريقة؛ لعيبٍ مُتوارثٍ من أسلافهم الأوروبيّين الّذين لا يُتقِنون مخارجَ حروف اللّغاتِ السّاميّة.
كان هناكَ شعورٌ بعدم الارتياح في داخلي، وتساؤلٌ كنتُ أُهمشُّه لما كان يُدخله من ضيقٍ في صدري: “لماذا تخاطبُ اليهودَ بلكنةٍ مختلفةٍ مقارنةً بالعرب؟” ولم أكُن أجد جوابًا؛ فقد كان مثلُ هذا التّساؤل لشابٍ في الثامنة عشرة من عُمره يحتاجُ بحثًا داخليًّا .. بينما كانت كل ملهيات الحياة المادية والصراعات القوميّة تأخذ الحيّز الأكبرَ يومه.
هل أنا منافق؟ كنتُ أتساءل .. ولم أكُن أخجلُ من هكذا تساؤل، فلطالما آمنتُ أنّ صدقَ الإنسانِ مع ذاته هو الأهمّ. وهنا بدأ في داخلي صراعٌ شديد، صراع الهويّةِ العربيّة في مواجهةِ الواقع الإسرائيليّ العِبريّ الّذي يحاولُ التهامي.
في تلكَ الّلحظاتِ المُظلمة خُيّلَ إليَّ أنّني أمام مفترق طُرُق، وعندما أقول في تلكَ اللّحظات؛ فأنا أعني سنواتٍ من العيش في أكبرِ مدينةٍ مركزيّةٍ يهوديّة، مركز كل ما يُحيي هذه الدّولة وهذا النّظام. في إحدى الطُّرُقِ ظهرَ لي طريقٌ مُوحِشٌ مُظلم وفي الطّرفِ الآخرِ طريقٌ محفوفٌ بالرّاحة والسّهولة.
أمّا الطّريقُ الموحِشُ فكُتِبَ فوقَهُ بخطٍّ عربيٍّ مُبين “بسم الله الرّحمن الرّحيم”، ولم أكن في فترتها ملتزمًا بشيءٍ من الدّين سوى اسمه الّذي ورثتُه، ولكنّه كان محفوظًا في قلبي.
وأمّا الطّريقُ الآخرُ فكان في آخره شيءٌ غيرُ واضحِ الملامح، يُشبه نجمةَ داوود.
في تلكَ اللّحظةِ آمنتُ بشيءٍ قد لا يؤمنُ بهِ الأغلب؛ آمنتُ بأنّ ما في ظاهرِهِ كِدٌّ وتعبٌ وصعوبة؛ هو ما يستحقُّ فعلًا خوض غمارِ الحياةِ من أجل استكشافه.
منذ ذاك اليوم، وذلك الاختيار، بدأت بذرة مقاومةٍ تكبرُ في داخلي؛ أصبحتُ أزأرُ بالأحرُفِ كأسدٍ قادمٍ من جزيرة العربِ، جاء ليقتاتَ على متصنّعي الإنسانيّةِ من الأشكناز، مفخّمًا ومجاهرًا بحنجرةٍ عربيّةٍ عزيزة وكلّ ما فيها يصدح، أنا العربيُّ لا أمزح .. أنا العربيّ لا أبرح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى