ماذا تعني صدمة احتلال القدس والمسجد الأقصى
د. أنس سليمان أحمد
إن احتلال القدس والمسجد الأقصى هو صدمة لكل مسلم وعربي وفلسطيني عاش هذا الاحتلال في الماضي أو يعيشه اليوم، وإن تداعيات هذه الصدمة تختلف من شخص لآخر، فهناك من تدفعه الصدمة لرفض المحتل وهم الأغلبية على الصعيد الإسلامي والعربي والفلسطيني، وهناك من تدفعه الصدمة لقبول المحتل والتعايش معه وصناعة التبريرات الوهمية لذلك وهم القلة القليلة، وحتى لا تبقى جماهير المسلمين والعرب والفلسطينيين حيرى بين الرافض لهذا الاحتلال والقابل به لا بد لأهل الفكر والعلم والفقه والقلم الأحرار أن يأخذوا دورهم وأن يُغرقوا هذه الجماهير الحيرى بحملة توعية تبين لهم حقيقة المحتل وحقيقة أهدافه وضرورة رفضه، وعندها سيكون زوال هذا الاحتلال حتماً مقضيا لو بعد حين، وهذا ما قام به الأحرار من أهل الفكر والعلم والفقه والقلم عندما ذاقوا صدمة احتلال القدس والمسجد الأقصى على يد الحركة الصليبية، ومن الضروري دراسة تجربة دور هؤلاء الأحرار والاستفادة منه وتوظيفه اليوم لصناعة وعي جماهيري لرفض الاحتلال الإسرائيلي، مهما تغطرس وتجبر، ولذلك “ولم تكن الاستجابة من قبل الفقهاء والقضاة في بلاد الشام ضد الغزو الصليبي مقتصرة على الاستغاثة وطلب النجدة، بل تعدت إلى العديد من الوسائل الأخرى التي من بينها الكتابة والتأليف في الجهاد ضد الغزو، لتهيئة الأجواء الفكرية، وتثقيف المسلمين عامة، حيث نالت اهتماماً كبيراً من جملة الفقهاء، والعلماء، قبل وأثناء الغزو الصليبي، فقد كانت حاجة العصر للتعبئة الفكرية، ونشر الثقافة الإسلامية، أصبحت من الأمور الأساسية آنذاك ” (كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي)، والناظر في العمق إلى دور هؤلاء الأحرار يجد فيهم الفقيه كعلي بن طاهر السلمي، ويجد فيهم القضاة كالقاضي عبدالله بن منصور المعروف بابن صليحة والقاضي أبو الفضل بن الخشاب، ويجد فيهم جمهرة من الشعراء الملتزمين بشعرهم لا المتاجرين به طمعاً بربح رخيص، ولقد شكّلت وحدة جهود هؤلاء الفقهاء والقضاة والشعراء خطابا رافضا للاحتلال الصليبي، وخطاباً مقاوماً متفائلا يدعو للتصدي لهذا الاحتلال، ويمكن أن نلخص أهم ميّزات هذا الخطاب الرافض والمقاوم والمتفائل بما يلي:
نبّه هذا الخطاب الأمة الإسلامية “إلى وحدة أهداف الحروب الصليبية، سواء في الأندلس، وصقلية وبلاد الشام” (كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي) مما أكدّ لهذه الأمة أن هذه الحروب الصليبية تستهدف كل أبنائها أينما كانوا، ولا يوجد أي فرد منهم بمأمن من حقد هذه الحروب الصليبية وشرّها، وما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبه الاحتلال الإسرائيلي بالاحتلال الصليبي، وما أشد حاجة الأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني اليوم، أن يعلموا أن الاحتلال الإسرائيلي يستهدفهم جميعاً حتى لو كانوا في أقصى الأرض.
نبّه هذا الخطاب الأمة الإسلامية إلى “أن ضعف العالم الإسلامي، وتشرذمه، وتجزئته هو العامل الرئيسي وراء نجاح الغزو الصليبي في المشرق، أو المغرب الإسلاميين، وليس قوة الصليبيين أنفسهم” (كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي) ولذلك فالمطلوب من الأمة ألا تلوم إلا نفسها، وألا تلقي بتبعة هزائمها على عدوها فقط، ثم أن تغير ما بنفسها، حتى يغيّر الله تعالى ما بها، وعندها ما أسهل عليها أن تطرد الاحتلال الصليبي من أرضها، وكم نحن بحاجة لتوظيف هذه الرؤية الثاقبة الصادقة اليوم، ونحن نعاني والقدس والمسجد الأقصى يعانيان من الاحتلال الإسرائيلي.
نبّه هذا الخطاب أمراء المسلمين بأن الاحتلال الصليب “لم يكن هدفه الأرض والعقيدة فقط وإنما هدفه هو إزالتهم من سلطانهم، وإخراجهم من البلاد التي تحت أيديهم، وذلك بهدف إثارة حميتهم، وحثهم على الجهاد، وطلب من عامة الناس مساندة أمرائهم وقادتهم المجاهدين الذين يتبعون السلف الصالح لمواجهة تلك المحنة، وطرد الصليبيين” ( كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي) وإذا تُرك الامر للأمراء والقادة الفاسدين فستبقى أيدي الأمة مكبلة، وستبقى مهينة الجناح ومنبطحة للصليبيين، وهو ما ينطبق على واقع اليوم حيث بات الاحتلال الإسرائيلي يزداد تيها وتنفشا ما ظلت مجموعة من الحكام والقادة المفسدين مسلطة على رقاب الأمة المسلمة والعالم العربي والشعب الفلسطيني.
دعا الأمة الإسلامية “إلى تطهير النفوس وإصلاحها، فهي الأساس في وحدة إسلامية لعقد العزم، والإصرار على مجاهدة ذلك الغزو” (كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي) وكأن ذاك الخطاب كان يقول للأمة الإسلامية: “قدموا جهاد أنفسكم على جهاد أعدائكم، فإن النفوس أعدى لكم منهم، واردعوها عما هي عليه من عصيان خالقها سبحانه تظفرون بما تؤملونه من النصرة عليهم” (كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي) وإلا هل يقدر مهزوم النفس الانتصار على عدوه، وهل يقدر أسير الهوى والشهوة والدنيا والشيطان أن يضحي من أجل الحرية والكرامة، وما أشبه واقع ذاك الحال بواقع حالنا اليوم، ولذلك يبقى دواء ذاك الحال هو دواء واقع حالنا اليوم.
قام ذاك الخطاب على “رؤية إسلامية مبنية على إسناد متين، تمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكتب السيّر والمغازي، والتفاسير، وربط موضوعاتها بالخطر الصليبي على بلاد الشام” (كتاب صلاح الدين الأيوبي – د. علي الصلابي) وهكذا أعاد ذاك الخطاب الراشد الحر الرؤية الإسلامية وأحياها في نفوس وأذهان جماهير الأمة الإسلامية وأمرائها وقادتها، وهكذا تكوّن جيل التحرير ثم هكذا تحررت القدس والمسجد والأقصى، ولذلك لا يزال أعداء الأمة الإسلامية اليوم يصرون على إقصاء المشروع الإسلامي الراشد عن عقول الأمة الإسلامية ونفوسها وسلوكها ونظام حياتها وواقعها المأزوم، وبذلك يحاول هؤلاء الأعداء إطالة عمر الاحتلال الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى، ولذلك لا بد أن نقول: إن من يحارب منا المشروع الإسلامي الراشد اليوم، سواء كان مسلما أو عربيا أو فلسطينيا هو مسكين، وهو عدو نفسه من حيث لا يعلم، وهو عدو القدس والمسجد الأقصى من حيث لا يشعر، وسيظل يدور حول نفسه وهو يعاني حتى يتنبه.
لقد ساهم ذاك الخطاب الراشد الحر بالتمهيد لمرحلة الزنكيين والأيوبيين، أي أنه ساهم بالتمهيد لمرحلة عماد الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، أي أنه ساهم بالتمهيد لمرحلة توحيد الأمة الإسلامية وجمع كلمتها في الجزيرة والعراق والشام ومصر والمغرب العربي، وهكذا ساهم بصناعة معركة حطين وتحرير القدس والمسجد الأقصى من الصليبيين، وكل ذلك يعني أن ذاك الخطاب لم يكن مجرد قيل وقال، ولا مجرد شعارات باردة، ولا مجرد أمانيّ معسولة، ولا مجرد أحلام وردية، ولا مجرد جهد ضائع ذهب مع الريح، بل تراكم أثر ذاك الخطاب يوماً بعد يوم، حتى أعاد إنتاج الأمة الإسلامية من جديد على صعيد الراعي والرعية، وهو ما يدفعنا اليوم ألا نقلل من أهمية خطاب المشروع الإسلامي الراشد اليوم، وألا نستهين به، بل هو الكفيل مرة ثانية بإعادة إنتاج الأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني اليوم، ولتعلمن نبأه بعد حين.



