معركة الوعي (249) هناك “إعلام” وهناك إعلام! تسفي يحزقيلي وعميت سيغال: أنس الشريف ومريم أبو دقة
حامد اغبارية
قبل أن يخرج رجل المخابرات الفاشل، المتستر بمهنة الصحافة، تسفي يحزقيلي، في مونولوج الدم الذي أعلن فيه فرحته العارمة باغتيال الصحافيين الفلسطينيين في مستشفى ناصر في خان يونس قبل أربعة أيام، سبقه زميله في “المهنة المزدوجة” عميت سيغال، الذي تشفّى باغتيال الصحافي الفلسطيني أنس الشريف وزميله محمد قريقع حيث قال بالحرف: “لقد أصبح العالم أفضل بدونه.. لقد انتظرت خبرا كهذا زمنا طويلا..”.
وهذا ديدن غالبية العاملين في “الإعلام” الصهيوني، والذين لا علاقة لهم بالإعلام الحقيقي، وإنما هم كتيبة تعمل في خطوط الإمداد الخلفية والدعم المعنوي (الفاشل) للاحتلال.
وللتذكير فقط، ونبشا للذاكرة القصيرة التي يتميز بها الكثيرون من أبناء جلدتنا، من المضبوعين بأكاذيب وأضاليل “الإعلام” العبري، فإن عميت سيغال هو نُطفة من أبيه حجاي سيغال، ذلك المستوطن الإرهابي، الذي عمل في “الإعلام” أيضا، إذ كان رئيس تحرير صحيفة “مكور ريشون”.
وسيغال الأب كان عضوا في التنظيم السري اليهودي الذي نفذ محاولة اغتيال رؤساء بلديات فلسطينيين، سنة 1980. وكانت مهمته زرع عبوة ناسفة في سيارة رئيس بلدية رام الله كريم خلف، ووضع لغم في كراج سيارة رئيس بلدية البيرة إبراهيم الطويل. من أجل ذلك أعرب سيغال الابن عن فرحته باغتيال الشريف وقريقع.
ولماذا “أصبح العالم أفضل بدون أنس الشريف”؟ التصريح يجيب عن نفسه بنفسه. فوجود أنس كان يسبب لهم قلقا وتوترا، ويصيبهم بهستيريا من النوع الذي لا علاج له، ويطرد النوم من عيونهم، لأنه كان صوت الغزيين النازف. وإلا فما الذي فعله أنس الشريف، سوى أنّه- بشجاعة نادرة- نسف رواية الاحتلال بنقله الصورة من الميدان، من بين الأنقاض ووسط الدخان الكثيف وتحت القصف، بجسده النحيل، وبصوته المجلجل، وبوجهه الذي يتصبب عرقا، وبأمعائه الخاوية؟
وماذا قال تسفي يحزقيلي حول اغتيال الصحافيين مريم أبو دقة وأحمد عبد العزيز وحسام المصري ومحمد سلامة ومعاذ أبو طه؟
“هؤلاء هم صحافيو النّخبة، لقد أدركت إسرائيل حجم الضرر الذي سبّبه هؤلاء عندما نقلوا صور الجوع وقدموا رواية من طرف واحد هي رواية حماس، وواصلوا طريق يحيى السنوار.
من المهم أن نفهم حجم الضرر على الوعي الذي سبّبه هؤلاء “الصحافيون، المخربون. وطالما أن إسرائيل قررت تصفيتهم فأنْ يـأتي ذلك متأخرا أفضل من ألا يأتي إطلاقا.
هؤلاء “صحافيون” يختبئون في المستشفيات ويبثون للعالم صورة معاكسة تماما، ويخدمون مصلحة حماس، لذلك أحسنت إسرائيل عندما قررت اغتيالهم، وما يزال هناك كثيرون مثلهم ما زالوا يسببون ضررا لصورة إسرائيل في المعركة على الوعي التي فشلنا فيها”.
ملخص القصة أن يحزقيلي، الذي يحرض بدموية على اغتيال من بقي من صحافيين فلسطينيين في الميدان، عبّر بدقّة متناهية عن حجم الأزمة التي يعاني منها الاحتلال إلى درجة المرض النفسي المزمن، بخصوص صورته أمام الرأي العام العالمي. فقد اعترف يحزقيلي بصورة غير مباشرة أنّ اغتيال الصحافيين ليس لكونهم تابعين لـ “النخبة”، وإن زعم ذلك في سياق تصريحه، وإنما لأنهم يكشفون، على مدار الساعة، حجم الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في غزة، خاصة جريمة التجويع التي يسعى الاحتلال بواسطتها إلى كسر شوكة الغزيين ودفعهم إلى رفع الراية البيضاء، بعد أن فشل في تحقيق أهدافه المعلنة والخفية طوال عشرين شهرا من حربه الانتقامية.
وتسفي يحزقيلي هو نفسه الذي قال في تصريح دموي سابق إنه كان على جيش الاحتلال أن يقتل مائة ألف فلسطيني في الضربة الأولى لحسم المعركة!!
فالمسألة، إذًا، لا علاقة لها بالصحافيين الفلسطينيين ولا بانتماءاتهم وولاءاتهم، وإنما بالفشل الذريع الذي مُني به الاحتلال في غزة على كل الأصعدة، والذي أصاب يحزقيلي بالجنون وجعله يهذي من حُمى الفشل.
كذلك الأمر بالنسبة لعميت سيغال سليل الإرهاب، الذي تقرأ في ثنايا تصريح التشفّي الذي تقيّأه، بأنه كان يعاني من حالة “إمساك” شديدة سبّبها له أنس الشريف وزملاؤه وحشره وأمثاله في الزاوية، وأظهرهم أقزاما إعلاميين لا يكاد يسمعهم أحد أو يصدقهم أحد، رغم أنهم طوال فترة الحرب “شدّوا على حالهم” حتى انتفخت أمعاؤهم وتمزقت أوداجهم، ولكن دون جدوى.
يكاد قادة الاحتلال، السياسيون خاصة، وفي مقدمتهم نتنياهو، ومن خلفهم كتيبة “الإعلام العبري” يصابون بانهيار عصبي بسبب ما أحدثته، وتحدثه، الصورة الحيّة المجرّدة التي ينقلها الصحافي الفلسطيني بأمانة ومهنية من داخل غزة، في الوعي والسردية وفي الرأي العام العالمي، الذي تغيّرت مواقفه بصورة غير مسبوقة بسبب ما يرتكبه الاحتلال في غزة، وأصبح يرى الحقيقة بالبث المباشر، بعد عقود من التضليل الذي مارسته بكائيات الإعلام الإسرائيلي والدبلوماسية الإسرائيلية.
ولما فشل الاحتلال في صدّ الرواية وإخفاء الحقيقة وتشويه الصورة، وبعد أن رفع الراية البيضاء -باعتراف يحزقيلي وغيره-معلنا استسلامه أمام الرواية الفلسطينية التي لا تحتاج إلى جهد كبير، وإنما يكفيها نقل الصورة كما هي، عمد إلى محاولة اغتيال الحقيقة- بالطريقة التي لا يتقن غيرها ويستحق عليها جائزة الإبداع وبراءة الاختراع- بتصفية الصحافيين الذين فضحوه أمام خلق الله وتركوه عاريا زَلْطًا مَلْطًا.
بطبيعة الحال، لا تخلو تقيؤات يحزقيلي وسيغال وأمثالهما من النكتة غير المضحكة. وملخص النكتة التي ما فئتنا نسمعها تتكرر منذ عقود، أنه يوجد هناك دائما كذبة تبرر الاغتيال، ومفادها أن هؤلاء ليسوا صحافيين، بل أعضاء فاعلين يخدمون مصلحة حماس والمقاومة الفلسطينية.
يزعمون ذلك دون أن يقدموا دليلا واحدا أو حتى قرينة. و”دليلهم” الوحيد أن البيت الأبيض يصدقهم، ويعزف على وترهم، ويُخرج لإعلام الدّجال مِن طرفه مَن يكررون السمفونية الـ “تل أبيبيّة” النّشاز. أما الحقيقة التي يوجد عليها قائمة طويلة من الأدلة فهي أن يحزقيلي وسيغال وأشباههما أعضاء في “نُخبة اليمين الفاشي الفاشلة” التي تتستر بمهنة الإعلام.
والعجيب أن يحزقيلي أوقع نفسه في شرّ تصريحه عندما اتهم الصحافيين الذين اغتالهم الاحتلال، بأنهم ينقلون الرواية من طرف واحد. أي أنه كان عليهم أن ينقلوا رواية الاحتلال أيضا ليحققوا التوازن الإعلامي.
وكأنّ يحزقيلي يمارس هذا “التوازن” الإعلامي في نقل الرواية في تقاريره المسمومة وإطلالاته التلفزيونية “التّفتفانيّة” التي تثير ابتسامات زملائه في الاستوديو المكيَّف قبل غيرهم من خلق الله، لأنهم يعرفون أنه يكذب ويزور ويُتفتِف.
بينما حقيقة المشهد أن الصحافي الفلسطيني، الذي يخاطر بحياته في غزة، ويعرض نفسه للموت في كل لحظة، لا ينقل رواية أحد، وهو أساسا ليس بحاجة إلى أن ينقل رواية أحد، وإنما ينقل الصورة كما هي.
وأجزم أن يحزقيلي وسيغال وأمثالهما يعرفون هذا كما تعرفه الدنيا كلها. وأجزم أن يحزقيلي وسيغال وأمثالهما لا ينامون الليل بشكل طبيعي، بسبب دودة الكذب الشريطية التي تتلوّى في أمعائهم.



