كن ولا تكن
الشيخ كمال خطيب
كن مثل علي عزّت
اعتاد الرئيس البوسني علي عزّت بيجوفيتش رحمه الله من “1925 – 2003” أن يأتي مبكرًا إلى صلاة الجمعة ليصلي في الصف الأول. وذات مرة وبسبب انشغالاته والتزاماته الطارئة فقد وصل إلى صلاة الجمعة متأخرًا، وأراد أن يصلي ويجلس حيث انتهى به المجلس، لكن المصلين شعروا بوصوله فبدأوا يتهامسون وينادي كل واحد منهم الآخر ليفتح الطريق للرئيس علي عزّت للوصول إلى مقدمة المسجد حيث الصف الأول الذي اعتاد الصلاة فيه.
لم يكن للرئيس مفر وقد رأى مسارًا قد فتح له فتقدم لكنه ما إن وصل إلى الصف الأول وإذا به يستدير نحو المصلين قائلًا جملته المشهورة يعلّم بها أبناء شعبه العزة والشموخ، قائلًا لهم: “هكذا تصنعون طواغيتكم”.
هكذا هو القائد الذي يريد أن يصنع من شعبه شعبًا يعرف الذي له ويعرف الذي عليه. إنه لا يريد منهم أن يكونوا مجرد أرقام تختزل في حضرة صاحب الجلالة والسيادة والفخامة والسمو والمعالي، إنه لا يريد منهم ولا يقبل منهم أن يكونوا أقزامًا بين يدي طاغية (يظن نفسه عملاقًا)، ولا أن يكونوا عبيدًا بين يديّ من لعلّه يأتي اليوم الذي يقول فيه ما قال فرعون {أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى}، كما فعل بشار لمّا شبّه أبناء شعبه بأنهم مثل الفيروسات، وكما فعل القذافي لما شبّه أبناء شعبه بالجراذين لمجرد أنهم خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة. إنه لا يريد منهم ولا يقبل أن يكون أبناء شعبه ذبابًا يتحكم به الملك أو وليّ العهد أو الرئيس، فيسلّطه على كل من يعارضه ويبث فيهم سمومه وأوساخه وقاذوراته، فيطعنون في عرضه وفي أمانته وفي وطنيته وفي رجولته، بل وحتى في دينه ومعتقده. إنه لا يريد منهم أن يكونوا مثل الرعاع يصفقون لكل ناعق، ولا يريد منهم أن يهتفوا لكل ساقط ولا أن يكونوا قافلة من الجمال يقودها وفي مقدمتها حمار قد سارت على طريقه وعلى وقع خطواته بل نهيقه.
إن علي عزّت أراد لشعبه ألّا يصنع طاغوتًا وإنما يكون رئيسًا له شعب يحبه ويحتضنه، لكنه الشعب الذي لا يجامل ولا يداهن، والرئيس الذي يقول ما قاله أبو بكر رضي الله عنه: “إنما وليت عليكم ولست بخيركم”. فكونوا مثل علي عزّت بل كونوا مثل أبي بكر.
كن مثل الشيخ الغزالي
سئل المرحوم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله من أحد الحضور في مجلس علم عن حكم تارك الصلاة. انتظر وتوقع السائل أن يكون الجواب واحد من أربعة: أنه عاصي، أنه فاسق، أنه كافر، أنه مرتد لكن الجواب كان من الشيخ الغزالي: “حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد” قصد بذلك رحمه الله أن توزيع الألقاب والمراتب لا يجدي، وأن تصنيف الناس في خانات لا يفيد وإنما الذي يجدي وينفع ويفيد هو أن تدعوه وتذكّره وتنصحه، وحكمه هو وجوب أن تقوم أنت وتأخذه معك إلى المسجد لا أن تصنفه في خانة المعصية أو الفسق أو الردة أو الكفر.
فكن أخي داعيًا ولا تكن جلادًا ولا قاضيًا.
رحم الله المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي لمّا ألّف في الرد على موجة التكفير كتابه الرائع -دعاة لا قضاة- فواجبنا أن ندعو الناس إلى الله لا أن نحاكمهم.
وكم كان مؤثرًا موقف الشابين العربيين المسلمين اللذين كانا يدرسان في إحدى الجامعات البريطانية، فإذا كانا لوحدهما فقد تحدثا باللغة العربية، وإذا كان معهما زميل بريطاني أو دخل عليهما فإنهما يتحدثان بالإنجليزية. حدث هذا أكثر من مرة فلفت ذلك انتباه زميلهما الانجليزي، فظن أن لذلك سببًا وأراد أن يعرفه فكان الجواب: أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نتحدث سويًا بلغة لا يفهمها ثالثنا أو يتناجى اثنان ويتهامسان بوجود ثالث قد يظن أن التناجي والتهامس ضده وعليه. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجين اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه”. وفي رواية أخرى: “إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه”. فما كان من زميلهم الانجليزي إلا أن قال: إن نبيكم هذا حضاري جدًا.
كن مثل شجرة الزيتون
يقول الأستاذ حسان شمسي باشا: والسيرة الحسنة والسمعة الطيبة كشجرة الزيتون لا تنمو سريعًا ولكنها تعيش طويلًا، فقد يأخذ منك بناء السمعة عشرين عامًا، ولكنها قد تهدم في خمس دقائق بفعل أوعمل يخدش سمعتك وسيرتك. فاحرص على ذلك الصرح العظيم، وإياك أن تلطخ سمعتك بما يغضب الله سبحانه.
لمّا كان يوسف في السجن ظهر معدنه الحقيقي وأصالة منبته، فقيل له على لسان صاحبي السجن {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} آية 36 سورة يوسف. وعندما خرج من السجن بل أصبح عزيز مصر، قيل له على لسان اخوته {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} آية 78 سورة يوسف.
فالمعدن الأصيل الطيب لا تغيّره الأحوال ولا تغريه المناصب، وإنه يوسف عليه السلام يقول بتواضع جمّ وهو يجلس على كرسي الملك {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} آية 90 سورة يوسف، ولم يقل أنا عزيز مصر بل ذكر اسمه خاليًا من أي صفة، كبير النفس يبقى كبيرًا لا تغره الألقاب والأسماء.
لا تكن أنانيًا
إن من الناس من يصل به حب نفسه وذاته إلى درجة التقديس، بل إلى حد الاستعلاء على الآخرين. إن مرض “الأنا” لا تظهر أعراضه ولا تنتقل عدواه إلى البعيد فقط، بل إن أول من يتأثر بها هو الأخ القريب، أي أن الأناني لا يحب الخير حتى لأخيه ابن أمه وأبيه. ولطالما عرفنا وسمعنا وعايشنا من تكون له خصومة مع شقيقه الذي تربى وإياه في حجر أم واحدة وسبّب ذلك نزعة الأنانية التي تطغى على أحدهما، وما قصة ابني آدم عليه السلام إلا خير مثال لمّا وصل الأمر بأحدهما أن يقتل أخاه حسدًا بعد قبول قربان أحدهما وعدم قبول الآخر.
وقد قيل: لا تترك أخاك تأكله الذئاب، فستجوع الذئاب يومًا ولن تجد سواك ما تأكله. وهل مثال أشهر من قول “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
لا تكن مثل مالك الحزين
فقد عرف عن هذا الطائر، أن أجمل الأصوات تخرج منه عندما يكون قد أصيب بجرح وراح دمه ينزف، فتخرج منه تلك الأصوات الجميلة الحزينة، فماذا تفيد الألحان الجميلة بينما الحزن يلف أحدنا من كل جانب، وهل في الدنيا ما يستحق أن نذرف لأجله دمعة أو أن نسيل له نقطة دم واحدة، إلّا أن يكون الدمع أو الدم في سبيل الله.
هل الدنيا التي لا تعدل عند الله جناح بعوضه تستحق أن نعادي بعضنا ونهجر بعضنا ونظلم بعضنا بل ونقتل بعضنا ونسيل دماء بعضنا بسببها ومن أجلها، وقد قيل ليس الخطر أن تدخل السفينة إلى الماء لكن الخطر أن يدخل الماء إلى السفينة، لأن الغرق سيكون حتميًا، ووجود المؤمن في الدنيا ليس مشكلة لكن المشكلة أن تكون الدنيا في قلب المؤمن.
إن اختلال الموازين وانقلاب المعايير بات هو سيد الموقف، فإن من الناس من لا مشكلة عنده في أن يثقب السفينة إرضاء لغروره ولو غرق كل من عليها وهو منهم. وإن من الناس من تتربع الدنيا على قلبه، بل إن من الناس وحرصه على الدنيا كمثل رجل رأى قاذورات علقت على أسفل نعله فخلع النعل ومسح ما عليه من القاذورات بخدّه، أليس الأجدر لهذا الخد أن يظل مشرفًا ولا يهان، فكيف لعاقل أن يستبدل الجنة بما فيها من نعيم دائم بدنيا فانية لا تعدل عند الله جناح بعوضة؟!
لا تكن مثل الديك
يحكى أن رجلًا اشترى ديكًا، وكان الديك يؤذن كل يوم عند الفجر، وكان صاحبه رجلًا عاصيًا ولا يحب منه ذلك. فقال له: لا تؤذن عند الفجر بعد الآن وإلا سأنتف ريشك. خاف الديك وقال في نفسه محاولًا إقناع نفسه أنه لا بأس بإحداث تغيير جذري في سلوكه لأن المصلحة تتطلب ذلك، فالضرورات تبيح المحظورات، ومن السياسة الشرعية أن أتنازل حفاظًا على نفسي فهناك ديكة غيري تؤذن فلست أنا الديك الوحيد في الحي، وتوقف الديك عن الأذان.
وبعد أسبوع جاءه صاحبه يقول له: إن لم تقاقي مثل الدجاجات فإنني سأنتف ريشك. فقال الديك لنفسه: كيف لي أن أفعل ذلك فالديك يصيح والدجاجة تقاقي، لكنه سرعان ما عاد وقال: أنا عبد مملوك ولماذا أحمل نفسي فوق طاقتي ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فتنازل الديك عن خصوصيته وأصبح يقاقي مثل الدجاجات.
وبعد شهر جاءه صاحبه قائلًا: إن لم تبض مثل الدجاجات فسأذبحك غدًا. قال له الديك: ولكن يا سيدي الديك لا يبيض، فقال له صاحبه: من استطاع أن يقاقي مثل الدجاجة فلماذا لا يبيض مثلها؟ عندها بكى الديك وقال: يا ليتني مت وأنا أصيح وأأذن عند كل فجر.
كثيرون من المسلمين لا ينتبهون أن مشوار التنازل يبدأ من شيء بسيط وينتهي بالتنازل العقائدي والفكري والأخلاقي، بل ويصل إلى التنازل عن الحقوق والأوطان، وأن من يرى فيك قابلية التنازل فإن شهيته ستفتح ولن يشبع نهمه ولا جشعه إلا أن يأتي على كل ما عندك، وما قصة سلطة أبو مازن في رام الله مع الاحتلال الاسرائيلي إلا خير دليل ولسان حال من غرّر بهم وهم يلهثون خلف سياسات أبو مازن وأوسلو يقولون: يا ليتنا متنا ونحن على مبادئنا وعلى مواقفنا وعلى الذي ابتدأنا به لا أن نكون مجرد حراس لإسرائيل ومصالحها.
كن مثل الشيخ ابن عاشور ولا تكن مثل الشيخ الهباش
في العام 1961 دعا الحبيب بورقيبة طاغية تونس العمال للإفطار في شهر رمضان، بدعوى أن الصيام يرهق العمال ويقلل الإنتاج وأن بالإفطار رخصة لزيادة الإنتاج الوطني. ولأجل ضمان استجابة العمال لما أراده بورقيبة حيث فيه معصية ومخالفة لركن من أركان الإسلام، وهو ما لم يعتد التونسيون فعله، فطلب بورقيبة من الشيخ الجليل مفتي تونس أن يلقي في الإذاعة الرسمية كلمة يفتي فيها بجواز الفطر في رمضان للعمال.
وافق بن عاشور وبدأت الإذاعة تهيأ الناس لانتظار كلمة هامة سيلقيها الشيخ بن عاشور، ولمّا حان وقت إلقاء الكلمة لم يزد الشيخ ابن عاشور على أن تلا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} آية 138 سورة البقرة. ثم أتبع قائلًا: “وصدق الله وكذب بورقيبة”.
فخرست الألسن وما استطاع بورقيبة أن يفرض ما يريد وأعلى الله فرضية الصيام في تونس على يد الشيخ الطاهر بن عاشور.
وبالمقابل فإن محمود عباس وقبله الراحل ياسر عرفات فقد عرفا بقيام حركة حماس بطرد المدعو محمود الهباش من صفوفها بعد ثبوت سلوكيات مرفوضة شرعيًا واجتماعيًا وتنظيميًا، فما كان من عرفات إلا أن أخذه بالأحضان وقد رأى أن الرجل أخذته العزة بالإثم ويسعى للانتقام، فلماذا لا يجعله الخنجر الذي يطعن به إخوان الأمس؟
لم يكن هذا مجانًا أبدًا. صحيح أن الهباش قد أصبح وزيرًا، وقد أصبح قاضيًا للقضاة، وقد أصبح مستشارًا للشؤون الدينية عند أبي مازن وخطيب الجمعة في مسجد المقاطعة، لكن هذا كله لا يكفي تمامًا كما حصل في حال الديك المسكين، فوصل به الأمر حينما أراد أن يبرر مشاركة أبو مازن في جنازة شمعون بيرس عام 2016 إلى أن قال: “وماذا في مشاركته، فوالله لو أن محمدًا رسول الله كان حيًا لشارك في جنازة شمعون بيرس”!!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.
أرأيتم الفرق بين ما أراده بورقيبة من الشيخ بن عاشور وماذا كان موقف الشيخ، وبين ما أراده أبو مازن من محمود الهباش وإلى أين وصل به الأمر؟
فكونوا مثل الطاهر بن عاشور ولا تكونوا مثل محمود الهباش.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون



