تطابق الاستراتيجية الصليبية والصهيونية للسيطرة على القدس والمسجد الأقصى
د. أنس سليمان أحمد
لا بد من التأكيد أن الذي وقف من وراء الحركة الصليبية هو البابا أوربان الثاني إلى جانب بطرس الناسك ومجموعة من الرهبان الذين طافوا أوروبا وحرّضوا الناس فيها على الالتحاق بالحملات الصليبية، وفي المقابل إن الذي وقف أساسا من وراء الحركة الصهيونية قبل أن تعلن نفسها هو “موشي هيس” وكان له تلميذان، الأول كان يُدعى تيودور هرتسل والثاني كان يُدعى كارل مردخاي ماركس، ويوم أن بدأ البابا أوربان الثاني بالتأسيس للحركة الصليبية راح يدّعي أمام أهل أوروبا أنهم “شعب الله المحبوب المختار” وأنهم ملزمون بإنقاذ أرض فلسطين وأورشاليم وقبر المسيح من أرض البرابرة المسلمين، وفي المقابل عندما بدأت القيادة الصهيونية بمرحلة التأسيس للحركة الصهيونية راحت تدّعي أنها صاحبة الوعد الإلاهي والحق التاريخي في أرض فلسطين وأورشاليم والهيكل (وهو الاسم الباطل الذي أطلقته الحركة الصهيونية على المسجد الأقصى)، ثم راحت الحركة الصهيونية تردد مقولتها: “لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل”، وإن الناظر في العمق إلى الاستراتيجية الصليبية بغية فرض الهيمنة على فلسطين والقدس والمسجد الأقصى يجد أنها هي الاستراتيجية ذاتها التي تبنتها الحركة الصهيونية بغية فرض الهيمنة على فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، وكأن الحركة الصهيونية تبّنت خلاصة التجربة الصليبية وحرصت على تطبيقها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وتوضيحا لذلك أسجل ما يلي:
حرصت الحركة الصليبية على تفكيك ظاهرة الكثافة السكانية الإسلامية بتبني سياسة التقتيل أو التهجير من المناطق التي احتلتها أو الإبقاء على العناصر السكانية التي تخدم مصالحها وفق نسبة حددتها سلفا، وهذا ما سارت عليه الحركة الصهيونية إذ أوقعت المجازر على الشعب الفلسطيني، وهجّرت ما تبقى منه على قيد الحياة، وأبقت على القليل منه حتى يكونوا بمثابة حطّابين وسقاة مياه وفق إحدى مقولات “موشي ديّان” أحد قيادات الحركة الصهيونية والمشروع الصهيوني.
حرصت الحركة الصليبية على تفريغ أكبر مساحة من أرض فلسطين من أهلها واستقطبت في نفس الوقت مهاجرين من الغرب الأوروبي أو مناطق أرمينيا وأسكنتهم في هذه الأراضي المفرغة من سكانها الأصليين، وهذا ما سارت عليه الحركة الصهيونية حيث قامت بتفريغ أكثر من خمسمائة مدينة وقرية فلسطينية من أهلها، وأسكنت بدلاً منهم المهاجرين اليهود الذين أطلقت عليهم إسم “القادمين الجدد” ولا تزال الحركة الصهيونية تتبنى سياسة استقطاب أكثر عدد من يهود العالم وإسكانهم في شتى أرض فلسطين التاريخية حتى الآن، بل أقامت وزارة حكومية أطلقت عليها وزارة الاستيعاب بغية مواصلة القيام بمهمة استقطاب يهود العالم ودفعهم للهجرة إلى أرض فلسطين التاريخية.
في الوقت الذي حرصت فيه الحركة الصليبية على ألا تزيد نسبة من أبقتهم من أهل فلسطين في أرضهم حتى تبقى الغالبية الصارخة هي غالبية سكانية صليبية، كذلك لا تزال الحركة الصهيونية تحرص على ألا تزيد نسبة الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني عن 20% حتى تبقى الغالبية الصارخة هي غالبية سكانية يهودية.
تبنت الحركة الصليبية سياسة (التبشير) بين المسلمين بغية تغيير دينهم وهويتهم ودمجهم كليا مع المجتمع الصليبي الوافد عليهم، كذلك تبنت الحركة الصهيونية سياسة “الأسرلة” بغية تغيير هوية الفلسطينيين ودمجهم كليا مع المجتمع الإسرائيلي اليهودي.
حرصت الحركة الصليبية على إبقاء المحيط الإسلامي من حولها مشتتا بقدر الإمكان، كي تضمن لنفسها استمرار البقاء وهي محاصرة بهذا المحيط الإسلامي، ومن أجل تحقيق هذا الهدف فقد سعت إلى تعطيل الاتصال بين العراق وبلاد الشام من جهة، وبين مصر وبلاد الشام من جهة ثانية، وبين الأناضول وكل من العراق وبلاد الشام من جهة ثالثة، وبين الجزيرة العربية وكل هذه المواقع الجغرافية من جهة رابعة، وفي الوقت نفسه حرصت الحركة الصليبية على إذكاء نار الصراع وإدامته بين أطراف المحيط الإسلامي سواء كان هذا الصراع عرقياً أو مذهبيا، وإلى جانب ذلك حرصت الحركة الصليبية على التحالف مع بعض أطراف هذا الصراع على حساب الأطراف الأخرى في هذا الصراع الإسلامي- الإسلامي، وهو ما تحرص عليه الحركة الصهيونية بالضبط، فهي لا تزال تسعى حتى الآن إلى تفكيك المحيط الإسلامي والعالم العربي والشعب الفلسطيني بناء على إثارة النعرات العرقية أو المذهبية، ثم لا تزال تسعى إلى الإبقاء على حالة صراع بين أطراف هذه الدوائر الثلاثة الإسلامية والعربية والفلسطينية، بغية إستمرار الصراع الإسلامي – الإسلامي، أو الصراع العربي –العربي، أو الصراع الفلسطيني- الفلسطيني، أو الصراع الإسلامي- العربي، أو الصراع العربي – الفلسطيني، وإن واقع الحال يبيّن لنا أن الحركة الصهيونية لا تزال تسعى إلى إختراق هذه الدوائر الثلاثة الإسلامية والعربية والفلسطينية، والتحالف مع بعض أطراف هذه الصراعات على حساب الأطراف الأخرى كي تضمن الحركة الصهيونية لنفسها استمرار البقاء وسط هذا المحيط الإسلامي العربي الفلسطيني.
ركزّت الحركة الصليبية على احتلال مناطق تؤمن لها دوام الاتصال والتواصل مع مركز انطلاقها في الغرب الأوروبي، ولذلك ركّزت على احتلال سواحل الشام ضماناً لذلك وتجنبت التوغل في العمق الإسلامي حتى لا تجد نفسها محاصرة ذات يوم، وهو ما لا تزال تحرص عليه الحركة الصهيونية حيث ركزّت على احتلال أرض فلسطين التاريخية التي هي جزء أصيل من ساحل الشام وفق مصطلحات الجغرافيا الإسلامية ، وتجنبت التوغل في العمق الإسلامي والعربي توغلاً بشريا بل تبنت سياسة توغل النفوذ الصهيوني في العمق الإسلامي والعربي، وواقع الحال يبين ما أقول بالتفصيل.
لجأت الحركة الصليبية إلى عقد تحالفات عالمية مع أكثر من معسكر على قاعدة العداء المشترك للمحيط الإسلامي، وعلى هذا الأساس عقدت حلفا مع بيزنطة أي الدولة الأرثوذكسية في أوروبا الشرقية، وحلفاً مع بعض المدن الإيطالية التي كانت ذات قوة بحرية أو تجارية، ومع القوى المغولية الصاعدة، وهو ما تحاول أن تستنسخه الحركة الصهيونية اليوم فهي أول من أشاع مصطلح التطرف الإسلامي، ثم أشاعت مصطلح الإسلام الإرهابي، ثم راحت تروج مقولة التحالف العالمي من أجل الحرب على الإرهاب، والمقصود بذلك مواصلة حصار الأمة الإسلامية والعالم العربي والشعبي والفلسطيني، ومواصلة خنقها وإفشال نهوضها وتعطيل نهضتها بادعاء الحرب على الإرهاب .
اعتمدت الحركة الصليبية على الحرب السريعة الخاطفة، هذه الحرب التي لا تحتاج إلى قوات كبيرة، وبنفس القدر يخطط لها أن تختار أهدافاً منتقاة ضمن معايير زمنية محسوبة، لأنها تعلم سلفاً أنها لا تملك النفس الطويل لخوض حروب طويلة قد تستغرق أشهراً أو سنوات مع المحيط الإسلامي، وهو ما حاولت أن تتبناه الحركة الصهيونية خلال مراحل صراعها العسكري، ويشهد على ذلك كل الحروب التي خاضتها بداية أحداث نكبة فلسطين حتى هذه اللحظات.
ركّزت الحركة الصليبية على تبني استراتيجية مفادها أنه لا بد من إخراج مصر من ساحة الصراع بأي شكل من الأشكال، وهو ما حرصت عليه الحركة الصهيونية حيث عقدت إتفاقية كامب- ديفد مع مصر بغية إخراج مصر من ساحة الصراع طوال الوقت.
لجأت الحركة الصليبية إلى سياسة عقد الهدن، وتقديم بعض التنازلات – ولو شكليا- ليعض الأطراف الإسلامية في سبيل التفرغ لقوى إسلامية أخرى، وهو ما حرصت عليه الحركة الصهيونية حتى الآن، حيث عقدت إتفاقية كامب – ديفد ثم إتفاقية أوسلو ثم إتفاقية وادي – عربة، ثم إتفاقية الهدنة مع لبنان بعد حرب لبنان الأخيرة، مع ضرورة عدم الغفلة عن إتفاقية الهدنة مع النظام السوري بعد حرب رمضان (1973م) بغية تحييد كل الجبهات عن نصرة بعضها بعامة، وعن نصرة القضية الفلسطينية بخاصة.
حرصت الحركة الصليبية على مواصلة القيام بحملات عسكرية بغية ضرب المعنويات الإسلامية وإشعارها الدائم بالعجز، وهو ما لا تزال تحرص عليه الحركة الصهيونية، وعلى هذا الأساس وجّهت في الماضي ضربات عسكرية للسودان والعراق ولبنان وسوريا، ثم لا تزال توجهه ضربات للعراق وسوريا.
تبّنت الحركة الصليبية سياسة فَرنجَةِ القدس والسيطرة الكلية على المسجد الأقصى، فكان أن فرضت معالم الحياة الأوروبية على القدس وكان أن حوّلت المصلى المرواني في المسجد الأقصى إلى إسطبل خيول، وحوّلت الجامع القبلي فيه إلى فندق لفرسان أوروبا، وحوّلت قبة الصخرة فيه إلى كنيسة وضعت على أعلى نقطة فيها صليباً ضخماً، وهو ما تحرص عليه الحركة الصهيونية اليوم حيث تبنّت سياسة تهويد القدس وفرض سيادتها الباطلة على المسجد الأقصى.
لا بد من القول أنه مع كل التدابير التي لجأت إليها الحركة الصليبية فقد زالت غير مأسوف عليها، وهو المصير الذي ينتظر الحركة الصهيونية إذ أنها بدأت ترتفع الأصوات الكثيرة الصهيونية التي تحذر من انهيار الحركة الصهيونية كما إنهارت الحركة الصليبية.



