احرصوا على أهل العلم والدعوة والفقه والتربية يا جيل التغيير
صحيفة المدينة
سيكون فيكم يا جيل التغيير السياسيّ المحنك، والخطيب المصقع، والإعلاميّ اللامع، والشاعر البليغ، والاقتصادي الخبير، والمخطط المتقن، والاستراتيجيّ النبيه، وفي الوقت الذي أنتم مطالبون أن توفروا فيه كل هذه الطاقات المبدعة المعطاءة فإنكم مطالبون قبل ذلك وبعده أن تحرصوا على أهل العمل والدعوة والفقه والتربية، فهم ملاذكم بعد الله تعالى من شر الشهوات والشبهات وحصنكم من الفتن، وهم الذين يزهدونكم في الدنيا ويحببون إليكم الآخرة، وهم عيونكم التي تقودكم الى الصراط المستقيم، وآذانكم التي تحبب إليكم سماع النصيحة والنقد الهادف والتوجيه السليم والتقييم الراشد، وهم ألسنتكم التي تقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، وهم قلوبكم التي تكشف لكم عن حال إيمانكم أيزيد أم ينقص، وإلا بدون أهل العلم والدعوة والفقه والتربية، ستختلط عليكم الأمور، وقد تفقدون ميزان الحلال والحرام الذي يبين لكم حقيقة أقوالكم وأعمالكم وسلوككم وموقفكم، وقد تميلون إلى الدنيا وأنتم تظنون أنكم تحسنون صنعا، وقد تحيط بكم أمراض النفس وأنتم غافلون، وقد تتزين لكم الأنانية وحب الذات والتسلط بالموقف والانفراد بالرأي والشح المطاع بثواب طاعة الله تعالى وأنتم لا تشعرون، فحتى لا يتعثر بكم سيركم وحتى لا تتورطون في ورطات مهلكة، وحتى لا تنجرفون إلى مواطن الفشل، وحتى لا تجدون أنفسكم في مواقف ندم لا ينفع فيها الندم عليكم بأهل العلم والدعوة والفقه والتربية، وكم هو مخطئ فيكم من ظن أنه يكفيه للتغيير القدرة على نحت الشعارات وكتابة المقالات وإحياء المناسبات والتحلي ببراعة الخطابة ودهاء المعاملة وكسب المواقف، فإن كل ذلك لن يحدث تغييرا في فرد فضلا عن أن يحدث تغييرا في أمة، ولذلك ليس عبثا أن نجد أن خلفاء المسلمين الصالحين وأمراءهم الراشدين وقياداتهم الفالحة قد حرصوا منذ عهد الخلفاء الراشدين فصاعدا على ضبط كل خطوة في مسيرتهم بتوجيه أهل العلم والدعوة والفقه والتربية. ويمكن أن نقف على آلاف الأمثلة في مسيرة حركة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية وجدلية العلاقة بين الراعي والرعية التي تؤكد ما أقول، وما أجملها من أمثلة، وما أغنى فوائدها، وعلى سبيل المثال:
قال الأحنف بن قيس للخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خلال حوار بينهما: (… فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير، ويجبر الكسير، ويسهّل العسير، ويصفح عن الذحول (أي الثارات)، ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء، ليكشف البلاء ويزيل اللأواء). فهل هناك أصدق من هذه النصيحة، وأطيب من بركاتها، وأربح من تبعاتها. وهل تصدر هذه النصيحة يانعة الثمرات إلا من صدور عَمَرَها العلم والدعوة والفقه والتربية، وهل غياب هذه النصيحة وأخواتها إلا التيه والتفكك.
ولما دخل محمد بن السمّاك على هارون الرشيد قال له من ضمن نصيحة قاطعة ومانعة: (يا أمير المؤمنين! إنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، وإنك لا تقدم إلا على نادم مشغول، ولا تخلف إلا مغبونا مغرورا، وإنك وإيانا في دار سفر، وجيران ظعن) فما أحوجكم يا جيل التغيير إلى من يحرركم من الغفلة عن الآخرة، ويفك قيودكم المعقودة بإحكام مع الدنيا، وأي خير قد يأتي من عابد دنيا غافل عن الآخرة، وإن من لا يستعد للقاء الله تعالى لن يأبه كثيرا إذا كذب أو نافق أو خان أو غدر، أو حقد، أو حسد أو طغى، أو تكبر، وهل النفس التي بين جنبيّ كل منا إلا حرون، وهل لجامها إلا مجاهدتها ومخالفتها حتى تطمئن، وهل يمكن لذلك أن يتحقق إلا بمثل هذه النصيحة من هذا العالم العامل والعابد الزاهد والذاكر الخاشع محمد بن السمّاك رحمه الله تعالى.
ولما حج سليمان بن عبد الملك استحضر أبا حازم فقال له: تكلم يا أبا حازم، فقال: بم أتكلم قال: في الخروج من هذا الأمر، قال: يسيرُ إن أنت فعلته، قال: وما ذاك. قال: لا تأخذ الأشياء إلا بحلِّها، والا تضعها إلا في أهلها، قال : ومن يقوى على ذلك؟ قال: من قلده الله من الأمر ما قلدك. قال: عظني يا أبا حازم، قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر لم يصل إليك إلا بموت من كان قبلك، وهو خارج عنك بمثل ما صار إليك، ثم قال: يا أمير المؤمنين، نزّه ربك في عظمته عن أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك …) فهذا سليمان بن عبد الملك كان أمير المؤمنين فأصغى إلى موعظة أبي حازم حتى النهاية، وقد اقتبسنا منها اليسير، وكان كلما سكت أبو حازم كان سليمان بن عبد الملك يعاجله بسؤال جديد حتى يسمع أكثر ما يمكن من مواعظ أبي حازم، فأحذر يا جيل التغيير إذا ما تقلد أحدكم أمانة المسؤولية أن يستعلي برأيه ولا يصغي إلى الآخرين، لأنه مهما علا منصبه فلن يصل إلى منزلة أمير المؤمنين التي وصل إليها سليمان بن عبد الملك، ومع ذلك كان سليمان بن عبد الملك يتعمّد عقد اللقاءات مع أهل العلم والدعوة والفقه والتربية والإصغاء لمواعظهم.
ودخل عمرو بن عبيد على المنصور فقرأ: (والفجر (1) وليال عشر (2).. حتى بلغ (إن ربك لبالمرصاد (14) – الفجر- لمن فعل مثل فِعالهم، فاتق الله يا أمير المؤمنين، فإن ببابك نيرانا تتأجَّج، لا يُعمل فيها بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، أما والله، لو علم عُمَّالك أنه لا يرضيك منهم إلا العدل.. لتَقَرَّب به إليك من لا يريده. فقال له سليمان بن مجالد: اسكت، فقد غممت أمير المؤمنين، فقال له عمرو: ويلك يا بن مجالد! أما كفاك أنك خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين حتى أردت أن تحول بينه وبين من ينصحه؟! اتق الله يا أمير المؤمنين، فإن هؤلاء قد اتخذوك سلمّاً إلى شهواتهم، فأنت كالماسك بالقرون وغيرك يحلب، وإن هؤلاء لن يغنوا عنك من الله شيئا). فليحذر جيل التغيير من هذه الظاهرة التي كان بطلها سليمان بن مجالد، وهي ظاهرة من قد يلتفون حول جيل التغيير، ولا يسمعونهم إلا ما يرضيهم، ولو على حساب حجب واقع الحال وإن كان مراً عن جيل التغيير، وقديما قالت العرب: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك، والمقصود بذلك أن يحرص العاقل على من يقول له الحقيقة وإن كانت مرّة وإن دفعته أن يبكي لا أن يحرص على من يقول له ما يضحكه على حساب تجهيله بالحقيقة المُرَّة المبكية التي تحيط به، وحديثا دخل إلى اللغة العربية مصطلح (طبقة الإسفنج) وهو مصطلح جديد، ويصف هذا المصطلح حال طبقة من المنتفعين لا تزال تحيط بالرؤساء والملوك والأمراء، وهدفها الوحيد ان تمتص غضب الجماهير كما يمتص الإسفنج الماء، حتى لا يصل غضب الجماهير إلى الرؤساء ولا الملوك والأمراء، وحتى يُحال بين هؤلاء الحكام وصرخات الجماهير الموجوعة، وحتى يظل هؤلاء الحكام يظنون أن (الدنيا بخير) وأن الجماهير راضية عنهم وتكاد أن تسبح باسمهم، وهكذا يبقى هؤلاء الحكام سادرين في غيّهم وغفلتهم حتى تثور الجماهير عليهم، ولذلك فالمطلوب سلفا من جيل التغيير أن يحرصوا دائما على الاستماع لنبض الشارع، وأن يصغوا لكل نصائحه وانتقاداته وإرشاداته، وإلا فإن البديل ستكون القطيعة المهلكة بين جيل التغيير والشارع، وهو الخسران المبين.
ولمّا دخل زياد على عمر بن عبد العزيز قال: يا زياد، ألا ترى ما ابتليت به من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال زياد: يا أمير المؤمنين، والله لو أن شعرة منك نطقت، ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج مما أنت فيه. يا أمير المؤمنين، كيف بك غدا وقد سئلت عن هذه الخلائق أجمع؟! يا أمير المؤمنين، كيف حال رجل له خصم ألد. قال: سيء الحال، قال: فإن كان له خصمان ألدان؟ قال: أسوأ الحالة، قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنيه عيش، قال فوالله، ما من أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا وهو خصمك، فبكى حتى تمنيت ألا أكون قلت له ذلك). فاحرصوا على هذه الدمعة التي فاضت من عينيّ الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما سمع موعظة زياد، إحرصوا على هذه الدمعة التي يوم أن تتحقق فيكم، فهذا يعني أنكم ملكتم العين التي تبكي من خشية الله، وإذا ملكتم هذه العين التي تبكي من خشية الله تعالى، فهذا يعني أنكم على وشك أن تملكوا العين التي تحرس في سبيل الله، وهذا يعني أنه قد اشتد ساعدكم وبات مؤهلا لحمل راية الله تعالى، التي تدعو من ضمن ما تدعو إلى التغيير المنشود اليوم، وهو الكفيل لوحده فقط أن يحدث التغيير المطلوب والمحمود اليوم الذي من شأنه أن يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن مُلئت ظلما وجورا.
لذلك كم هو حريّ بنا أن نحمد الله تعالى دائما وأبدا أن أنعم علينا بالمجلس الإسلامي للإفتاء، وبكلية الدعوة والعلوم الإسلامية وبطائفة من الفقهاء الأفاضل والدعاة الصادقين، وإلا لضاعت أمور ديننا واختلط الحلال بالحرام، والمعروف بالمنكر، والمداراة بالمداهنة، ولبيع الدين بالتين، والتقوى بالحلوى، والرباط بالبلاط، وعندها ما أشقى الحياة وما أشقى العيش فيها.



