أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةأخبار وتقاريرمحليات

الأسير المحرر زاهر علي يتحدث لـ “المدينة” عن 16 عاما قضاها بين القضبان والسجّان الإسرائيلي.. * تركت ورائي كتلا بشرية غرقى في يمّ من التهميش والإهمال ومنسيين في جوف الرمال

* الحر لا ينكسر والعبد لا ينتصر فالحر يبقى دائما على تحديه وإيمانه لا يقيل ولا يستقيل ولو ألبسه الأسر وشاحا ودثارا من التعب والهزال
عبد الإله وليد معلواني
لم يكن لقب “معلم الأسرى” الذي أطلق على الأسير المحرر زاهر علي (47 عاما) من قرية كوكب أبو الهيجاء، مجرد لقب يحمل رمزية معينة، وإنما كان اللقب مستحقا بجدارة فقد امتلك زاهر علي أدوات العلم والمعرفة الموسوعية التي جعلته معلما للأسرى وأسيرا مثقفا، قرآنيا ونحويا وأستاذا ويحمل اللقب الأول في “أساليب تدريس العلوم والرياضيات” وكان على وشك انهاء اللقب قبل اعتقاله بتاريخ 15/7/2004 والحكم بسجنه 16 عاما بتهم أمنية.
أغلقت بوابة مدخل سجن النقب الصحراوي خلف الأسير المحرر زاهر علي يوم الثلاثاء الموافق 14/7/2020 بعد 16 عاما قضاها في هذا السجن الكئيب وغيره من السجون المكتظة بآلاف الأسرى من أبناء شعبنا.
بطاقة تعريف
في اللقاء الذي أجرته صحيفة “المدينة” مع الأسير المحرر زاهر علي، تركنا له الدفّة ليأخذنا إلى سراديب السجن ويحدثنا عن عذابات الأسر ومعاناة الأسرى وأزماتهم ونشاطاتهم.
يقول أسيرنا المحرر في تعريفه عن نفسه: “درست في جامعة القدس لدرجة الماجستير في موضوع “أساليب تدريس العلوم والرياضيات” واعتقلت في المراحل الأخير من اللقب الثاني، اعتقلت من بيتي في كوكب أبو الهيجاء في تاريخ 15/7/2014، وقضت المحكمة المركزية بحيفا بسجني 16 عاما، قضيتها كلها ثم تحررت يوم الثلاثاء بتاريخ 14/7/2020، عملت مدرسا للرياضيات في بيت صفافا لمدة 3 سنوات وقبلها عملت مدرسا للغة العبرية في جبل المكبر لمدة 3 سنوات أيضا، عائلتي مكونة من 4 أخوة و4 أخوات، وأنا السادس بينهم والثالث بترتيب الاخوة”.
وأضاف: “في الأسر تعلمت بعض الخطوط العربية وحصلت على إجازة في خط الرقعة وخط الديواني وأتقن الخط الكوفي ولم أجز به. أيضا حصلت على إجازة تجويد القرآن الكريم برواية حفص من عاصم بطريق الشاطبية وعلى نفس الشيخ قرأت القرآن كاملا، وحصلت على سند متصل للرسول صلى الله عليه وسلم. درست الكثير من الدورات في الأسر منها: العقيدة الطحاوية-علوم الحديث، إدارة أعمال، إدارة أزمات، أصول الفقه، فقه الطهارة والصلاة ودورات أخرى. قمت بتدريس مادة الإملاء ومادة النحو والرياضيات والتجويد والتفسير وعلم البيان والبلاغة (خلال التفسير)”.

الكتل البشرية المنسية
– كيف كانت تجربة السجن؟
زاهر علي: أولا أحمد لله سبحانه وتعالى أن منّ عليّ وأحسن بي إذ أخرجني من السجن وقد فارقتني المحنة وهي مفارق لا يشتاق له وودعتني وهي مودع لا يبكي عليه فالحمد لله على محنة يجليها ونعمة ينيلها ويوليها. لقد خرجت من قرية محاصرة صغيرة اسمها “سجن النقب الصحراوي” وهو واد ضيق ليس فيه حياة، صحاري بعد صحاري يضل بها الهدى ويخاف منها الخوف وتشكو حرّها عند الظهيرة الشمس وتسأم سكونها الليالي والنجوم. في هذا المضيق الزماني والمكاني تركت كتلا بشرية غرقى في يمّ من التهميش والإهمال ومنسيين في جوف الرمال ومتروكين للوحدة. يناضلون من أجل الحياة ويتناوبون كما تتناوب أكوام الرمال في رؤيا صامتة لا تتغير فيها المشاهد.
يتابع الأسير المحرر: هناك حيث أسلاك الوحدة والغربة قضيت السنوات مع أنماط بشرية رائعة فريدة بإنسانيتها جمعتني بهم محبة باقية خالدة لا تزول ولا تقاس بها الدنيا وما فيها، ولو نطق ذلك المكان لجرت دموع الوجد لأرواح تعارفت وتآلفت وصفت وعاشت أيامها وتطلعت عازمة على ان تجعل من سهام الألم سلالم أمل.
أكثر ما أمضيت وقتي به هو في تدريس الاسرى وكما أذكر ابتدأت أدرس مادة النحو وقد كنت أقرأ الدرس واحضره جيدا ثم أدرّسه للطلاب ومن الطريف جدا أنني كنت لا أتقن من النحو إلا الدرس الذي أقوم بتحضيره وكنت أقول للطلاب: “لا تسألوني أي سؤال غير المادة التي أعطيتكم إياها” وهكذا تعلمت مادة النحو شيئا فشيئا حتى قرأت ودرّست كتاب التطبيق النحوي للدكتور الراجحي، وشرح ألفية أبن مالك وذلك بفضل من الله ومنّة منه.
ثم بعد سنوات أكرمني الله سبحانه وتعالى على يد شيخ فاضل وحصلت على إجازة لتجويد القرآن الكريم وبدأت بعدها بإقراء الطلاب الأسرى القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، وقد كانت الختمة وإجازة الطلاب من أجمل اللحظات وأكثرها أثرا في النفس.
وفي هذا المقام أذكر أنني عندما ختمت تسميع القرآن الكريم مع الشيخ “أبو معاذ” كان هناك أسير آخر يتلقى من الشيخ فأراد الشيخ أن نقيم احتفالا في الساحة حيث نجمع الأسرى من جميع الفصائل ونقرأ خواتيم السور (الإخلاص، الفلق، الناس) ثم ندعو بعد ذلك.
فقلت للأسير الذي معي “إذا أنا أختم أولا وأدعو بدعاء قصير وانت تختم بعدي وتدعو بدعاء طويل” واتفقنا على ذلك وهكذا كان، وبدأت بدوري فقرأت ودعوت دعاء قصيرا، ثم جاء دور الآخر فقرأ ودعا ولكن بدعاء قصير على غير ما اتفقنا عليه وأجازنا الشيخ وأشهد الحاضرين أننا قرأنا عليه القرآن ختمة كاملة بهذه الرواية.
المهم في كل القصة أنني وبعد الختمة توجهت للأخ الذي ختم معي وسألته: “لماذا لم تدع بدعاء طويل؟ فقال لي: “أنا رجل صلح وكنت في مواقف عدة في حياتي لكن كمثل هذا الموقف لم أجد في حياتي لقد تأثرت تأثرا لا أستطيع وصفه حتى إني لم أستطع أن أطيل بالدعاء”.
على فكرة هذا الأسير هو علي عبيد أبو عطا من العيسوية وقد توفي ثر صعقة كهربائية بعد تحرره بأشهر قليلة فرحمة الله عليه، كان أدبيا خلوقا يستحي منه الحياء ولا نزكي على الله أحدا.
وقد كان لشروط الإجازة أن يقوم الطالب المجاز بتدريس ثلاثة طلاب على الأقل وهكذا بدأ الطلاب المجازون بالأخذ والإعطاء حتى تحول إلى القسم إلى خلية نحل تبث عبث القرآن في جنبات الجدران الصامتة فنزلت السكينة وغشيتنا الرحمة.
والحديث عن القرآن يطيب واعتذر عن الإطالة لما في الإسهاب في هذا المقام من خير. قبل دخولنا بمرحلة “الاجازات وتعليم القرآن” كانت تحدث بين الأسرى في الغرف إشكاليات بعضها مناوشات عائلية بسيطة، وبعضها احتاجت إلى تشكيل لجنة قضائية لتبت بالأمر. الشاهد بالحديث أننا وبعد أن وصلنا لمرحلة أنه لم يعد بيننا إلا أخ واحد أو اثنين لم يحصلوا على إجازة في التجويد انتهت المشاكل الإدارية، وأستطيع أن أقول إنها وصلت لدرجة صفرية ولا أبالغ، وكل هذا ببركة القرآن.
أنا أتحدث عن حالة لعلها فريدة ولكنها من بوارق الأمل وهي من الأشياء التي جعلت من محنة السجن منحة طيبة. بعد هذه المرحلة جاءت منحة جديدة فالله لا ينسى من فضله أحد وذلك بعد لقائي مع الشيخ صالح بركات الذي عرفته قبل الأسر، فهو ابن بيت صفافا في القدس، البلد الذي عشت فيه ودرّست في ثانويته. والدكتور صالح حاصل على درجة الدكتوراه بالتفسير فأخذت منه تفسير سورة الكهف، وهذا جعلني أعشق التفسير عشقا كبيرا وبدأت اجتهد بقراءة التفسير حتى كوّنا مجموعة قمت فيها بالاشتراك مع بعض الأخوة بتفسير سورة الكهف في حلقة جديدة، أي بدأت بتدريس ما تلقيته عن الشيخ صالح جزاه الله كل خير بالاشتراك مع بعض الأخوة.
هذه الحلقة الأولى كانت فاتحة خير وتميزت بوجود أسرى أكفاء، فقد أخذ كل واحد منّا تفسيرا مختلفا وبدأنا نتدارس هذه السورة العظيمة من تفاسير عدّة. أنهينا سورة الكهف وذهبنا لتفسير سورة الحجرات ثم بعد ذلك سورة النور وبعدها سورة النمل.
وجميل أن نذكر أننا وبنفس مجموعة التفسير وزيادة بعض الأسرى عملنا ما سمّيناه “الصالون الأدبي” وهو لقاء في الساحة (في مصطلح الأسرى الفورة) على “حفلة شاي” وبعض المقبّلات المتاحة، كنا نقرأ فيها مقطوعات أدبية وأشعار وبعض المقامات والنوادر والحكايات وكان الأخ الأسير محمد عابد أبو عبد الرحمن يتحفنا أحيانا بشعر الزجل. مضت الأيام في الأسر بحلوها ومرّها وذهب الظمأ وابتلت العروق ونسأل الله العلي القدير أن يثبت الأجر.

الحر لا ينكسر
– كيف يصبر الأسير؟
زاهر علي: قيل لبلال بعد أن سطع نجم الإسلام في سماء العالم: كيف كنت تصبر على تعذيب أمية بن خلف لك؟ فقال: كنت أخلط حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فأصبر، وكم من بلال عرفت في هذا الأسر، خلطوا حلاوة الإيمان بمرارة الأسر فصبروا.
وقال أبو حاتم الرازي: قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سوط الواثق وسيف المعتصم؟ فقال لي: يا أبا زرعة لو وضع الصدق على جرح لبرأ… وكم من أسير عرفت فيهم الصدق احتضنوا إخوانهم الأسرى فبرأت جراحهم وبردت فصبروا واستمروا بالحياة.
الأسير يعيش في زنزانة يراها ويلمس قضبانها وهذا أمر شديد جدا على النفس ولكن السجن الحقيقي ليس بالجدران والسجّان والقضبان، السجن الحقيقي يبدأ إذا افتقد الأسير احترامه لذاته وتملكه شعور أنه زائد على الوجود لا أهمية له عندها تصبح رقبته بيد الجلاد وعندها سهل جدا ان يتقبل صفعة السجّان وأن يبالغ بالإنحناء والسجود والعيش فقط من أجل فتات طعام. هؤلاء لن يصبروا على طعام واحد، والفرق الهائل بين من اختار أن يكون بين السادة- ولو كان مغلقا عليه- أو بين العبيد.
إن الحر لا ينكسر وإن العبد لا ينتصر!! إن الحر يبقى دائما على تحديه وعلى حبه وعلى إيمانه لا يقيل ولا يستقيل ولو ألبسه الاسر وشاحا ودثارا من التعب والهزال:
سل الرماح العوالي عن معالينا واستشهد البيض هل خاب الرجا فينا
لقد سعينا فلم تضعف عزائمنا ممّا نروم ولا خابت مساعينا
لا يظهر العجز منّا دون نيل منى ولو رأينا المنايا في أمانينا

معلم الأسرى
– العديد من الأسرى أطلق عليك لقب “معلم الأسرى”..
زاهر علي: في هذا السياق أود أن أحدثكم أنه قد كانت زيارة للشيخ رائد صلاح حفظه الله لبيت الأهل مع ثلّة طيبة من الأسرى وهناك صعد هذا اللقب وعندما نزل الخبر في جريدة “صوت الحق والحرية” كنت أتقلى الجريدة في سجن “جلبوع” فلمّا استلمت العدد الذي كتب فيه عن زيارة الشيخ والأسرى لبيت العائلة وكان في العنوان لقب معلم الأسرى قمت بإخفاء هذا العدد ولم أوزعه في القسم ولم أطلع أحدا على العدد والخبر إلا الأخ حمزة الكالوثي “أبو جعفر” وقد كنت محرجا كثيرا خصوصا أنني لا استحق هذا اللقب. كل الذي قمت فيه بالأسر ليس لي فيه منّة على أحد، لم أقم إلا بواجبي ولعلي قصّرت أيضا في أداء هذا الواجب أحيانا، بكل الأحوال جزاهم الله كل خير أولئك الذين أطلقوا عليّ هذا اللقب، فأنا أقدّر محبتهم لي واعتز بها.

أبي كان قمري
– توفي والدك وأنت في السجن ما الذي مرّ عليك حينها؟
زاهر علي: عند الحديث عن والدي رحمه الله تترجل الكلمات وتنحني الحروف وتنهمر العبرات وينزف القلب… إن الذي يكنه القلب لأبي سيبقى أسطرا في سجلّ يعجز المترجمون عن إعرابها وكلمات في ديوان الحب والذكرى يثقل على القراء تصريفها. أبي رحل بجسده لكن روحه الطيبة تسكن في قلبي ووجداني وفي هذا المقام، أود الحديث عن ثلاثة مواقف مع أبي.
الموقف الأول: عندما كنت صغيرا كان أبي يعمل بفلاحة الأرض مع أخوتي وأخواتي الأكبر منّي (أنا سادس الأخوة) وكان في عودته يحضر معه أحيانا بطيخا وشماما وكنت أعرف أن أبي لا يزرع البطيخ والشمام وعندما كان يضع البطيخ لنأكله كنت أسأله من أين هذا البطيخ فيقول لي: “من أرض جارنا” فأقول له: “وهل أذن لك جاركم بأخذ البطيخ من أرضه” فيقول أبي: “لا ولكن من باب العشم” فأرفض أن آكل البطيخ رغم محاولات الاقناع وإغراء البطيخة الحمراء.. كبرت ومضت الأيام وعملت في البناء وأصبح لدي مبلغ من المال فقلت لأبي يوما: “يا أبي أريد أن أفتح حسابا ربويا في البنك أضع المال لأكسب فائدة عليه فيربو ويزيد” فقال لي: “يا زاهر هل تذكر أيام كنت ترفض أكل البطيخ وأنت صغير لأنك خفت أن يكون حراما، إبق كما كنت صغيرا، كنت أنت الصواب ونحن الخطأ رفضت أكل البطيخ قديما وتريد الآن أكل الربا! كم خجلت من نفسي يومها ولكن هذا درس علّمني أكل الحلال والشيء بالشيء يذكر.. حصل في الأسر أن دعا أحدهم إلى مائدة من المكسرات والعصائر والكعك ووضعها في الساحة وبدأ يدعو الأسرى لتناول ما تيسر (تعسر). كنت مع أحد الأخوة الأسرى فأصر علينا فاقتربت من المائدة وقلت لمن معي: تفضل كل! فأكل وأنا لم أتناول شيئا وبعد أن مضينا قال لي صاحبي: لماذا لم تتناول شيئا؟ وبعد أن ألح بالسؤال قلت له: هذا صاحب المائدة معروف بالسرقة ولا أريد أن آكل من أكله الحرام، فقال لي: إذا أنا أكلت حراما! فقلت له: أنت أكلت وأنت لا تعرف فأنت معذور! وهذا من أثر تربية الوالد لي.
موقف آخر: كنت لا أصلي وجاء أبي في رمضان إلى الأقصى ليصلي التراويح كنت يومها سنة ثانية بالجامعة فاتصل بي إن كنت غير مشغول لعله يراني فذهبت إلى الأقصى مع صديق وانتظرت بالساحة حتى يفرغ أبي من الصلاة وكانت الساحات مليئة بالمصلين كعادتها في شهر رمضان، فلمّا خرج أبي من المسجد القبلي سلّمت عليه ووقفنا قليلا ثم همّ بالذهاب فقال لي جملة لا أنساها: قال أنظر من حولك كم من المصلين أمعقول أنك أكثر عقلا من هؤلاء؟ أمعقول أن هؤلاء مجانين وأنت العاقل؟ فكر في الصلاة…
ولم يمهلني للإجابة فقد التف ومضى وتركني في حيرة دفعتني إلى الصلاة بعد وقت ليس بطويل.
الموقف الثالث: كنّا نسافر إلى الناصرة ولم تكن هناك مواصلات من القرية فأخذني والدي معه حيث كان علينا أن نمشي حتى كفر مندا ثم نستقل سيارة أجرة إلى الناصرة، من هناك في الطريق كان أبي يسعل كثيرا، فقد كان وقتها مدخنا وبعد عدة سعلات التفت إلي وقال: أتعرف لماذا أسعل؟ حقيقة كنت أعرف الجواب رغم صغر سني ولكني خجلت أن أقول له فأخرج علبة السجائر من جيبه وقال لي: بسبب هذا إياك ثم إياك أن تدخن.. والحمد لله حفظت وصيته فحفظتني وكنت أرافق أصدقاء طفولة وكانوا مدخنين من صف السادس وكم أغروني بسيجارة ورغم ذلك ما دخنت أبدا.
تميز والدي بالدقة وحساب كل شيء بيده كما يقولون ولا يعتمد على حساب الآخرين ومن المفارقات أننا عندما أردنا تبليط أحد بيوت الأخوة قام الوالد رحمه الله بقياس البلاط بالمتر فاكتشف أن البلاط ينقص نصف متر عن الطول المقرر له فأخذ البلاط وراجع صاحب المحل وكان صاحب المحل تاجرا كبيرا فقال له: لم أعلم ولم انتبه لهذا الشيء أبدا لقد لفت نظري إلى شيء مهم بالنسبة لي لأني اشتري آلاف الأمتار شهريا.
ولا بد أن أذكر أن أبي رغم شدة مرضه لا أذكره إلا مبتسما حتى في أشد مراحل المرض وكما علمت بعد وفاته أنه كان يوصيهم ويقول لهم: “لا أريد لزاهر أن يعرف بمرضي” كان يزورني وكنت أثقل عليه بطلباتي خصوصا طلباتي بإحضار بعض الكتب لي، ولكنه كان يقول لي: “أطلب أي شيء والله لو كان ما تطلبه على القمر لأحضرته لك”.
رحل قبل أن أقول له أنه كان بالنسبة لي هو القمر:
رحلت يا أغلى الرجال فليلنا وأضواء القناديل تسهر

برّ الوالدة
– ما هي خططك المستقبلية بعد الحرية؟
زاهر علي: فيما مضى كانت مؤسسة (يوسف الصدّيق) الصدّيق التي تم حظرها تقوم برعاية وتأهيل الأسرى المحررين، للأسف اليوم نرى خطابات كثيرة ومنمقة وكلماتها مختارة بعناية فائقة يوم تحرر الأسير ونرى التقاطا للصور ثم بعد ذلك يلتفت الأسير فلا يرى جمعية أو إطارا يحتويه، وعليه أن يشق حياته من جديد بمعول من الصبر والجلد وحيدا، وهذا مرهق جدا للأسير خصوصا الذي قضى سنوات طويلة… بالرغم من ذلك الحياة يجب أن تستمر والثقة بالله باقية والحمد لله ولغاية الآن ليس هناك مشروع محدد او اتجاه معين، طبعا ما أفكر فيه الآن هو بر والدتي التي صبرت كثيرا وتحملت عناء لا تحمله الجبال كشأن أمهات الأسرى وأيضا أخوتي وأخواتي وبعض الأصدقاء وقفوا بجانبي ولهم حق عليّ وواجب عليّ إكرامهم.

الأقبية الموحشة وأزمة الأسرى
– أوضاع السجون والأسرى؟
زاهر علي: أولا لا أنسى إخواني الأسرى في الممرات البعيدة والزنازين الضيقة التي هي أوطان الأسرى وملاجئهم الاضطرارية حيث الأقبية الموحشة… كل هذا اختصره بتعبير “المضيق الزماني والمكاني والنفسي” هذا المضيق بأبعاده كلها كان شاهدا على عقد أخوّة صادقة، وموقعا على ميثاق الصحبة الأبدية تصافحت فيه قلوبنا وعيوننا وأيدينا كانت لغتنا واحدة تقول: نعم الصحبة لا نقيل ولا نستقيل..
قصة الأسرى كقصة نبي الله يوسف عليه السلام لأنها قطعة من تاريخ الأحياء وليس رواية من وضع البشر هي قصة واقع أعظم من كل خيال. بيع يوسف عليه السلام سليل الأنبياء عبدا رقيقا وكان الذين باعوه زاهدين في استبقائه كأنه حمل ثقيل.. ملك كريم يباع على أنه سلعة كريهة ومن قبل ألقاه أخوة له في قعر الجبّ.. مساكين أولئك ظنوا أن الغياب السحيق سوف يودي بصاحب الجب.. فلبث في السجن بضع سنين ليخرج ليكلمه الملك ليكون مكينا أمينا عزيزا كمساكين أمس هم مساكين اليوم الذين يظنون أن الغياب السحيق للأسرى سوف يغيبهم عن خارطة الذاكرة ولم يدر في خلدهم أن الفضاءات المطلقة تبدأ من الزنازين الضيقة وأنه هناك تصنع الحياة ويعاد ترتيب مكوناتها، هناك يتهجأ الإنسان حرف ولادته من جديد وساعة العسرة في جب يوسف كساعات العسرة في جوف الزنازين، هي طريق إلى القمة بما أعجب أقدار الله وتصاريف الليالي!!
إذن قضية الأسرى هي قضية مقدسة لأنها تحمل في طياتها فكرة ورؤية وحلم نبيل والحديث عن القضية المجردة يختلف ويجب أن يختلف عن الحديث عن واقع السجون..
الحديث عن أوضاع السجون اليوم هو حديث مؤلم وخصوصا أن الحركة الأسيرة تمر بمرحلة من أعقد مراحل الحركة الأسيرة.. بعيدا عن التفاصيل الكثيرة الحركة الأسيرة، برأيي، تعيش بأزمة حقيقية والحركة الأسيرة بانهيار قيمي كبير هذا الانهيار يختلف حجمه من فصيل إلى آخر وتتفاوت درجة الانهيار حتى بين سجن وآخر لكن إذا تكلمنا عن الحركة الأسيرة كمجموع نحن بحاجة إلى جهد كبير لإخراج الحركة الأسيرة من أزمة “الاختناق” التي تمر بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى