إحذروا الدنيا يا جيل التغيير
صحيفة المدينة
إلى جيل التغيير القادم قريبا، الذين لا أعرف أسماءهم ولا أسماء آبائهم ولا أنسابهم، والذين أعرف أوصافهم وأوصاف دورهم المرتقب كما كتبت عن ذلك في مقالة سابقة، إلى هذا الجيل الذين سيرضى عنهم أهل الأرض وأهل السماء أقول لهم ناصحا مع اعترافي سلفا أنهم خير مني وخير من جيلي المتعثر المفتون في الدنيا:
اعلموا أن الله تعالى قال لنا عن الدنيا (قل متاع الدنيا قليل) – النساء:77- فوصف الله تعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، ولذلك فإن الإنسان مهما أوتي منها فإنما أوتي من هذا القليل، وإذا تمتع الإنسان بهذا القليل ولم يعص الله تعالى فيه، فهو لهو ولعب، وفي ذلك يقول الله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة) – الحديد:20-. ولأنكم يا جيل التغيير مقبلون على دور راشد وخالص ستملؤون فيه الأرض قسطا وعدلا بعد أن مُلئت ظلما وجورا، فاحذروا أن تنافسوا الدنيا عندما ستقبل عليكم مرغمة، فما من قوم تنافسوا الدنيا إلا وأهلكتهم ولو عزموا في بداية سيرهم على نصرة المشروع الإسلامي. ولا يخفى عليكم يا جيل التغيير أن تنافس الدنيا ليس محصورا بالتنافس على دولارها وذهبها، فإن التنافس على الرئاسة من أجل الرئاسة هو من التنافس المهلك على الدنيا، وإن التنافس على المنصب من أجل المنصب هو من التنافس المهلك على الدنيا، وإن التنافس على الوظيفة من أجل الوظيفة، أو التنافس على الشهرة من أجل الشهرة، أو التنافس على السمعة من أجل السمعة أو التنافس على تصفيق الجماهير من أجل تصفيق الجماهير، أو التنافس على أضواء الإعلام من أجل أضواء الأعلام، إن كل هذه الأبواب من التنافس إنما هي من التنافس المهلك على الدنيا، فاحذروها، وليكن حالكم معها كما قال الفضيل رحمه الله تعالى: (لو كانت الدينا ذهباً يفنى، وكانت الآخرة خزفا يبقى، لوجب أن نختار خزفا يبقى، على ذهب يفنى، فكيف وقد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى).
تذكروا يا جيل التغيير يوم أن يفتح الله تعالى عليكم الدنيا لتخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الاستبداد إلى عدل الإسلام، تذكروا أنكم لو آتاكم الله تعالى من الدنيا مثل ما آتى نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، حيث آتاه جميع الدنيا، ثم زاده الله تعالى ما هو أعظم منها فقال له تعالى: (هذا عطاؤنا فأمنن أو أمسك بغير حساب) -ص: 39- فوالله ما عدًّها نبي الله سليمان نعمة، ولا رفعة منزلة، ولا سيادة قاهرة، ولا زعامة أبدية، ولا سلطانا خالدا، بل قال عند ذلك (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) -النمل: 40- فخاف ان يكون ذلك إستدراجا من حيث لا يعلم، وجزم أنه بلاء، وهكذا فالدنيا بلاء، والمنصب فيها بلاء ، والحياة فيها بلاء، والسمعة فيها بلاء، والشهرة فيها بلاء، والوظيفة فيها بلاء، والكراسي فيها بلاء، والسلطان فيها بلاء، فاحذروا أن تبيعوا دينكم بدنياكم، والويل ثم الويل إن بعتم دينكم بدنيا غيركم.
تدبروا يا جيل التغيير قول الله تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين(92) عما كانوا يعملون(93))-الحجر، وهذا يعني أنكم ما دمتم في الدنيا فلستم في رحلة عابرة تنقضي ولا شيء بعدها، ولستم في متاع ولهو وتفاخر وزينة ولا حساب بعدها: ولستم في قيل وقال وكثرة سؤال وإضاعة مال ثم موت لا حياة بعده، لستم كذلك لأن حياة كل الناس وأنتم منهم لا يحكمها الفوضى والعبث والانفلات، بل يحكمها قول الله تعالى: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)- الأنبياء: 47- فإذا كانت حبة الخردل لن تضيع عند الله تعالى سواء كانت في صخرة في الأرض أو في السماء، فاعلموا أن كل ما فيكم وكل ما يخرج منكم، وكل ما يقع عليكم محصي عليكم، وستحاسبون عليه، سواء كانت أنفاسكم أو أقوالكم أو أعمالكم أو نواياكم أو ما تخفي صدوركم أو ما تحفظ قلوبكم أو ما تحمل عقولكم، ولن يضيع منها شيء عند الله تعالى، فلا تحرصوا على التوفيق من الخلق بل احرصوا على التوفيق من الخالق، ولا تحرصوا على مرضاة الخلق بل احرصوا على مرضاة الخالق، لأن قلوب الخلق بيد الخالق، ولأن مفاتيح كل شيء بيد الخالق ، ولأن الخالق وحده هو الضارّ والنافع، وهو المعطي والمانع، وهو الخافض والرافع، فما لكم وللخلق وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)- رواه الترمذي والحاكم- وكم هو حريُّ بكم أن تلقوا سمعكم يوم أن قال جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا محمد إن الله يقول لك: (عش ما شئت، فأنك ميت، وأحبب من شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك مجزيّ به) – رواه الطبراني والحاكم-. فلا يخدعنكم في الدنيا طول عيش فيه، ولا لذة حب، ولا شهوة عمل، لأنكم كما دخلتم الدنيا ستخرجون منها، ثم ستحاسبون على برهة عيشكم وعلى لذة حبكم وعلى شهوة أعمالكم. ولذلك ما أعظم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه من ضمن حديث طويل (… فمن كان باكيا على الدنيا فليبك على نفسه).
يا جيل التغيير، إن المطلوب منكم ما دمتم في الدنيا أن تتقنوا في الأرض دور الخلافة التي توارثناها عن نبي الله آدم عليه السلام، وأن تمشوا في مناكب الأرض بسم الله تعالى، وأن تأكلوا من رزق الله تعالى فيها بسم الله تعالى، وأن ترفعوا راية التوحيد في ربوع العالمين، وأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، وأن توقروا الكبير، وترحموا الصغير، وتصلوا الرحم، وتحسنوا الجوار، وتغيثوا الملهوف، وتنصروا المظلوم، وتردعوا الظالم، وتعينوا على نوائب الدهر، وان تظلوا على استعداد دائم للقاء الله تعالى، فأنتم مع جليل أعمالكم ومع طيب أقوالكم ومع بركة آثاركم لستم خلودا في الدنيا، بل أنتم فيها غرباء عابرون، ولتسمعوا إلى هذا الوصف الحق لحالكم ممن لا ينطق عن الهوى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنه: (يا عبداالله، كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، واعدد نفسك في الموتى)- رواه البخاري-. ولعلكم يا جيل التغيير سترون من الدنيا ما يفتن القلوب، ولعلكم ستتقلدون من المناصب ما يبهر العقول، ولعلكم ستؤتمنون على خزائن الأرض، فاليقظة اليقظة، واحذروا الغفلة والكبر والغرور والشح والطمع وقسوة القلب وفساد العمل وسوء الطويّة، ولتقفوا عند مشهد هذا الحوار يوم أن دخل يزيد الرقاشي على الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال له عمر: (عظني يا يزيد، قال: يا أمير المؤمنين، إعلم أنك لست أول خليفة يموت، فبكى عمر وقال زدني يا يزيد، قال: يا أمير المؤمنين، ليس بينك وبين آدم إلا أب ميت، فبكى وقال: زدني يا يزيد، قال: يا أمير المؤمنين، ليس بين الجنة والنار منزل، فسقط عمر مغشيا عليه. فاحذروا ذهاب المناصب، وانقضاء خزائن الأرض، وبقاء تبعاتها، وانقلابها حسرات.
يا جيل التغيير إن مهماتكم في الدنيا ثقيلة، وكم أنتم بمسيس الحاجة للتزود بالتقوى، ثم للتزود بالفهم والإخلاص والعمل والتضحية والثبات، عساكم أن تتقنوا القيام بكل مهماتكم دون أن تصرفكم الدنيا عنها، ولذلك اعلموا أن (الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، من صحَّ فيها سقم، ومن سلم فيها هرم، ومن افتقر فيها حزن، ومن إستغنى فيها فٌتن، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من سعى لها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر فيها بصرته، لا خيرها يدوم ، ولا شرها يبقى، ولا فيها لمخلوق بقاء).



