أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

رغم الحصار غزة حاصرت الكورونا

طه اغبارية
بعيدا عن الاجتهادات السياسية والتعدديات الفصائلية في الساحة الفلسطينية، وبعيدا عن هذا الحال الموجع الذي أوجد شبه قطيعة بين جرح غزة وجرح الضفة الغربية، وبعيدا عن تطورات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي على جبهة غزة أو جبهة الضفة الغربية، بعيدا عن كل ذلك فإن غزة كان ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي يفرض عليها حصارا برا وبحرا وجوا منذ عام 1996 مدعوما تلقائيا بحبل من أمريكا وأوروبا وبعض النواطير العرب، لا لسبب إلا لأن الشعب الفلسطيني مارس حقه في انتخابات تشريعية شهد العالم بنزاهتها، ولأن الشعب الفلسطيني قد قال كلمته في هذه الانتخابات التشريعية واختار لنفسه القيادة التي يثق بها، فقد قام الاحتلال الإسرائيلي بمعاقبته على ذلك، وكان أن فرض الحصار على غزة منذ عام 1996، وهذا يعني أنه قد مرعلى هذا الحصار المدعوم أمريكيا وأوروبيا إلى جانب بعض النواطير العرب مرّ عليه أربعة وعشرون عاما، وكأن المطموع به في حسابات الاحتلال الإسرائيلي ومن دار في فلكه أن تنهار غزة تحت وطأة ذاك الحصار الطويل المرير، وتحت وطأة ما سيتركه من فقر وجوع ومرض ويأس وانسداد أفق على أهل غزة، إلا أن ذلك لم يحدث وظلّت غزة هي غزة متمسكة بالشعار المأثور (تموت الحرة ولا تأكل بثديها)، ثم طال هذا الحصار وتواصل، وها نحن في عام 2020 ولا يزال هذا الحصار مفروضا على غزة، ومن المجزوم به أن غزة لا تملك ما يملك محاصروها من إمكانيات اقتصادية وصحية وإعلامية ومؤسساتية، ولا يمكن لها أن تتفوق عليهم في هذه الإمكانيات، ولعل ما تملكه من هذه الإمكانيات لا يساوي نصف هذه الإمكانيات التي تملكها مدينة إسرائيلية أو أمريكية أو أوروبية، ولكن جائحة الكورونا جاءت لتقول لنا إن غزة تملك إرادة تفوق كل الإرادات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية مجتمعة، وقد تجلى ذلك في هذه المشاهد:
في الوقت الذي تجاوز فيه عدد الإصابات بالكورونا عشر آلاف على الصعيد الإسرائيلي، ونصف مليون على الصعيد الأمريكي وربع مليون على الصعيد الأوروبي، إلا ان عدد الإصابات بالكورونا في غزة لم يتجاوز العشرين، رغم أن عدد سكان غزة تجاوز المليونين، ورغم أنها تعاني من كثافة سكانية هي من أعلى الكثافات السكانية في العالم، ورغم أنها تعاني من المجمل من سوء التغذية، لا بل ثبت أن كل الإصابات بالكورونا التي ظهرت في غزة كانت من خارجها، لدى عودة بعض أهلها إليها، ومع ذلك ضبطت على الفور عدد هؤلاء المصابين، ومنعت تفشي وباء الكورونا بسببهم، رغم أنها لا تملك المستشفيات المرفهة ذات خمسة نجوم كما هو الحال على الصعيد الإسرائيلي والأمريكي والأوروبي، ولكن مرة أخرى نقول غزة تملك إرادة متفوقة على إرادات كل هذا الحلف الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي.
في الوقت الذي تجاوز فيه عدد الوفيات بسبب الكورونا على الصعيد الإسرائيلي المائة، وعلى الصعيد الأمريكي والأوروبي عشرات الآلاف فإنها لم تسجل حادثة وفاة واحدة بسبب الكورونا في غزة، وأين جودة الدواء والكمامات والقفازات التي تملكها غزة، من جودة ما يملك هذا الحلف الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي من دواء وكمامات وقفازات، وأنّى لغزة المحاصرة منذ أربعة وعشرين عاما أن تملك هذه الرفاهية والدلال التي يملكها هذا الحلف كما وكيفا من دواء وكمامات وقفازات، ولكن كل أسوار هذا الحلف انهارت أمام جائحة الكورونا، وصمدت أسوار غزة، لأن المرجح في هذا الموقف لم يكن فقط جودة الدواء والكمامات والقفازات، بل كان المرجح جودة الإرادة بعد التوكل على الله، فبات واضحا أن جودة إرادة غزة تفوقت على وهن إرادة هذا الحلف مجتمعة.
إن ألسنة هذا الحلف الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي التي أعلنت هذا الحصار على غزة منذ عام 1996، هي الألسنة نفسها التي أعلنت الحصار على شعوبها خلال جائحة الكورونا، فأقفرت مدنها ومتاجرها وأسواقها وشوارعها كأن لم تغن بالأمس وظلّت غزة المحاصرة من خارج حدودها حرة من داخلها، حيّة المتاجر والأسواق والشوارع كأنها في كوكب غير كوكب الأرض.
إن دوائر صنع القرار في هذا الحلف الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي التي أحكمت حصارها على غزة طامعة بانهيار غزة اقتصاديا ثم فشو البطالة والفقر والجوع فيها، هي نفس هذه الدوائر التي نسمعها اليوم التي باتت تحذّر من انهيار اقتصادي عالمي ومن بطالة عالمية ستضرب أركان كل هذا الحلف على الصعيد الإسرائيلي والأمريكي والأوروبي، وقد يقود هذا الانهيار إلى كارثة أشد من كارثة وباء الكورونا، والأيام حبالى،
إن دوائر صنع القرار في هذا الحلف الإسرائيلي الأمريكي الأوروبي التي أفرحها مشهد المؤسسات الإغاثية الإنسانية وهي توزّع الطرود الغذائية على أهل غزة المحاصرين، ها هي هذه الدوائر نفسها باتت توزع الطرود الغذائية على شعوبها المحاصرة بسبب جائحة الكورونا.
وها هي هذه الدوائر التي لم يزعجها ذات يوم عندما كانت غزة تعاني من نقص خطير في الدواء وأدواته هي نفسها اليوم التي باتت تبدي قلقها مما تعاني هي من نقص خطير في الدواء وأدواته.
كل ذلك يقول لنا: ليس بالشعارات وحدها تصمد الأمم أو تنهض أو تتقدم، بل لا بد من إرادة صلبة تتحلى بها وإن ضاق حالها وقلّت إمكانياتها، وليس بالاتكال على المنح الدولية وصناديق الدعم الصهيونية والأمريكية والأوروبية تبنى الأمم وينمو حالها ويرتفع بنيانها بل لا بد من اعتماد على الذات والقدرات الذاتية أولا بعد التوكل على الله تعالى، وليس بانتظار الفرج من وعود هذا الحلف السياسية تتحرر الأمم وتتحرر أوطانها ومقدساتها بل لا بد من بذل الجهود المتواصلة بلا كلل ولا ملل والصبر على طول الطريق وقلة الإمكانيات وكثرة التحديات والثبات في وجه مخالفة المخالفين وخذلان الخاذلين وأذى المنتفعين ولا بد من تحمّل أثقال اللأواء ومرارة الغربة في زمن قلّ فيه الصادقون وكثر فيه الثرثارون.
إن كل ما ورد أعلاه هو أكثر من درس لنا في الداخل الفلسطيني يجب أن يدفعنا إلى تقييم ما نحن عليه من مواقف وسلوكيات ولا عيب أن نتنازل عمّا أفلس من هذه المواقف والسلوكيات كلعبة الكنيست التي لا تزال تؤكد محصلتها الصفرية في ختام كل دورة كنيستية، ولا عيب أن نعزز ما يجب تعزيزه من مواقف وسلوكيات كلجنة المتابعة العليا بغية تحسين دورها وأدائها، ولا عيب أن نذكر أنفسنا أن طنين الشعارات لا يغني عن حاجتنا الملحة إلى الإنجازات، وإن كل صناديق الدعم في كل العالم لا تغني عن ضرورة تمسكنا بمشروع المجتمع العصامي، وأن قيمتنا بقدر تمسكنا بثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية لا بقدر شذوذنا عنها، ولن يصح إلا الصحيح اليوم وغدا، كما لم يصحّ إلا الصحيح في الماضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى