ربح رمضان وخسر رمضان
1- ربح رمضان من صامه إيمانا واحتسابا، ملتزما بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وخسر رمضان، من انتهك حرمته، فأكل وشرب عامدا متعمدا في نهاره بلا عذر شرعي ملتزما بشهواته، التي لا تزال تسوقه ولا يسوقها، وقد تورده موارد الهلكة إلا أن يستيقظ من رقدته.
2- ربح رمضان من امتنع عن الطعام والشراب من طلوع فجر كل يوم في رمضان حتى غروب شمسه، ومنع لسانه في الوقت نفسه عن الإيذاء، فلم يسابّ أحدا، ولم يشتمه، ولم يغتب، ولم يمشِ في نميمة، ولم يسخر، ولم يستهزئ، ولم يأكل عرض أحد، وخسر رمضان من سبَّ هذا بلسانه أو شتم هذا أو أكل عرض هذا، حتى لو إمتنع عن الطعام والشراب منذ طلوع كل فجر في رمضان حتى غروب شمسه، حيث ما عاد له من صومه إلا الجوع والعطش.
3- ربح رمضان من صان عينيه في رمضان عن أن تنظر إلى ما حرم الله تعالى، فصامت عيناه عن معصية الله تعالى في الوقت الذي صامت فيه معدته عن الطعام والشراب، وفي الوقت الذي صام فيه لسانهُ عن أذيّة الآخرين، وخسر رمضان من ألقى حبل عينيه على غاربه فتتبعت عورات الناس وطاردت أعراضهم، وتلصصت على محارم بيتهم، وتاهت بين عشرات المسلسلات الساقطة التي ما أنتجها أهلها إلا ليفرغوا الصوم من محتواه ويبقوه شبحا شاحبا، كأنه جسد بلا روح، فأي قيمة صوم لصاحب هذه العين المتمردة على أمر الله تعالى ونهيه إلا الجوع والعطش.
4- ربح رمضان من نأى بأذنيه عن تلقي أية إشاعة رخيصة تافهة، ونأى بها عن الإصغاء للهو القيل والقال وكثرة السؤال وهرطقة الجدال وهكذا صامت أذناه عن معصية الله تعالى في وحدة حال مع صوم معدته وصوم لسانه وصوم عينيه، وخسر رمضان من تفلتت أذناه عليه، وصارت في كل واد تهيم، وبات لا يطربها ترتيل القرآن، ولا ذكر الله تعالى، ولا دعاء المضطر، بل بات يطربها ثرثرة السفهاء، ولقلقة الغافلين وضجيج المترفين وزعيق اللامبالين، فليت شعري أية كرامة صوم لصاحب هاتين الأذنين الجانحتين إلا خواء المعدة وجفاف الحلق وابيضاض اللسان، وكم أصبح حال صاحب هاتين الأذنين كحال تاجر القمح الخاسر الذي دخل إلى بيدر القمح إلا أنه حرص على جمع التبن في أكياس منفوشة كأنها التلال وغفل عن جمع القمح حتى سبقه النمل ولم يبق له على حبة قمح واحدة.
5- ربح رمضان من صامت معدته عن الطعام والشراب، ومن صام فرجه عن المعاشرة، ومن صامت جوارحه عن معصية الله تعالى، ومن صام قلبه عن الدنيا وما عاد لقلبه أي حبل وصال معها، وبات يخاطبها ساخرا منها: يا دنيا، يا دنيا، غُرِّي غيري، لقد طلقتك ثلاثا، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وزادك قليل، وخسر رمضان من صامت معدته وفرجه كما ينبغي، ولكن جوارحه أفطرت على ما حرّم الله تعالى، وأما قلبه فقد مال إلى الدنيا وإلى مناصبها وزعامتها وكراسيها، وبات منها كأنه قيس وهي ليلى، فأية ثمرة صوم لصاحب هذا القلب المراهق الذي يفزع فزع الملهوف لكل هيعة دنيوية، ولا يُرى إلا متقلباً بين أودية غفلتها وأسواق لهوها، ما بين سوق شهره وسوق شهوة، وما بين سوق زعامة وسوق ندامة، وما بين سوق سمعة وسوق بدعة، فما أتعس هذا الصائم صاحب هذا القلب المراهق حتى لو أظمأ نهاره وبات في عداد الصائمين ظاهرا، ويّ كأنه صدفة بلا لؤلؤة، وما قيمة الصدفة بلا لؤلؤة.
6- ربح رمضان من عزّز صوم معدته وفرجه وجوارحه وقلبه بصوم سٍرٍّه عن إبتغاء غير الله تعالى، إذا قال أو سكت، وإذا عمل أو توقف، وإذا نام أو قام، وإذا سافر أو ألقى عصا الترحال، وإذا سأل أو أجاب، وإذا نصح أو إنتقد أو قَيَّم أو صَوَّب، فهو كما قال الأمام الجنيد في بداية فتوته هو صاحب سر بالله ولله وإلى الله، فما أغناه حتى لو لم يملك درهما ولا دينارا، وما أقواه حتى لو تقوَّس حاجباه وإحدودب ظهره وإشتعل رأسه شيبا، وما أعلمه وهو الذي نال علم الخشية الذي هو من علم خصوص الخصوص، وإلا هل يغني حفظ العلم غيبا عن ضرورة التحقق به، وهل يغني حفظ النصوص عن ضرورة السير بها، وهل يغني ضبط المتون عن ضرورة العمل والتأدب بها، وفي المقابل خسر رمضان من صامت معدته وفرجه وانقلب سُرُّه عليه، وما عاد يتخيَّل وهو صائم إلا صورة الدجاجة المحشوة على مائدة الإفطار وكيف يبعجها، أو صورة القطايف كيف يطحنها أو صورة الكنافة كيف ينسفها، ونسي المسكين أن من الصائمين من قد يفطر بعد الغروب على خشن الطعام، ولكن في فرحة لو عرفها الملوك وأبناء الملوك لقاتلوه عليها بحد السيوف!!
7- ربح رمضان من ضنَّ بنهار رمضان وليل رمضان عن بذله في توافه الأمور وسقط المشاغل وسفاسف الاهتمامات فبات يتقلب في نهاره الرمضانيّ وليله الرمضاني بين طاعة وطاعة، فقد يكون يرتل القرآن، فينتقل ويذكر الله تعالى، ثم قد ينتقل ويدعو الله تعالى، ثم قد ينتقل ويقرأ في كتب علم، ثم قد ينتقل ويكتب إحقاقا للحق وإزهاقا للباطل، وبين ذاك وذاك قد يصل رحما وقد يعود مريضا وقد يشيع جنازة وقد يخرج زكاة ماله أو صدقة فطره، وقد يصلح بين متدابرين وقد يغيث ملهوفا وقد يمسح على رأس يتيم وقد يعين على نوائب الدهر وقد يتواصل مع أرضه ومقدساته، وقد ينام وما دام على هذا الحال فنومه عبادة، وخسر رمضان من زهد بوقته وبات ثمن وقته وفق حساباته دون التراب، فبات يستيقظ قبيل غروب الشمس بقليل، ثم ينقر صلاته نقر الديك، ثم يفطر إفطار من يريد أن ينتقم من الطعام أو الشراب ومختلف أصناف الحلويات، ثم يواصل التجوال بين عشرات القنوات مشدودا كبرادة الحديد إلى المغنطيس إلى كل مسلسل خليع، حتى يدرك جولة السحور فيتسحر سحور من يواصل الانتقام من الطعام والشراب ومختلف أصناف الحلويات، ثم قد يغلبه النوم وينام قبل أن يصلي الفجر، وقد يدفعه بقية إيمانه أن يصلي الفجر على عجالة، ثم يغرق في نومه، حتى قبيل موعد الإفطار بقليل، وكأن الشمس باتت تشرق في الليل لا في النهار، وكأنها باتت دافع نوم لا دافع يقظة، ودافع كسل لا دافع عمل، ودافع جمود لا دافع إنتاج، ونسي هذا المسكين الصائم أن الأمة المسلمة الصائمة قهرت الظلم في رمضان، وحررت العباد في رمضان وطهرّت البلاد في رمضان، ونشرت عدالة الإسلام في رمضان، وصنعت أمجاد بدر وفتح مكة واليرموك وفتح الأندلس وحطين في رمضان.
8- ربح رمضان من ضاعف صومه فيه الاهتمام بأمر المسلمين أكثر، فبات جوعه وعطشه يذكرانه بجوع وعطش ملايين المظلومين من فلسطين ومصر وسوريا وليبيا والعراق واليمن والسعودية وأفغانستان والروهانغا والصين وأفريقيا الوسطى والصومال الذين باتوا ما بين أرملة وأيتام، وما بين أسير ولاجئ ومطارد، وما بين شهيد وجريح ومفقود، وما بين غريب في وطنه وغريب في مخيمات الشتات، وخسر رمضان وإن صام وصلى في رمضان من لا يزال يسبّح باسم الطواغيت المسلمين والعرب الذين لا يزالون يسومون شعوبهم سوء العذاب، وكما أن الظلمة والنور لا يلتقيان، وكما أن النفاق والإخلاص لا يجتمعان، وكما أن الحق والباطل لا يتآخيان، فإما نور أو ظلمة، وإما إخلاص أو نفاق، وإما حق أو باطل، كذلك لا يمكن لبركة الصوم أن تعمر قلب صائم يلهج مادحا أو مدافعا عن الطاغية السيسي أو الطاغية حفتر أو الطاغية محمد بن زايد أو الطاغية بشار الأسد أو الطاغية محمد بن سلمان أو غيرهم من سائر الطواغيت، ومتى أتى الطاغوت بخير حتى تميل قلوب بعض الصائمين إليه، ومتى جنينا من الشوك العنب ومتى ارتوينا بعد ظمأ شديد من سراب الصحراء، ومتى صفقنا للذئب كي يحرس الغنم، فكم هو مسكين الذي يصوم طوال نهاره ثم يفطر على مديح أحد هؤلاء الطواغيت والدفاع عنه، وهل حاله إلا كمن يريد أن يصلي على سجادة من جلد خنزير، أو من يريد أن يصوم ويفطر على كأس خمر، أو من يريد أن يزكيّ ماله الذي جمعه من تجارة المخدرات والقروض الفاحشة، أو من يريد ان يحج البيت ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام، فيا ليتنا نعلم أن الصوم مظهر وجوهر، وما أيسر العمل بمظهره لأنه يقف عند حد صوم المعدة والفرج، وأما جوهره فما أثقله وما أصعبه وما أثمنه، لأن العمل بجوهر الصوم يعني صوم اللسان والعينين والأذنين والقلب والسر وصيانة الوقت عن التوافه ودوام الاهتمام بأمر المسلمين. هذا هو الطريق فأين السائرون.



