معركة الوعي (53): أربع مُهمّات لتأصيل الهويّة وتطهير المشهد
حامد اغبارية
لم نكن ننتظر- وما كان يجب أن ننتظر- أن ترتكب الشرطة الإسرائيلية جريمتها الأخيرة في مدينة طمرة حتى تتكون لدينا القناعة التامة، التي لا يداخلها شك، أننا في نظر المؤسسة الإسرائيلية لسنا جزءًا منها، بل نحن في نظرها عبءٌ يسبب لها الصداع والقلق الدائم، وفي التالي يأتي التعامل معنا من هذا المنطلق.
لم نكن ننتظر ذلك، لأن سنوات طويلة مرّت تحمل في سجلّاتها ألف دليل ومئات التجارب الدامية والمؤلمة التي تؤكد ذلك. فالطالب الجامعي أحمد حجازي الذي قتلته الشرطة هو واحد من عشرات سبقوه من أبنائنا وإخواننا الذين لا ذنب لهم إلا أنهم فلسطينيون، وبصفتهم هذه فإن إصبع الشرطي الإسرائيلي هي أخف ما تكون على الزناد. فالعربي الفلسطيني في نظرهم ليس بالشيء الذي يمكن أن يدفع رجل الأمن أن يفكر مرتين قبل أن يطلق النار عليه.
وعلى الرغم من ذلك فإنه ما يزال بيننا من يصرّ على أننا جزء من المجتمع الإسرائيلي، وأنه ليس أمامنا إلا أن نلعب في نفس الملعب الذي اختارته المؤسسة الإسرائيلية لنا، وما الكنيست الصهيوني سوى جزء من هذه اللعبة.
ومن هم هؤلاء الذين عملوا طوال الوقت على جرّ مجتمعنا إلى الملعب الإسرائيلي، إلى الأسرلة؟؟
إنهم كل الذين قبلوا على أنفسهم أن يشاركوا – برضاهم وأحيانا بأكثر من ذلك- في حرف بوصلتنا من خلال أكبر عملية غسيل دماغ يتعرض لها شعبٌ تعرض للتهجير والاحتلال والقمع وتزوير تاريخه وروايته ونهب حقوقه.
وسط هذه الأجواء القاتمة الملطخة بالدماء المسفوكة، ما تزال لعبة انتخابات الكنيست مطروحة على أجندة مجتمعنا، وما يزال الزاحفون إليها يصرون على السقوط، رغم إدراكهم أنهم إنما يقفون على شفا الهاوية السحيقة التي ليس بعدها إلا المصير الذي ينتظر الساقطين إلى القاع. لذلك، ومن أجل أن نحفظ هويتنا ونؤكد انتماءنا ونطهّر المشهد من شوائبه وطحالبه أمامنا أربع مهمات لا بد من إنجازها.
تزعم أحزاب الكنيست (احزاب المشتركة) أنها خيار الشعب، وأنها تعبر عن إرادته. وهذه واحدة من عمليات التضليل التي أعتبرها شخصيا إهانة لشعبنا الذي لم يستشره أحد ولم يستفتِه أحد ولم يسأله أحد إن كان يقبل أن يعبّر هؤلاء عن إرادته. وأنا هنا لا أتحدث عن مشهد القطيع الذي نشهده عادة يوم الانتخابات. فالقطيع يوم الانتخابات يتحرك في غالبيته عاطفيا، وليس بالضرورة أن سلوكه في ذلك اليوم هو الذي يعبّر عن موقفه الحقيقي. ومن الطريف العبثي أن مسألة “تمثيل إرادة الشعب” ليست حكرًا على أحزاب المشتركة، إذ أننا نسمعها أيضا من غيرهم أمثال حزب محمد دراوشة، أو حتى من عرب حزب يارون زليخا، أو عرب الليكود أو ميرتس أو العمل، فهؤلاء جميعا يزعمون أنه يمثلون إرادة الجماهير، وأن هموم الجماهير هي ما يقضّ مضاجعهم، وأنهم لا ينامون الليل من شدة القلق على مصير هذه الجماهير!! فهل يمكن لهذا الدجل أن ينطلي على الجماهير؟ وعن أية جماهير نتحدث؟ إنها تلك التي قالت كلمتها من خلال الحراك الشعبي الذي يشهده مجتمعنا في الأيام الأخيرة… فالجماهير موجودة في الشارع وليس في صناديق الاقتراع. والصوت هو صوت الغضب الهادر وليس الصوت الذي تبحث عنه الأحزاب ليوضع في صندوق الاقتراع.
المهمّة الأولى، إذًا، هي إثبات فشل مشروع الكنيست، ودفع أحزاب المشتركة إلى التخلي عن هذا الطريق والعودة إلى حضن الجماهير. بل أكثر من ذلك: إثبات أن المشاركة في الكنيست هي من أكبر الأسباب التي أوصلتنا إلى أماكن ليس لنا ولا لمستقبلنا ولا لهويتنا أيه علاقة بها من قريب أو بعيد. بمعنى آخر: سواء قصدت تلك الأحزاب أو لم تقصد، أو قصد بعضها أو لم يقصد فقد ساهمت في تنفيذ خطة المؤسسة الإسرائيلية في عملية تدجيننا وأسرلتنا.
المهمّة الثانية التي لا تقل أهمية هي سدّ الطريق أمام زحف الأحزاب الصهيونية التي تجدد هذه الأيام محاولات اختراق مجتمعنا. لقد نجح شعبنا نسبيا في كنس الأحزاب الصهيونية من شوارعنا، خاصة منذ التسعينات، وحقق في هذا نجاحات كبيرة جدا تليق بشعب أصيل. ومن هذا المنطلق لا بدّ أن يوصد كل باب يمكن أو يُتوقع أن يدخل منه حزب صهيوني ليمارس علينا الخداع من جديد. وإن الأحداث الدامية التي يشهدها مجتمعنا يجب أن تكون بوصلتنا في تحديد الموقف من هذه الأحزاب التي نعرف جميعا أنها إنما تمارس الدجل والكذب والتضليل فقط من أجل الحصول على أصوات السُذَّج. وإن جزءا من هذه المهمة سدُّ الطريق أمام عملاء هذه الأحزاب من المحسوبين على شعبنا، وهم للأسف كثيرون. ويجدر بشعبنا أن يحسم أمره في مقاطعة هؤلاء ونبذهم وعدم التعامل معهم بأي حال، حتى يعلموا أن الذي يُعينُ علينا ليس منّا ويجب ألا يكون منّا.
من ألاعيب لعبة الكنيست أن تعمد الجهات العليا في المؤسسة الإسرائيلية –بعد أن تقرأ المشهد وتتحلل المزاج الشعبي عندنا- إلى إخراج أحزاب جديدة من تحت عباءتها، يقودها في الغالب أشخاص عملوا طوال الوقت تحت هذه العباءة ومارسوا حياتهم كإسرائيليين تفكيرا وسلوكا ووظيفة. مارست المؤسسة الصهيونية هذه اللعبة بعد سنوات قليلة من تأسيسها عام 1948، حين ضمت أحزابها إلى صفوفها شخصيات ذات تأثير على الناس. ومن هذه الأحزاب “المباي” و “المعراخ” و”مبام”. ثم “أنجبت” في وقت لاحق أحزابا “عربية تابعة” خالصة وظيفتها خدمة المشروع الصهيوني.
ولعل الكثيرين ربما نسوا أو غاب عنهم أن الأحزاب الصهيونية حصدت في انتخابات الكنيست العاشرة (1981) نحو 40% من أصوات الناخبين العرب، ونحو 50% من هذه الأصوات في انتخابات الكنيست الحادية عشرة (1984)، ثم تراجعت النسبة إلى 40% في الكنيست الـ 12 بعد خروج عبد الوهاب دراوشة من حزب العمل وتأسيس الحزب الديمقراطي العربي. ثم عادت النسبة لترتفع إلى نحو 52% في انتخابات الكنيست الثالثة عشرة (1992).
وإن ما نشهده الآن هو مشهد مماثل لما كان في تلك السنوات. ولذلك من واجب شعبنا أن يتصدى لهذا الزحف من الأحزاب الصهيونية التي تمنّي نفسها بنهش أكبر عدد ممكن الأصوات. أما كيف نحقق ذلك؟ فاقرأ المقطع الأخير في هذا المقال.
ليس أمامنا في هذه الظروف إلا أن نحسم الإمر نهائيا، ونوقف هذا النزيف السياسي الذي نعرف جميعا نهايته ونتائجه الوخيمة. فالنزيف هو النزيف، إذا لم يوقف فليس بعده إلا الموت المحقق.. وهنا يأتي دور المهمة الرابعة وهي الأهم بين المهمات الأربع: تأكيد حصانة المقاطعة وتوسيع رقعتها. فحتى كتابة هذه السطور فإن أكثر من نصف جماهير شعبنا قد حزمت أمرها وقررت مقاطعة الانتخابات، سواء كان ذلك لأسباب مبدئية أو أسباب موضوعية، وهذه النسبة تسجّل يوميا ارتفاعا ملحوظا، لأن ما يحدث في مجتمعنا وعلى رأسه استفحال الجريمة وفوضى السلاح لا بدّ له من ردّ يكون بمستوى الحدث. وليس من ردّ بمستوى الحدث إلا مقاطعة الانتخابات. هكذا يمكن لمجتمعنا أن يلقّن المؤسسة الإسرائيلية بكل أجهزتها درسا لن تنساه، وهكذا يمكن لشعبنا أن يعيد الأحزاب التي ما تزال ذات أجندات صادقة، لكنها ضلّت الطريق، إلى رشدها، وهكذا تعود بوصلتنا إلى الجهة الصحيحة، وهكذا – وفقط هكذا- نؤكد هويتنا نظيفة نقية من أية شوائب، وعلى رأس هذه الشوائب- الطحالب انتخابات الكنيست؛ هذا المرض الخطير الذي ينهش في جسد هويتنا منذ سبعة عقود دون توقف…
هو مرض خطير… نعم، لكن يمكننا الشفاء منه، باستخدام الدواء المناسب وبالإرادة القوية في مواجهته.


