أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (25)..الذيــــن قالــــوا “لا”! (4)

حامد اغبارية
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
الإخوان المسلمون-الإمام الشهيد والمفكر الشهيد والرئيس الشهيد
منذ اللحظة الأولى التي تأسست فيها جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928 على يد الإمام الشهيد حسن البنا، كان التنظيم الذي لم تنبُت براعمُه بعدُ ولم تمتد جذوره بعدُ، يعلن عمليا أنه يقول “لا”! كانت هذه “لا” للواقع الذي فرضته القوى التي طنت أنها نجحت في إنهاء الإسلام.
كان مجرد تأسيس الجماعة عبارة عن رفض للمتغيرات التي نزلت بالأمة بمؤامرة إسقاط الخلافة الإسلامية، ورفضٍ لعلمنة المجتمع المسلم، وكأن الجماعة أرادت أن تقول: إنْ كانت المؤامرة الكونية على الخلافة الإسلامية قد نجحت (مرحليا) فإن الإسلام حيّ ولا يمكن إسقاطه. هو حي في قلوب كل فرد مسلم في بلاد المسلمين، وهو حيٌّ في الضمائر وفي النفوس، ولا يمكن لقوة أرضية، مهما ملكت من أسباب القوة، أن تنتزعه أو تجتثّه. وإن نجحت لفترة في إبعاده عن حياة المجتمع فإنها لا يمكن أن تبعد الناس عنه، ولا يزال في الأمة من هيأهم الله تعالى لإحياء الدين في نفوس الأفراد، وفي حياة الأسرة وفي سيرورة المجتمع.
بتأسيسها في مرحلة مفصلية حرجة جدا من تاريخ هذه الأمة، كانت جماعة الإخوان المسلمين تقول “لا” لأعداء الأمة الذين تآمروا عليها، وتقول “لا” لمشروع التغريب والتهجين وإفساد حياة الناس، وتقول “لا” لرأس الحربة في هذا المشروع الذي تمثل بالاحتلال الانجليزي لمصر، ثم بعد ذلك الاحتلال لأراضي المسلمين في المنطقة من سائر دول أوروبا، ثم التأسيس للمشروع الصهيوني في فلسطين.
لم تكتف جماعة الإخوان منذ البداية بمجرد قول “لا” تنظيرا، بل مارست المقولة على أرض الواقع، فقاومت الاحتلال الانجليزي، ورفض كل إغراءاته الخبيثة وقدمت من أبنائها الشهداء والجرحى والمعتقلين والمنفيين والمطاردين، ثم قاومت سياسات العهد الملكي وحكوماته وخضوعها للمحتل الانجليزي، كما قاومت المشروع الصهيوني بدماء أبنائها. وفي ذات الوقت عملت على الحفاظ على إسلامية المجتمع المصري، في مواجهة حملة التغريب والعلمنة التي قادها الغرب موظفا أمواله وقوة بطشه وإغراءاته لحفنة من المتخاذلين من أبناء مصر، الذين قبلوا على أنفسهم بيع ضمائرهم مقابل مجد زائف زائل، فساهموا في مشروع تخريب المجتمعات الإسلامية من خلال أفكار تغريبية هدّامة أطلقوها عن طريق مؤلفات في الأدب والفن والسياسة والفكر، وعن طريق صالونات أطلقوا عليها “صالونات ثقافية”، لكنها كانت في حقيقة الأمر صالونات إفساد لعقيدة الناس وتمكين لغزو المجتمعات فكريا وثقافيا. وهو مشروع قامت على رعايته الأنظمة الوظيفية التي زرعها الاستعمار في بلاد العرب والمسلمين.
لست هنا بصدد التفصيل التاريخي لمواقف جماعة الإخوان المسلمين على مدار سنوات وجودها الممتدة إلى هذه اللحظة. فهذا صُنِّفت فيه مئات الكتب والمجلدات. لكنها سطور للتذكير بتلك المواقف الشريفة التي سطرتها الجماعة منذ تأسيسها، والتي كانت كلها تقول “لا” للنظام العالمي، و “لا” للصهيونية، و “لا” للماسونية، و “لا” للتغريب وإفساد عقيدة الناس، و “لا” لاحتلال أرض المسلمين مهما كان شكل هذا الاحتلال:
اغتيال الإمام: وكان ذلك يوم 12 شباط 1949، بعد أن كانت حكومة النقراشي قد أصدرت قرار بحل الجماعة، تبعه اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، ثم حملة اعتقالات طالت جميع قيادات الجماعة وكواردها، ليجد الإمام حسن البنا نفسه وحيدا. وليتضح أن الخطة كانت تقضي بفض القيادات من حول الإمام ليتسنى تنفيذ اغتياله بسهولة. وكان الإمام رحمه الله قد أدرك المؤامرة عندما طالب باعتقاله شخصيا ولكنهم رفضوا. ومما لا نشك فيه أن مؤامرة اغتيال الإمام قد نسجت خيوطها في دهاليز الاحتلال الانجليزي، وكانت اليد التي نفذت مصرية.
إعدام سيد قطب: لم تتوقف جماعة الإخوان المسلمين في العهد الجمهوري، بعد انقلاب 1952 الذي قاده “الضباط الأحرار، عن قول “لا”، رغم بطش العسكر الذي فاق أضعاف البطش في العهد الملكي. وقد واجهت الجماعة العديد من المحن في عهد عبد الناصر طوال فترة حكمه، ومن أشدها وطأة محنة 1954 التي أعقبت ما يسمى بـ “حادثة المنشية” التي اتهم فيها عبد الناصر الجماعة بمحاولة اغتياله أثناء إلقائه خطاب ما يسمى “اتفاقية الجلاء”، ليتضح لاحقا أن الحادث استُغلّ بهدف توفير مبرر للانقضاض على الجماعة سعيا إلى التخلص منها ومحاولة اجتثاثها، وذلك جراء تأثيرهم الكبير على المجتمع وعلى مجريات الأمور السياسية، وجراء رفضهم السير في الطريق الذي اختطه عبد الناصر، وهو الطريق الذي أدى إلى اختطاف القطر المصري لغاية اليوم. وقد أعدم عبد الناصر ستة من قيادات الإخوان بحجة مسؤوليتهم عن محاولة الاغتيال، وهم عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي ويوسف طلعت والمحامي إبراهيم الطيب والمحامي هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف. وكان ذلك في السابع من كانون الأول 1954، هذا إضافة إلى الذين قتلوا تحت التعذيب. ثم قرر عبد الناصر حظر الجماعة. وكان السبب الحقيقي وراء هذه الحملة الدموية التي شنها عبد الناصر ضد الجماعة هو خروج شباب الإخوان في مظاهرة أما قصر عابدين مهنئين للواء محمد نجيب بعودته إلى الرئاسة بعد أن كان قد خرج منها بسبب خلافه مع قيادات الضباط الأحرار. وكان الصراع بين عبد الناصر ونجيب في أوجه. وقد تمكن عبد الناصر من استبعاد نجيب نهائيا والتخلص منه بحبس منزلي استمر فيه حتى وفاته. وفي 1966 كانت المحنة الثانية التي جاءت أشد وقعا وأكثر بطشا، والتي أعدم فيها عبد الناصر الشهيد سيد قطب وأعدم معه الشهيدين يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل، وذلك في 29 آب من تلك السنة. وفي ذات السنة اعتقلت مخابرات عبد الناصر وأجهزته الأمنية الآلاف من أبناء الجماعة الذين تعرضوا لشتى أنواع التعذيب والاعتداءات الجسدية والجنسية بوحشية غير مسبوقة وقد مات عدد منهم تحت التعذيب. وكل ذلك لأن الجماعة قالت “لا” لمشروع عبد الناصر ولكل ما مارسه النظام العسكري بحق الشعب المصري وبحق قضايا الأمة.
في عهد مبارك: تراوحت المراغمة بين نظام مبارك، الذي امتد ثلاثة عقود، وبين جماعة الإخوان المسلمين ما بين القبول بهم كجماعة دينية ومنعهم من تشكيل حزب سياسي لأسباب واضحة أهمها أن دخولهم المعترك السياسي من خلال حزب رسمي سيطيح بالنظام وينقل الدفة إلى أيدي الجماعة، ثم مرحلة إخراجهم عن القانون واعتبارهم جماعة محظورة، وصولا إلى فترة الربيع العربي عام 2011 التي أطاحت بمبارك، لكنها لم تطح بنظامه القديم المعروف بالدولة العميقة.
اغتيال الرئيس مرسي: وقد كانت مؤامرة اغتيال الرئيس محمد مرسي في محبسه مؤشرا على أن استراتيجية التخلص من جماعة الإخوان المسلمين لم تتغير منذ العهد الملكي مرورا بعبد الناصر ثم السادات ثم مبارك، وانتهاء بعصابة السيسي العسكرية المدعومة من أنظمة عربية تقف على رأسها السعودية والإمارات ومن قوى عالمية تقف على رأسها الولايات المتحدة.
كان الرئيس مرسي رحمه الله قد عبّر عن مقولة “لا” التي أطلقتها الجماعة منذ تأسيسها، في كل لحظة من لحظات العام الوحيد الذي أشغل فيه منصب رئيس الجمهورية كأول رئيس منتخب في تاريخ البلاد. ولم تكن هذه الـ “لا” مسألة يمكن أن يمر عليها الذين تآمروا على ثورة الشعب المصري ثم على جماعة الإخوان ثم على الرئيس مرسي وحكومته، مر الكرام. فقد اتضحت الصورة من اللحظة الأولى التي تسلم فيها الرئيس الشهيد الحكم بعد أدائه القسم، حين رفض زيارة البيت الأبيض في أول زيارة خارجية له، كما اعتاد من سبقوه، وكما هو معمول به في حظائر الأنظمة العربية التابعة للسيد الأمريكي. واختار تحديدا أن تكون أول زيارة له إلى السعودية في إشارة إلى تغيير اتجاه البوصلة. ولم يكن التعبير بـ “لا” في هذه الخطوة فقط، بل في جميع الخطوات التي اتخذها الرئيس الشهيد، الذي رفض التبعية للمعسكرات الدولية، ورفض الرضوخ لكل الضغوط التي مورست عليه من الأطراف الدولية والعربية ومن أطراف داخلية سواء من المجلس العسكري أو من الدمى السياسية المسماة بالأحزاب العلمانية التي شاركت هي الأخرى في التآمر على إسقاطه. فكانت تلك السنة التي أقام فيها في الحكم مفصلية من حيث اتخاذ القرار الدولي: إما تركه يواصل الحكم 4 سنوات، فيحقق ما يريد أو بعض ما يريد، وهذا سيكون مؤشرا لبدء مرحلة جديدة لانعتاق الشعوب العربية والإسلامية من التبعية، وإما التخلص منه بانقلاب عسكري جرى الإعداد له منذ انطلاق شرارة الثورة في ميادين مصر.
وكانت مواقف الرئيس (ومن ورائه الجماعة وسائر شرفاء الشعب المصري) الداعمة لغزة المحاصرة في مواجهة غير مسبوقة وغير معهودة مع الاحتلال الإسرائيلي، ثم موقفه من الثورة السورية، ثم إعلانه ضرورة التحرر من التبعية من خلال تصريحاته المتكررة عن ضرورة إنتاج الغذاء والدواء والسلاح بإمكانيات مصرية خالصة، قد حملت إشارات مرعبة لأعداء الأمة إلى ما هو قادم فيما لو استمر في الحكم. كل هذا كان له ذلك التأثير الهائل الذي قاد إلى تحالف قوى الغرب والصهيونية وقيادات العسكر في القاهرة وأنظمة عربية للإطاحة بحكم الرئيس في انقلاب عسكري دموي، ثم اختطافه وسجنه ومحاكمته في ملفات مفبركة، ثم التسبب في وفاته في مؤامرة لم تنته فصولها بعد.
“تنظيم إرهابي”: سعت كل تلك القوى إلى استبعاد جماعة الإخوان عن المشهد ليس فقط سياسيا، بل جسديا من خلال الاعتقال والمطاردة والقتل. ولا يزال مشهد مجازر العسكر في ميداني رابعة والنهضة يحكي قصة تلك الجماعة التي استُهدفت منذ تأسيسها حتى هذه اللحظات، لأنها قالت “لا” لكل الذين أرادوا اختطاف الأمة، وقالت “لا” لمشروع التغريب والعلمنة وإفساد حياة الناس في المجتمعات الإسلامية، وقلت “لا” لحكم العسكر، و “لا” للتبعية لغرب أو لشرق. ويوم أن خرجت إلى الميادين رافضة للانقلاب العسكري، فإنما كانت تعبر عن رفضها لتلك المؤامرة الكونية ليس على الجماعة وحسب، وإنما على إرادة الشعب المصري وإرادة سائر الشعوب العربية المتعطشة إلى الحرية والعيش بكرامة، وأكثر من ذلك؛ المتعطشة إلى حكم عادل لا يمكن لحُكم أن يحققه إلا الإسلام. ولهذا كانت إحدى المراحل المفصلية في تاريخ الجماعة اعتبارها تنظيما إرهابيا لدى العديد من دول العالم، بما فيها دول عربية كان لتنظيم الإخوان الفضل الكبير عليها وعلى شعوبها عبر ما يزيد على ثمانية عقود.
لقد أصيبت الأنظمة العربية بالرعب بنفس المستوى والقوة الذي أصيب به المشروع الصهيوني، وبنفس القوة التي أصيبت بها أمريكا وأوروبا وسائر القوى العظمى في الشرق والغرب من مجرد التفكير بنجاح التجربة الإسلامية في الحكم. فقد حملت ثورات الربيع العربي دلالات مهمة وكثيرة، أهمها أن الشعوب العربية تميل، بغالبيتها، إلى هويتها الإسلامية، وهي تمثل القوة الشعبية الداعمة لأية قوة إسلامية يمكنها أن تتصدى للمشهد السياسي، وتُحدث التغيير الذي تنشده تلك الشعوب التي سعت وتسعى إلى التحرر والانعتاق من أنظمة جبرية باطشة دموية، ومن تبعية لقوى دولية ضربت عليها قيودا وأغلالا ثقيلة.
من أجل ذلك جاء الانقضاض على جماعة الإخوان، كونها تشكل رأس الحربة والصخرة الصلبة للمشروع الأصيل الذي أطلق مقولة “لا” في وجه المؤامرة على الأمة.
لم تنته المواجهة بعدُ، بل ما يحدث الآن هو فصل من فصولها، وربما كان الفصل قبل الأخير، الذي سيكون هو القول الفصل في المسألة كلها. وإنّ ما حدث حتى الآن هو جزء من قدر الله. ومما لا شك فيه أن المشروع الذي قال “لا” طوال تسعة عقود، لا يمكن أن يتراجع مهما كانت المحنة، بل ستكون يده هي العليا، بقدر من الله ووعد منه. فانتظروا إنا منتظرون.
ملاحظة: إن الحديث عن الجماعة في مصر ينسحب أيضا على كل أماكن وجودها في كل بلد من البلدان العربية والإسلامية. فاستهداف الجماعة عامٌّ وليس مخصوصا لبلد دون بلد، غير أن وجه هذا الاستهداف وطبيعته ودرجات حدته تختلف من بلد إلى آخر. ولعلّ أحدث هذه المشاهد ما حدث في الأردن قبل يومين حين قررت محكمة أردنية “حل” جماعة الإخوان بحجة عدم ترتيب أوضاعها القانونية!! في حين أن السبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في استبعاد الجماعة عن الساحة السياسية، وتمكين ما يسمى “جمعية الإخوان المسلمين” التي انشقت عن الجماعة عام 2015، ليكون ذلك حلقة أخرى من حلقات ملاحقة جماعة الإخوان في كل مكان. فهذه جولة من جولات المراغمة ومعركة الإرادات بين الجماعة وبين الأنظمة الجبرية التابعة. (يتبع).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى