أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

أوراق في زمن الكورونا..واقعنا المخصوص … رؤية مستقبلية في ظل واقع متكدر (5)

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي..
داهم وباء كورونا الجميع، جميع الخلق في هذه المعمورة ونحن في الداخل الفلسطيني مثلنا كمثل غيرنا من هذا الخلق تعاملنا معه بناء على توجيهات صدرت من ثلاثة مصادر: المصدر الحكومي والمصدر المهني أي الاطباء والمصدر الشرعي أي العلماء وما صدر عنهم من فتاوى بهذا الشأن وكل فريق من مجتمعنا وجدّ ضالته في الإجابات لدى واحد من هؤلاء الثلاثة الذين ذكرت، بيدَّ ان جامعا مشتركا كونيا جمعنا في سياقات التعامل مع هذا الوباء وجمعنا في هذا السياق كفلسطينيين واسرائيليين نعيش على ذات الارض وفي نفس الديار: الخوف من الموت. هذا الخوف دفعنا كغيرنا لنغير الكثير من سلوكياتنا المجتمعية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك في ظل الحصار الذي فرضناه على أنفسنا تَحسُبا من هذا الفيروس الخفي المسبب للمرض وللموت، والموت حقيقة لا يمكن لمخلوق أن يتجاوزها لكن ما ميزَّ هذا الفيروس أنه جعله سائلا وحاضرا في الوعي واللاوعي، فسلوكياتنا تغيرت لا لسبب إلا لتجنب الوقوع بين براثن هذا الفيروس الذي يهددننا بالقتل.
ولأننا لا نراه فقد زاد الخوف منه، ولأنَّ علماء الميكروبات والاطباء أكدوا دون كلل أو ملل أن وقتا طويلا نسبيا سيحتاجونه للخروج بمصل لهذا الوباء، لذلك ازداد الخوف والهمّ.
مقارنة مع حياتنا السائلة التي كانت نهما للاستهلاك والهموم والمشاغل، والتي توقفت فجأة، فقد وجد كلُّ منا نفسه أمام المرآة وصارت إمكانية إحداث مراجعات تترا في شؤونه اليومية والاستراتيجية، واردة وبقوة خاصة لمن يملكون الإرادة والعزم وناصية التدبر والتفكير، أما الذين لا يطيقون الوقوف أمام المرآة فهم في غيِّ وبؤس وما الخلافات المنزلية بين الأزواج وازدياد معدلات العنف الأسري إلا فيض من واقع بائس عاشته هذه المجتمعات، ولكن في السياق ذاته فقد اعترفت الاف الأسر انها تعرفت على ذاتها مجددا بعد أن كانوا يظنون أنهم يحسنون صنعا يوم تلتقي الاسرة على مائدة الافطار في أحد فنادق إسطنبول، فقد أحسن كوفيد19 صنعا إذ وضعنا أمام حقيقتنا، من نحن ومن نكون وإلى أين نحن ذاهبون ماذا ينتظرنا وكم هي الحياة التي نحرص عليها قصيرة، وكم حجم الخوف المبثوث بيننا، خاصة عند من أصيب لهم قريب أو مات منهم قريب بعدئذ نسي بعضنا أننا راحلون لا محالة في رحلة سرمدية صبحها يوم القيامة.
ثلاثة طروحات تتناوشنا
في واقعنا المخصوص في الداخل الفلسطيني ثمة ثلاثة طروحات تتناوشنا مع هذا الواقع وتداعيات هذا الفيروس: طروحات الحاضر ممثلة بالمعاش، وطروحات القادم المليء بالخوف ممثلة بما سينجم عن تداعيات كوفيد 19 الفورية علينا كمجتمع خاصة في البعدين الاقتصادي-المعيشي والصحي إلى جانب السياسات التي تنتظرنا وهي كثيرة، وطروحات المستقبل ممثلة بكيفية استمرار هذه الحياة في ظل ما سيحلُّ بنا من آثار سيتركها هذا الوباء على كافة الأصعدة المرصودة وغير المرصودة، فنحن اليوم كفلسطينيين في الداخل نتأثر أكثر من غيرنا في هذه البلاد من واقع وتداعيات كوفيد19 لا لسبب إلا لأننا لا نملك ادوات إدارة حيواتنا بسبب الواقع السياسي الموجود وتداعياته الحاضرة بقوة وبازدياد مضطرد منذ النكبة. فقد أثبتت الأحداث إلى هذه اللحظة اننا الاكثر تأثرا في مسائل التداعيات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وكشفت سياسات ما بعد هبة القدس والاقصى أن المؤسسة الاسرائيلية نجحت نجاحا كبيرا -كما نراه- في إدخال أنماط جديدة في حيواتنا كلها تقريبا كأثر مباشر لسياسات اللبرلة، وكأثر مباشر لعدم وجود مُوجه سياسي ضامن وضابط للإيقاع السياسي لنا كفلسطينيين، وقد كشف حظر الحركة عن ترهل هذا الإيقاع ومحدودياته، ولأننا أقلية لا تملك كما ذكرت في مقالاتي السابقة من قطمير يمكننا التعويل عليه لتدارك الانهيار المتوقع لدى الكثير من العوائل التي فقدت مصادر دخلها سواء كانت من أصحاب المحال المتواضعة من مستقلين، أو أُجراء تم تسريحهم من العمل، ولأننا مجتمع فاقد للأهلية السياسية القادر على بناء جماعة وطنية تتجاوز الحساسيات “المتوهمة” القائمة، وارتهان الفعل السياسي في الداخل الفلسطيني للسقف الاسرائيلي ممثلا بالكنيست وما دونها، ولأنّ الفعل السياسي قارب أن يكون رهينة لتعقيدات الحالة السياسية بما تتجاذبه من سياسات اسرائيلية من جانب ويهودية من جانب، وفلسطينية من جانب وحتى عربية دفعت لفقدان البوصلة السياسية عند كافة الفاعلين سياسيا، فإن ما ينتظرنا من قادم الأيام أسوأ بكثير مما يتوقع قُراء المستقبليات السياسية المتعلق براهننا المُعاش وظرفيات واقعنا (الزمانية والمكانية = الضم، الترحيل، الحصار السجن…) وهو ما سيزيد المشهد تعقيدا وإرباكا. فقد جاء كوفيد 19 ليضع الساسة ومن يعتبرون أنفسهم سدنة الداخل الفلسطيني أمام ثلاث حقائق تتعلق ببدايات ما ذكرت المتعلقة بالحاضر والقادم والمستقبل. حقيقة ضعفنا، وحقيقة ارتهاننا للسلطة المركزية وحقيقة تشتتنا، لذلك نحن بحاجة إلى من يقرأ ويضع السيناريوهات ويخرج بخطط لصالح مجتمعنا تضع هذه المخططات وكأنها تملك كل شيء ومن ثمَّ تنزلها على واقعنا المخصوص تقوم بما يلزم من تقليص وتشذيب وتحوير لهذه المخططات، وفي مقدمة ما نحن بصدده اليوم متمثلا بواقع مجتمعنا الصحي الجسدي والنفسي والمجتمعي.
نحن بحاجة الى فريق من الخبراء وأهل الاختصاص في كل شؤون الحياة يجلسون يفكرون يتدبرون ويضعون المخططات بسقف زمني ومكاني ويتعاملون مع هذا الوباء وكأنه بدايات لما هو أسوأ، مستفيدين من محيطهم القريب والانساني إذ الحكمة ضالة المؤمن، وواجبهم في ظل هذه الظروف التعاطي مع تداعيات هذا الوباء للخروج بأخف الأضرار، خاصة وأننا مع حكومة خصخصت كل ما له علاقة بالمجتمع وقد تكشفَّ حجم الخلل في البنيتين الصحية والاجتماعية في الشارع الاسرائيلي فكيف في مجتمعاتنا.
نحو سلوكيات مستجدة
نعم تغيرت مؤقتا سلوكياتنا الأساسية، وبات واضحا أنه كلما استمرت هذه الجائحة كلمت تقعدت هذه السلوكيات المستجدة لتتحول شيئا فشيئا إلى ثابت يحلُّ محل سلوك سالف رضخ لسيولة الحياة “الكاذبة “، وجعلنا رهينة لعقل الاستهلاك. نحن باختصار ننتقل شيئا فشيئا من واقع أفسدَّ علينا من حيث لا ندري أو ندري قيمنا واخلاقياتنا وانماطا كان وجودها يمكن أن يؤسس لواقع جديد يتماثل والمجتمع العصامي الذي حلمت به يوما “ما” حركة حُظِرَت لأنها طرحته وتحسبت منه المؤسسة الإسرائيلية إذ لطالما كانت العصامية أساس الخروج من المآزق والنكبات والمطبات، ولطالما أسست لواقع مشرق لمن آمن وعمل بمقتضاها، فنحن اليوم ندخل الى عالم جديد لمَّا نعلم منتهاه وكيف سيتخلق والخوف كل الخوف مستقبلا من أن نقع بين كماشة ما سلف من عادات وأنماط، وما استجد، فلا نحسن العبور ولا نستغل اللحظة التاريخية التي نعيش لصالح تحسين ظرفنا المعيشي المجتمعي والاجتماعي والاقتصادي، بناء على سياسات جديدة وفدت ومن غير المتوقع أن تتركنا قريبا. نحن أمام فرصة (حادثة) للوقوف مليا أمام العلاقة بين الارادة والعمل، فلطالما سيَّرتنا الرغبات والنزوات والاعلام الاستهلاكي الذي أجبر الالاف منا للإستلاف من السوق السوداء، والوقوع في فخ العبودية المختارة وما ذلك إلا بسبب نزوات وشهوات عابرة تذهب وتترك الحسرات، هذه الفرصة الكورونية الالزامية تدفعنا للوقوف مليا امام ما كنا فيه والى اين سنمضي وكم نملك من رصيد من إرادة دافعة للعمل للتخلص من عادات قبيحة أثرت في معاشنا وسلوكنا وأخلاقنا، ولأنَّ العمل يرتبط بالإرادة فنحن كمجتمع مدعوون اليوم الى الخروج من شرنقة الأنا والفردانية والعودة الى الروح الجماعية، وهذا أحد التحديات الماثلة والتي ستتعزز قريبا ومستقبلا في ظل اختلاط أوراق الصحة والمجتمع والسياسات والمستقبل السياسي لنا كفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، خاصة مناطق المثلث والنقب وما ينتظرها من سياسات حكومية تتعلق بالإنسان والارض والمجتمعات.
مجتمعنا في الداخل الفلسطيني هو ككل المجتمعات فيه الاغنياء والفقراء ومن يطلق عليهم الطبقة الوسطى من مهنيين وحرفيين واطباء ومعلمين وجامعيين، وهذه الطبقة هي عماد المجتمعات وأساسها وهي التي تُحدث التغيير، وفي مجتمعاتنا في الداخل الفلسطيني ما زالت هذه الطبقة تراوح مكانها إذ همها الاساس المصلحة الذاتية والحرص على مكتسبات الحياة وعدم التفريط ولو بشيء قليل منها، ولذلك فثمة دعوة الى المفكرين والخبراء واهل البحث والدراية لتفكيك هذه الطبقة مجتمعيا واقتصاديا وسلوكيا، وكم يمكن مستقبلا التعويل عليها لإحداث التغيير في مجتمعنا الذي بغالبيته العظمى مجتمع فقير وفقا للمقاييس الإسرائيلية، فبدون هذه الطبقة لن يتقدم مجتمعنا عموما وبدون هذه الطبقة لن يحدث التغيير المرتجى.
الأمل معقود على الشباب
وفي ذات السياق في مجتمعنا طبقة من الاغنياء منهم الشرفاء الذين يعيشون هموم أهلهم ومجتمعاتهم وأياديهم تجدها في كل زاوية لا يسألون الناس عن أفعالهم مَجدا ولا إحسانا ولا شكورا، فهذه الثلة خرجت من شرنقة الحياة وشقت طريقها بجدّ واجتهاد وعليهم الامل معقود إلى جانب الطبقة الوسطى التي ذكرت سابقا في العمل مع المخلصين من مفكرين وعلماء بإخراج مجتمعنا من تيهه المعيشي والاقتصادي، إلى مستقبل أكثر اطمئنانا، بيدَّ أنهم يحتاجون الى ضمانات ومساعدات ومحفزات، وهذه هي مهمة السلطات المحلية وتحديها القادم في كيفية إيجاد الفرص والامكانيات لتؤسس لمشاريع تدفع لخلق حالة اقتصادية متفاعلة مجتمعيا تعود بالكسب على هذه الزمرة وعلى الناس وعلى السلطات وهي فرصة لسلطاتنا المحلية لبناء غرف تخصصية داخل مكوناتها التخصصية وغرف احصائية تضع امام المسؤول في تلكم السلطة صورة واضحة لواقع بلده سكنا وسكانا ومعاشا واقتصادا واجتماعا راهنا ومستقبلا. ولأننا نعيش زمنا سائلا تعولمت فيه الحياة فأضحت أبسط المشاريع سائلة بسيولة الواقع الكوني، صرنا نحتاج من العقول الاقتصادية ومن يعيشون هموم الدفع السايبري أن يتقدموا الخطوط ليقدموا طروحاتهم ومشاريعهم وأفكارهم، وهي فرصتنا التي لا تعوض. وهناك مجموعة من الاثرياء في مجتمعنا اسميها الطبقة المخملية التي تذكرني بالأرستقراطية الفلسطينية البائدة، إذ لا يزال بعض من آثارها الى يومنا هذا، هذه مجموعة مغتربة وغريبة وتعيش حالة من الاغتراب المجتمعي لا يهمهم ما يحدث في مجتمعنا وما يصيبها من لأواء، فهمهم الأساس الكسب السريع والمضمون وزيادة أموالهم، وسلوكياتهم ومعاشاتهم في سياقات اغترابهم اكثر غربية من الغربيين وارتباطاتهم مع المؤسسة الاسرائيلية لا تنكرها العين الباصرة الناقدة الفاهمة لحركة الحياة في الداخل الفلسطيني، بيدَّ أنّ غشاوات تغشت بعضنا فداهنهم ونافقهم، وهؤلاء في عصر كورونا يصدفون عن حياة الناس ولا يرون أن لهم دخلا فيها، فهم اليوم بين خوف من المستقبل على أموالهم وخوف على انفسهم فهم أحرص الناس على حياة وهذه الفئة تتميز بالتسلق واغتنام الفرص، ولذلك وجبّ التحسب منهم وعدم الركون أو/ و التعويل عليهم في دفع للمجتمع، وبقدر ما يجب التحسب منهم في استغلال فاحش للواقع المستجد بقدر ما يجب مواجهتهم إذا ما تحققت مسيرة واندفاعات إيجابية.
صحيح أننا لا نملك أي رؤية مستقبلية بسبب عدم وجود جسم سياسي يتحمل مسؤولية هذا المجتمع بكل مركباته ومكوناته في الداخل الفلسطيني، ولكنَّ الآمال معقودة على الاجيال الشابة الناشئة المتعلمة التي يرى عالم الاجتماع الاسباني خوزييه اورتوغا آي غاسيت (1888-1955) انها هي الأكثر فاعلية وتأثيرا في مجتمعات ما بعد الحداثة، والداخل الفلسطيني مجتمع شاب وفيه الآلاف من أبنائه من هذا الجيل من يتدافعون اليوم على ابواب التعليم على كل أنواعه الجامعي وغير الجامعي، وواجب الساعة الاهتمام بهم لما فيه صالح مجتمعنا حاضرا ومستقبلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى